مراكز غزّة الثقافيّة ومكتباتها... هدفٌ دائم لإسرائيل

«مكتبة سمير منصور» في غزّة بعد قصف سلاح الجوّ الإسرائيلي، 2021 | أ ف ب

 

تعمّدت إسرائيل خلال عدوانها الأخير على غزّة في أيّار (مايو) 2021، قصف بناء يتضمّن العديد من المكتبات والمساحات الثقافيّة، متّخذة بذلك خطى الغزاة الّذين لطالما يخشون من ثقافة وعلم الشعوب الّتي يحتلّونها. هذه ليست المرّة الأولى الّتي تدمّر إسرائيل صروحًا ثقافيّة في غزّة، ففي عام 2018 استهدفت مبنى «مسرح المسحال»، هذا المبنى الّذي لم يكن مجرّد مسرح، بل كان في الحقيقة متنفّس غزّة الثقافيّ الأبرز، وتحديدًا جيل الشباب؛ حيث أُقيمَتْ فيه على مدى سنوات فعاليّات ثقافيّة؛ أمسيات أدبيّة، وإطلاق إصدارات، ومسرحيّات، ومحاولات للتواصل مع العالم الثقافيّ خارج غزّة، ودون ذلك.

 كريم أبو الروس

 

في الحرب الأخيرة، وبحسب «الجزيرة»، استهدفت إسرائيل مكتبات سمير منصور: «اقرأ»، و«الرؤية»، و«النهضة»، وكذلك عدد آخر من المراكز الثقافيّة، وهي: «منتدى الأمّة للتنمية»، و«مراكز المواهب الفلسطينيّة»، و«بسمة للثقافة والفنون»، و«نفحة»، بالإضافة إلى تدمير عدد كبير من الأماكن المختصّة في العلوم والأبحاث والتدريب وغيرها.

 

إستراتيجيّة ممنهجة

يقول الباحث كريم أبو الروس من غزّة في هذا الصدد: "تعمّدت إسرائيل منذ فرض حصارها على غزّة إماتة المشهد الثقافيّ في القطاع، حيث لم تكتفِ بمنع سفر المثقّفين والكتّاب والشعراء للمشاركة في المعارض الدوليّة والمؤتمرات، بل قصفت ودمّرت مجموعة أساسيّة ومهمّة من المباني الثقافيّة والمؤسّسات، الّتي كانت تشكّل في معظمها المشهد الثقافيّ في غزّة، وقبلها دمّرت ‘مؤسّسة عبد الله الحوراني للدراسات‘، ومجموعة من المكتبات التجاريّة لبيع الكتب والمخطوطات الثقافيّة والعلميّة. هذه الإستراتيجيّة الممنهجة الّتي تتّبعها إسرائيل في قتل الصوت الثقافيّ في غزّة ليست مجرّد سياسة عابرة، بل ضربت في العمق المتنفّس الأخير للشباب الفلسطينيّين في القطاع، الّذين كانوا يرتادون هذه الأماكن، إمّا للمشاركة الثقافيّة وإمّا للحضور والمشاهدة وقضاء بعض الوقت بعيدًا عن صخب المدينة وعتمتها".

 

محمود الشاعر

 

أمّا محمود الشاعر صاحب جاليري و«مجلّة 28» في رفح، فيقول: "وُلدنا وترعرعنا كجيل كامل في الحيّز الثقافيّ في غزّة، في ‘مسرح المسحال‘ بالذات، هناك انكشفنا على كلّ ما يتعلّق بالثقافة والفنون والمسرح، كان فعليًّا كما أجمع جميع الشباب في غزّة على أنّه كان المتنفّس الأخير لهم. بعد هدم ‘المسحال‘ في 2018 صرنا نشعر بنوع من الخواء الثقافيّ، لم تتبقَّ لنا سوى صالات الأفراح لإقامة الندوات والأمسيات، وبعض الكافيهات الّتي باتت تستقبل المثقّفين وعُرِفَتْ كوجهةٍ لهم، ولكن لم يكن يومًا هذا الحيّز كافيًا من أجل القيام بالفعاليّات الثقافيّة كما يجب. منذ سبعة أشهر افتتحت ‘جاليري 28‘ في رفح، وأنا مندهش في الحقيقة من كمّيّة الناس الّتي تأتي بشكل يوميّ إلى الجاليري، ومن نوعيّة الحديث المتداولة في ما بين الناس هنا، الجميع يشعر بأنّنا نفتقد فكرة المكان الثقافيّ، الّذي يمكننا فيه النقاش بحرّيّة، وطرح جميع المواضيع على الطاولة".

ويضيف الشاعر حول استهداف إسرائيل للأماكن الثقافيّة والمكتبات خلال العدوان الأخير: "ليست المرّة الأولى الّتي تستهدف إسرائيل الأماكن الثقافيّة في غزّة، هذه المرّة قصفت برجًا كاملًا يحوي العديد من المكتبات، الهدف واضح، سياسة تجهيل للناس، تريدهم أن يتلهّوا فقط بالحاجيات اليوميّة الضروريّة، كالطعام والمسكن واللباس، وكلّ ما هو دون ذلك يجب إلغاؤه من حيّز غزّة، إسرائيل مارست وتمارس حصارًا على الناس هنا، أصعب من الحصار المادّيّ".

 

شعبان سليم، مالك مكتبة «اقرأ» المقصوفة في غزّة

 

يدمّرون في غزّة، نبني في الشيخ جرّاح

أمّا شعبان سليم صاحب مكتبة «اقرأ»، الّتي كانت من ضمن المكتبات الّتي قُصِفَت في العدوان الأخير، فيقول: "واجهت العديد من الصعوبات في افتتاح المكتبة في الأساس بسبب الحصار المفروض على القطاع، هذه الخطوة كانت أشبه بمجازفة حقيقيّة، وخاصّة أنّي تركت عملي في مكتبة مجاورة، وجازفت بافتتاح مشروعي الخاصّ، لم أتوقّع قطّ أن تكون المكتبة ضمن بنك الأهداف، خاصّة أنّنا في بناء يمرّر ورشات ودورات تعليميّة للأطفال. هذا الاستهداف تأكيد مرّة أخرى أنّ إسرائيل تستهدف ضرب الوعي والثقافة في قطاع غزّة".

ومن ناحية أخرى في حيّ الشيخ جرّاح المحاصر، وبعد قصف المكتبات في قطاع غزّة، انطلقت مبادرة من أجل دعم المكتبات الّتي قُصِفَت والتضامن معها؛ إذ بادر الشابّ حمزة قرش، صاحب عدد من المكتبات في القدس بإنشاء مكتبة تحت اسم «سمير منصور»، وهي واحدة من المكتبات الّتي قُصِفَت في العدوان الأخير، في تأكيد وحدة الشعب باختلاف أماكن وجوده.

 

المكتبة المفتتحة في حيّ الشيخ جرّاح على اسم سمير منصور

 

يقول حمزة في هذا الشأن: "جاءت الفكرة من أجل دعم القضيّة بشكل عامّ، الكتب الموجودة في الحيّ تتحدّث عن القضيّة، وعن فلسطين، وعن التاريخ والحقيقة الّتي لا يعرفها الناس"، ويضيف: "تواصلت مع أصحاب المكتبة في غزّة، وتبيّن لي لاحقًا أنّ المكتبة تُعيل 15 عائلة. حاولت من خلال اسم المكتبة دعمهم نفسيًّا ومعنويًّا، بأنّنا معهم ونشعر بما يمرّون به، وفضلًا على ذلك، بعد إقامة المكتبة حصلت على دعم من خارج البلاد، من مصر وألمانيا وغيرهما، بكتبٍ أرسلوها دعمًا للقضيّة. من الجدير بالذكر أنّ هذه المكتبة ستكون دائمة، وهي مكتبة للإعارة، من أجل القدس وغزّة وفلسطين، وليست مكتبة ربحيّة أبدًا".

 


ميساء منصور

 

 

 

كاتبة ومدرّسة للّغة عربيّة، تكتب في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.