30/06/2021 - 15:00

الهبّة... عودة الفنّان إلى شارعه

الهبّة... عودة الفنّان إلى شارعه

من فعاليّات «إضراب الأمل والكرامة» (18 أيّار)، الناصرة

 

خلال الهبّة الفلسطينيّة الأخيرة، الّتي يُطْلِق عليها كثيرون اسم «هبّة القدس» (2021)، والّتي انطلقت أحداثها من باب العامود والشيخ جرّاح في العاصمة، فالمواجهات في المسجد الأقصى، فالحرب الشعواء على غزّة، لم تولد صحوة سياسيّة فقط، بل صحوة فنّيّة شعبيّة أيضًا.

من مميّزات احتجاجات هذه الهبّة وفعاليّاتها الرفضويّة، أنّها لم تقتصر على الناشطين السياسيّين والأحزاب، بل العكس هو الصحيح؛ الأحزاب بالكاد كانت موجودة، وهذا مؤشّر على تراجع مكانتها خلال السنوات الأخيرة، من حيث قدرتها على قيادة الشارع في أوقات انتفاضه وتنظيمه. ومن مميّزاتها أيضًا، أنّها شهدت، وعلى نحو نادر، قرارات تخرج من أراضي 48 لتتعمّم وتشمل كلّ أماكن الوجود الفلسطينيّ، في القدس، والضفّة الغربيّة، وقطاع غزّة، والشتات؛ فقد التزم الفلسطينيّون جميعًا بـ «إضراب الأمل والكرامة» (18 أيّار)، الّذي أعلنته «لجنة المتابعة» في أراضي 48. كما جاء في إطار الإضراب واستكمالًا له «أسبوع الاقتصاد الوطنيّ» (06-12 حزيران)، وهو مبادرة شبابيّة انطلقت من أراضي 48 أيضًا. إذن فقد أعادت الهبّة القضيّة الفلسطينيّة إلى أراضي 48 بقوّة، إلى خطّ المواجهة الأوّل.

 

فنون تقاوم وبلاد تتنفاس

في هذه الهبّة، برز للفنون دور مهمّ وحيويّ في فعل الاحتجاج والمقاومة؛ يظهر ذلك في أنشطة «أسبوع الاقتصاد الوطنيّ» مثلًا، وكذلك في المبادرة إلى تنظيم «أسبوع الثقافة الفلسطينيّ الموحّد»، في الأسبوع الأوّل من تمّوز (يوليو) القادم؛ حيث سيشمل عشرات الأحداث الثقافيّة والفنّيّة المعلن عنها حتّى الآن.

حيفا كانت الطلائعيّة في تنظيم التظاهرات الفنّيّة، لتنتقل العدوى سريعًا إلى مختلف مدن فلسطين التاريخيّة وقراها؛ ففي رام الله وبير زيت تنظّمت التظاهرات الفنّيّة والبازارات الشعبيّة في الشوارع والأزقّة والساحات، وكذلك نابلس، وجنين، والخليل، وشفاعمرو، وباقة الغربيّة، وأمّ الفحم، وكوكب أبو الهيجا، وقرية صفّورية المهجّرة، والناصرة، وغيرها. مصطلح «بازار شعبيّ» أخذ بعدًا آخر، ولم يكتفِ بعرض منتوجات غذائيّة وإكسسوارات وصناعات يدويّة، بل قدّم الفنون مع الخبز والزيتون.

لقد أصبحت شوارعنا وحاراتنا وساحاتنا وأحياؤنا في ضوء الهبّة مساحةً للفنون والمعرفة، من غناء وعزف وسرد ومسرح وورشات عمل ومحاضرات وتطريز وزراعة ورسم وأنشطة للأطفال وجام، وغيرها من أشكال إبداعيّة متاحة للجميع وبالمجّان، والّتي تؤكّد على معاني الرفض والمقاومة والوحدة واستعادة الحيّز العامّ.

 

عكّا مثلًا

زرنا مدينة عكّا عشيّة «أسبوع الاقتصاد الوطنيّ»، حيث نظّمت مجموعة «عكّا 5000» الشبابيّة برنامجًا فنّيًّا احتجاجيًّا رائعًا، تحت عنوان «عكّا على راسي»، توزّعت فعاليّاته على مجموعة من مساحات المدينة، وهي الّتي أنجبت على مدار تاريخها عشرات المبدعين الفلسطينيّين، والّتي تعاني الأمرّين بسبب سياسات الفصل العنصريّ، والتهويد عبر الاستيلاء على منازل السكّان الأصليّين وعقاراتهم، والبطالة، والإفقار، وإفشاء الجريمة، وغيرها.

لقد أصبحت شوارعنا وحاراتنا وساحاتنا وأحياؤنا في ضوء الهبّة مساحةً للفنون والمعرفة، من غناء وعزف وسرد ومسرح وورشات عمل ومحاضرات وتطريز وزراعة ورسم وأنشطة للأطفال وجام...

فنّانون من مدينة عكّا، وآخرون من مختلف القرى والمدن، تطوّعوا ليقدّموا عروضًا فنّيّة وأنشطة إبداعيّة وثقافيّة، تجنّدوا من مختلف المدن والقرى الفلسطينيّة؛ ليسهموا في دعم عكّا وأهلها وحمايتهم. تزيّنت الشوراع، ليس فقط بالبالونات والأشرطة المضيئة، بل بالعروض والأنشطة الثقافيّة، منها الشعبيّة كالدبكة، والفلكلوريّة كالحكواتي، وأيضًا بالموسيقى العصريّة كموسيقى الراب، وغيرها.

في حديث لفُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مع أشرف عامر، أحد منظّمي البرنامج، قال: "نحن جزء حيّ من الشعب الفلسطينيّ. ما تعرّضنا له في مدينة عكّا على يد عصابات المستوطنين، والهجمة الشرسة علينا، بصفتنا عربًا، جعل الناس يخرجون إلى الشوارع ليدافعوا عن حاراتهم ومنازلهم. لقد أردنا بهذه التظاهرة أن نستقطب السكّان العرب من حارات عكّا المختلفة؛ لكي يزوروا البلدة القديمة الّتي قوطعت إسرائيليًّا، تلبيةً لنداء مجموعات من اليمين دعت إلى فرض الحرمان على أسواقنا ومصالحنا التجاريّة، السوق مات، وتضرّر أصحاب المحلّات التجاريّة ضررًا كبيرًا. أردنا أن نستقطب أيضًا أهلنا من مختلف المدن والقرى في أراضي 48، ليأتوا لزيارة عكّا. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أردنا أن يرى العالم أنّنا، نحن الشعب الفلسطينيّ، لدينا ثقافة وحضارة وفنّ، ولسنا إرهابيّين ومجتمعًا عنيفًا كما يدّعون".

 

فنّ للناس

الفنّ الملتزم ليس بجديد على الفلسطينيّين؛ فمنذ عام 1948 وُجِدَ العديد من المبدعين، مغنّين، أو رسّامين، أو مسرحيّين، أو كتّابًا، أو مخرجين يقدّمون هذا النوع من الفنّ، ورغم ذلك فإنّه في كثير من الأحيان كان مقتصرًا على شرائح مجتمعيّة معيّنة، مثل المثقّفين والناشطين السياسيّين، وكذلك مَنْ يمكن وصفهم بذوّاقي الفنّ والمهتمّين به، ومَنْ استطاع إليه سبيلًا من ذوي الإمكانيّات المادّيّة؛ هؤلاء لطالما كانوا روّاده ومستهلكيه الأساسيّين، ربّما لأنّ الفنّ لم تكن مناليّته سهلة كما هي الحال اليوم؛ فهو لم يكن في متناول الفلّاح، وعامل البناء أو المصنع، أو المزارع، أو ربّة المنزل، أو الأطفال. في هذه الهبّة، خرج الفنّ إلى الناس على نحو لافت، إلى الشوارع والأزقّة والساحات وفي الحارات، لم يعتكف في برج عاجيّ، في قاعات مغلقة ومكيّفة، صار في متناول يد الجميع، وقد عاد الفنّان وفنّه إلى موقعه الأصل: الشارع.

الفعاليّات الفنّيّة والمعرفيّة تميّزت بتعدّديّة في الأنواع والأشكال، ما أرضى مختلف الأذواق والأجيال، وهو ما سمح بمشاركة مخلف شرائح المجتمع وتفاعلهم، على تنوّعهم ثقافيًّا وطبقيًّا وسياسيًّا. هذا النمط أخرج شرائح جديدة إلى الشارع لم نرها من قبل تشارك في الفعل السياسيّ أو الفنّيّ.

 

  برنامج فنّيّ احتجاجيّ في عكّا في سياق الهبّة

 

نساء، شباب، مسنّون

كانت مشاركة الفنّانات والمبدعات في فعاليّات الهبّة واحتجاجاتها غير مسبوقة؛ رأينا عازفات ومغنّيات وحكواتيّات ومحاضرات وناشطات ينظّمن البازرات والتظاهرات والاحتجاجات الفنّيّة. لطالما كان للمرأة الفلسطينيّة دور في حركة التحرّر، لكن ربّما هي المرّة الأولى الّتي كان فيها «الاتّهام» المحافظ لحضور المرأة هامشيًّا، لأسباب تتعلّق بجسدها أو لباسها. في السابق مثلًا، كنّا نرى موجات عالية من التنمّر الشرس على النساء الفنّانات والمبدعات، كون ما يفعلنه لا يخرج عن شروط المجتمع المحافظ. هذه المرّة، فرض حضور النساء الطاغي تعدّديّتهنّ وأساليبهنّ المختلفة.

من الجدير ذكره، أنّ الاحتجاجات الفنّيّة لم تقتصر على الفنّانين والمبدعين المعروفين؛ فقد شارك مثلًا عازفون من الجيل الذهبيّ في العزف والغناء؛ ليس فقط رجال، بل نساء أتحفن الحضور بصوتهنّ الرخيم، وبأدائهنّ للأهازيج الفلسطينيّة التراثيّة. من اللافت والمثير للإعجاب أنّ الجيل الأوّل للنكبة شارك في فعاليّات الهبّة، منها الفنّيّة، مغنّين وعازفين، وليس فقط جسديًّا.

ثمّ إنّ تنظيم النشاطات من قِبَل جيل الشباب المفعم بالحماسة والعطاء، أعاد إلى الشارع نبضه وحماسته، وأمله وإيمانه بأنّه وحده القادر على تحقيق مصيره، وأعاد إلى الجيل الأوّل للنكبة الأمل والحماسة، وكأنّ مقولة عودة الشيخ إلى صباه دقيقة في هذه الحالة.

ما تعلّمناه في الهبّة أنّنا نستطيع، وحدتنا قوّة، لسنا في حاجة إلى أن ننتظر الأحزاب السياسيّة والنخب من أجل إعلان مظاهرة أو نشاط، لدينا جيل شابّ مفعم بالعطاء والأمل والقدرات والوعي السياسيّ.

ما تعلّمناه في الهبّة أنّنا نستطيع، وحدتنا قوّة، لسنا في حاجة إلى أن ننتظر الأحزاب السياسيّة والنخب من أجل إعلان مظاهرة أو نشاط، لدينا جيل شابّ مفعم بالعطاء والأمل والقدرات والوعي السياسيّ...

 

لقد فهم هذا الجيل منصّات التواصل الاجتماعيّ وتأثيرها في الشارع محلّيًّا وعالميًّا، جيل تربّى في الأحياء الشعبيّة، عاش الواقع والحيّ والزقاق. بإمكان هذا الجيل أن يُخْرِجَ الناس إلى الشوارع، ويعيد إلى الأحياء الشعبيّة مكانتها وعنفوانها وأصالتها، بإمكانه استقطاب الفنّ وتفعيله وتوظيفه بالشكل الصحيح.

«الفنّ يحاكي الواقع»، جملة رنّانة نسمعها طوال الوقت، لكن هذه المرّة نستطيع أن نضيف إليها «الفنّ يحاكي الواقع، يتفاعل معه ويعيشه ويحييه».

 


سهى عرّاف

 

 

كاتبة ومخرجة وصحافيّة فلسطينيّة. كتبت سيناريو وأخرجت عددًا من الأفلام، من ضمنها "نساء حماس" و"فيلا توما"، وقد حصلت على عدّة جوائز عربيّة وعالميّة، أبرزها جائزة أفضل مخرجة امرأة في "مهرجان المرأة الدوليّ للسينما والتلفزيون - لوس أنجلوس" لعام 2014.

 

 

نروي الهبّة: من الشيخ جرّاح إلى غزّة | ملفّ

نروي الهبّة: من الشيخ جرّاح إلى غزّة | ملفّ

12/08/2021
«إِنْ أَنْ قَدْ آنَ أَوانُه»... فنّ يفضح

«إِنْ أَنْ قَدْ آنَ أَوانُه»... فنّ يفضح

04/06/2021
محمّد الكرد... شاعر من القدس يكتب عن رِفْقَة | حوار

محمّد الكرد... شاعر من القدس يكتب عن رِفْقَة | حوار

28/06/2021
جدليّة شَبابْنا مْلاح وْبَناتْ بِتْأَرْجِلْ

جدليّة شَبابْنا مْلاح وْبَناتْ بِتْأَرْجِلْ

04/08/2021
في مديح الْجَدْعَنَة

في مديح الْجَدْعَنَة

03/07/2021
«جمل المحامل»... يعود شابًّا وملثّمًا في غزّة

«جمل المحامل»... يعود شابًّا وملثّمًا في غزّة

27/05/2021
خوارزميّات الموت والاضطهاد: الحزن، التفاعل التشاركيّ، البعثرة الخورازميّة في السوشال ميديا

خوارزميّات الموت والاضطهاد: الحزن، التفاعل التشاركيّ، البعثرة الخورازميّة في السوشال ميديا

16/05/2021
في الجَناح يا عمّي: معجم المواجهة والاشتباك

في الجَناح يا عمّي: معجم المواجهة والاشتباك

14/06/2021
هبّة من أجل القدس: ثقافة الرفض وأفعال المقاومة

هبّة من أجل القدس: ثقافة الرفض وأفعال المقاومة

30/05/2021
ابن العنف: سارتر والاستعمار وفلسطين

ابن العنف: سارتر والاستعمار وفلسطين

07/06/2021
مستشفيات إسرائيل... احتفاء واهم بالتعايش

مستشفيات إسرائيل... احتفاء واهم بالتعايش

04/07/2021
مغترب أمام حدث وطنيّ اسمه «الهبّة»

مغترب أمام حدث وطنيّ اسمه «الهبّة»

24/06/2021
 قواعد الاشتباك الأربعون

 قواعد الاشتباك الأربعون

25/05/2021
"هبّة القدس"... ثوريّة البذاءة

"هبّة القدس"... ثوريّة البذاءة

26/07/2021
نروي الحكاية، نستعيد الجبل

نروي الحكاية، نستعيد الجبل

27/06/2021
مستحيلات المكان وأعجوبة السمكة

مستحيلات المكان وأعجوبة السمكة

02/06/2021
هستيريا جماعيّة: انفجار نظريّة العرق في وجه أصحابها

هستيريا جماعيّة: انفجار نظريّة العرق في وجه أصحابها

14/05/2021
معركة «سيف القدس»: صحف أوروبّا وأمريكا تنحاز لسرديّة إسرائيل

معركة «سيف القدس»: صحف أوروبّا وأمريكا تنحاز لسرديّة إسرائيل

19/05/2021
للحارات شباب يحميها | شهادة

للحارات شباب يحميها | شهادة

27/05/2021
"أسبوع الاقتصاد الوطنيّ"... تنظيم الذات الفلسطينيّة

"أسبوع الاقتصاد الوطنيّ"... تنظيم الذات الفلسطينيّة

25/06/2021
حيفا إلنا: ما بين الحارة، والمحطّة، والمحكمة | شهادة

حيفا إلنا: ما بين الحارة، والمحطّة، والمحكمة | شهادة

25/05/2021
مظاهرة هارتفورد: الهتافات، والشرطة، واللغات

مظاهرة هارتفورد: الهتافات، والشرطة، واللغات

21/05/2021
لنضع ذكرياتنا في الحقيبة... جاءت الحرب | شهادة

لنضع ذكرياتنا في الحقيبة... جاءت الحرب | شهادة

29/05/2021
التضامن مع سلوان... وجهة نظر معلّمة

التضامن مع سلوان... وجهة نظر معلّمة

26/07/2021
الصراع في ضوء الهبّة: الرواية والزمن والتدويل

الصراع في ضوء الهبّة: الرواية والزمن والتدويل

01/06/2021
الجسد حين يقاوم: تأمّلات في سياسات الموت والحياة

الجسد حين يقاوم: تأمّلات في سياسات الموت والحياة

18/05/2021
الاحتلال متقدّم في قياس حالة الطقس!

الاحتلال متقدّم في قياس حالة الطقس!

19/06/2021
الصور الّتي لن تفارقنا

الصور الّتي لن تفارقنا

21/05/2021
لأنّ حياة الفلسطينيّين أيضًا مهمّة

لأنّ حياة الفلسطينيّين أيضًا مهمّة

05/07/2021
واجبنا أن نغضب | ترجمة

واجبنا أن نغضب | ترجمة

22/05/2021
جغرافيا من مسنّنات

جغرافيا من مسنّنات

13/08/2021
عنوان المعركة: وعي جديد يفكّك وعيًا مريضًا

عنوان المعركة: وعي جديد يفكّك وعيًا مريضًا

18/05/2021
مراكز غزّة الثقافيّة ومكتباتها... هدفٌ دائم لإسرائيل

مراكز غزّة الثقافيّة ومكتباتها... هدفٌ دائم لإسرائيل

21/06/2021
«أجمل ما فينا»... قيم الهبّة ومعانيها

«أجمل ما فينا»... قيم الهبّة ومعانيها

21/06/2021

التعليقات