04/07/2021 - 13:05

مستشفيات إسرائيل... احتفاء واهم بالتعايش

مستشفيات إسرائيل... احتفاء واهم بالتعايش

وقفة تحت عنوان «أخوّة عربيّة يهوديّة» | مستشفى «رَمْبام»

 

في الأسابيع القليلة الماضية، وصلتني رسائل عديدة من زملاء فلسطينيّين، يعملون مثلي أطبّاء في المشافي الإسرائيليّة، يشاركونني فيها تخبّطهم إزاء معضلة ملحّة؛ هل يشاركون في الإضراب الوطنيّ الّذي أعلنته «لجنة المتابعة العليا للجماهير العربيّة» في إسرائيل، في 18 أيّار (مايو) 2021، احتجاجًا على الحرب الّتي تشنّها إسرائيل على غزّة، والانتهاكات الإسرائيليّة للمسجد الأقصى، ومحاولات التطهير العرقيّ الجارية في القدس المحتلّة، والّتي كان أبرزها الضغط من أجل تهجير عائلات فلسطينيّة من منازلها في حيّ الشيخ جرّاح؟ إذ يعي هؤلاء الأطبّاء جيّدًا، أنّ عيون زملائهم وأرباب عملهم الإسرائيليّين تتربّص بهم، منتظرةً صدور أيّ «خطأ» عنهم، بعدما شيّأتهم ضمنيًّا في خانة الموظّفين المدجّنين الدائمي الحذر، و«غير المسيّسين». وثبت أنّ مخاوفهم هذه لم تأتِ من فراغ؛ إذ أصدر بعض مديري المشافي الإسرائيليّة، تصريحات حذّروا فيها موظّفيهم من مغبّة المشاركة في الإضراب وعواقبها.

 

شعارات لإراحة الضمائر

لم يتوقّف الأمر على مداومة الأطبّاء الفلسطينيّين في المشافي الإسرائيليّة برغم الإضراب فحسب، بل اضطرّوا أيضًا إلى المشاركة في المشاهد الشبه الكرنفاليّة، الّتي تتكرّر كلّما شنّت إسرائيل حربًا على قطاع غزّة المحاصر، الّتي عادة ما تأتي على شكل صور وفيديوهات لأفراد طواقم طبّيّة فلسطينيّين ويهودًا إسرائيليّين، يحملون لافتات كُتِبَت عليها عبارات، مثل: "نختار الحياة"، أو "السلام"، أو "العرب واليهود يرفضون أن يكونوا أعداء". وعلى هذا النحو، يُحْتَفى بهذه المشافي والمؤسّسات الطبّيّة الإسرائيليّة، باعتبارها منارات للتعايش، أو جزرًا للرزانة السياسيّة.

ورغم أنّ هذه الشعارات تُعَدّ ساذجة أو حالمة كأقصى حدّ، إلّا أنّها في حقيقة الأمر مضلّلة أيضًا؛ فهي تفرض خطابًا يرى بالفلسطينيّين الّذين يقاومون تطهيرهم عرقيًّا، مريدي حرب رافضين للتعايش...

ورغم أنّ هذه الشعارات تُعَدّ ساذجة أو حالمة كأقصى حدّ، إلّا أنّها في حقيقة الأمر مضلّلة أيضًا؛ فهي تفرض خطابًا يرى بالفلسطينيّين الّذين يقاومون تطهيرهم عرقيًّا، مريدي حرب رافضين للتعايش. بل أكثر من ذلك، تفترض هذه الشعارات أيضًا أنّ المستوطنين المسلّحين، وقوى الأمن الإسرائيليّة الّتي تحميهم، هم أيضًا اختاروا الحرب بعكس الأطبّاء الإسرائيليّين «السلميّين» الّذين دائمًا ما يختارون السلام. وبهذا، يساوي أيضًا هذا الخطاب بين الفلسطينيّين الّذين حَمَوْا شوارعهم ومنازلهم في اللدّ وحيفا، مع قطعان الغاضبين من اليهود العنصريّين الّذين ساروا في الشوارع يهتفون «الموت للعرب»، وكأنّ كلا الطرفين متساويين في التطرّف. كما أنّه يعطي انطباعًا بأنّ الوضع القائم الّذي ساد قبل الأحداث الأخيرة، كان عادلًا متوافقًا.

يصوّر هذا الشكل من الاحتفاء بـ «التعايش» الّذي يضخّمه الإعلامان الإسرائيليّ والعالميّ، المشافي الإسرائيليّة، على أنّها مساحات محايدة وغير مسيّسة، بدل عرض الحقيقة كاملة، ألا وهي أنّ هذه المساحات عبارة عن حيّز متجانس يؤمن بمبادئ الصهيونيّة ويمارسها. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك، أنّه في حين تُسْهِم مثل هذه الاستعراضات في إراحة ضمائر الأطبّاء اليهود الإسرائيليّين، بوصفها أفعالًا تترفّع عن السياسة، إلّا أنّها تبقى مسيّسة للغاية، وتنتقص من الطواقم الطبّيّة الفلسطينيّة داخل المشافي الإسرائيليّة.

 

الاعتياد على الهياكل العنصريّة ومقاومتها

يتمتّع الفلسطينيّون مواطنو إسرائيل، بتمثيل عالٍ بين القوى العاملة في مجال الرعاية الصحّيّة؛ إذ تُعَدّ هذه المهن من بين المهن القليلة الّتي توفّر أمانًا وظيفيًّا للفلسطينيّين من حملة الجنسيّات الإسرائيليّة. أذكر أنّني عندما كنت لا أزال يافعًا في بلدتي ترشيحا في الجليل الأعلى، كان مفهومًا ضمنًا بالنسبة إليّ أنّني سأواجه صعوبات جمّة، خلال انخراطي في سوق عمل عنصريّ، في حال لم أعثر على وظيفة مضمونة في قطاع الرعاية الصحّيّة الإسرائيليّ.

اليوم، تبلغ نسبة الأطبّاء والممرّضين الفلسطينيّين في المشافي والمؤسّسات الصحّيّة الإسرائيليّة، 21% و23% على التوالي. لكنّ هذا لا يعني أنّ أماكن العمل حصينة أمام العنصريّة البنيويّة والمؤسّسيّة، سواء تلك الّتي تمارسها الدولة أو المجتمع الإسرائيليّ.

أن تكون فلسطينيًّا يدرس الطبّ، ويعمل في المشافي الإسرائيليّة، يعني أن تخوض رحلة تتعلّم فيها أن تتقبّل الهياكل العنصريّة شيئًا فشيئًا، حتّى تُصْبِح حقائق مُطْلَقَة، بدءًا من الدراسة في جامعة شُيِّدَت على أرض مسروقة دون اعتراف بسرقتها، ومرورًا بالتوقّع الضمنيّ منك كطالب جامعيّ أن تقف في احتفال تخريجك احترامًا للنشيد الوطنيّ الإسرائيليّ، الّذي يستثنيك بحكم طبيعته، ووصولًا إلى الاضطرار إلى الوقوف سنويًّا دقيقة حزن على قتلى الجيش الإسرائيليّ، منذ النكبة الّتي حارب فيها هؤلاء من أجل قتل شعبك وتهجيره. وليس ذلك سوى غيض من فيض التجارب المؤلمة، الّتي يضطرّ طالب الدراسات العليا الفلسطينيّ إلى مجابهتها في الجامعات الإسرائيليّة.

ورغم كلّ ذلك، شأننا شأن سود أميركيّين، وأصلانيّين جنوب أفريقيّين، وأبناء وبنات لمجتمعات مضطهدة أخرى، نتعلّم كأفراد طرق التكيّف والتحايل على المنظومة، من أجل نجاحنا. ولكن ذلك لا يعني بأيّ شكل من الأشكال أنّنا نحقّق أيّ تقدّم، فجلّ ما نفعله جزء ضروريّ ينبع من طبيعتنا الإنسانيّة الّتي تكافح من أجل البقاء.

 

احتفاء غير نقديّ

لا بدّ من أن يتوقّف هذا الاحتفاء غير النقديّ بـ «رزانة» المشافي الإسرائيليّة، الّذي لا يستند في تحليله لها إلّا إلى حقيقة عمل فلسطينيّين وإسرائيليّين، جنبًا إلى جنب فيها؛ فالفلسطينيّون يعملون مع الإسرائيليّين أيضًا في مصانع مستوطنات الضفّة الغربيّة المحتلّة، وبعضهم يدرسون معًا في جامعة المستوطنة غير القانونيّة، «آريئيل»، بل يتعاون جزء آخر منهم مع أعدائه داخل الجيش الإسرائيليّ أيضًا. إنّ عمل الفلسطينيّين والإسرائيليّين في أماكن العمل ذاتها لا يحوّلها إلى منارات للأمل.

هناك نماذج بقاء أخرى للمجتمعات الأصلانيّة والمهمّشة؛ فهنا أجبر باحثون وناشطون وأطبّاء شجعان الجامعات على الاعتراف بسرقة الأراضي الّتي بُنِيَت عليها...

علّمتني تجربة الزمالة الأكاديميّة في مجال الصحّة العامّة في الولايات المتّحدة، أنّ هناك نماذج بقاء أخرى للمجتمعات الأصلانيّة والمهمّشة؛ فهنا أجبر باحثون وناشطون وأطبّاء شجعان الجامعات على الاعتراف بسرقة الأراضي الّتي بُنِيَت عليها، والعمل على إنهاء استعماريّة مناهجها وتحريرها. وحوّل الأطبّاء والباحثون النقاش برمّته داخل أروقة هذه الجامعات، نحو الاستهداف المباشر للعنصريّة البنيويّة؛ باعتبارها خطرًا على الصحّة العامّة، ويعملون على تفكيكها، وصنّفوا وحشيّة الشرطة كمشكلة صحّة عامّة، ما أدّى إلى ازدهار مبادرات مثل «معاطف بيضاء من أجل حياة السود» أو «المساواة الصحّيّة - حملة ضدّ العنصريّة»؛ لتساعدنا على إعادة تعريف كيفيّة ممارسة مهنة الطبّ. هذه هي مظاهر التعايش الّتي يجب أن نشجّعها ونحيّيها. أولئك هم الّذين يلتزمون حقًّا بالنضال المشترك ضدّ الاضطهاد، وليس مَنْ يتبنّون رموز أمل سطحيّة لا تمنحنا سوى شعور لحظيّ بالتحسّن، دون أن تفعل شيئًا حقيقيًّا لتغيير الوضع القائم الخطير والمؤلم.

 


أسامة طنّوس

 

 

طبيب أطفال فلسطينيّ مقيم في حيفا، وعضو مجلس إدارة منظّمة «أطبّاء من أجل حقوق الإنسان – إسرائيل». وهو حاليًّا زميل في قسم «هوبرت إتش همفري للصحّة العامّة والسياسات الصحّيّة» في «جامعة إيموري» في أتلانتا.

 

 

نروي الهبّة: من الشيخ جرّاح إلى غزّة | ملفّ

نروي الهبّة: من الشيخ جرّاح إلى غزّة | ملفّ

12/08/2021
«إِنْ أَنْ قَدْ آنَ أَوانُه»... فنّ يفضح

«إِنْ أَنْ قَدْ آنَ أَوانُه»... فنّ يفضح

04/06/2021
محمّد الكرد... شاعر من القدس يكتب عن رِفْقَة | حوار

محمّد الكرد... شاعر من القدس يكتب عن رِفْقَة | حوار

28/06/2021
جدليّة شَبابْنا مْلاح وْبَناتْ بِتْأَرْجِلْ

جدليّة شَبابْنا مْلاح وْبَناتْ بِتْأَرْجِلْ

04/08/2021
في مديح الْجَدْعَنَة

في مديح الْجَدْعَنَة

03/07/2021
«جمل المحامل»... يعود شابًّا وملثّمًا في غزّة

«جمل المحامل»... يعود شابًّا وملثّمًا في غزّة

27/05/2021
خوارزميّات الموت والاضطهاد: الحزن، التفاعل التشاركيّ، البعثرة الخورازميّة في السوشال ميديا

خوارزميّات الموت والاضطهاد: الحزن، التفاعل التشاركيّ، البعثرة الخورازميّة في السوشال ميديا

16/05/2021
في الجَناح يا عمّي: معجم المواجهة والاشتباك

في الجَناح يا عمّي: معجم المواجهة والاشتباك

14/06/2021
هبّة من أجل القدس: ثقافة الرفض وأفعال المقاومة

هبّة من أجل القدس: ثقافة الرفض وأفعال المقاومة

30/05/2021
ابن العنف: سارتر والاستعمار وفلسطين

ابن العنف: سارتر والاستعمار وفلسطين

07/06/2021
مغترب أمام حدث وطنيّ اسمه «الهبّة»

مغترب أمام حدث وطنيّ اسمه «الهبّة»

24/06/2021
 قواعد الاشتباك الأربعون

 قواعد الاشتباك الأربعون

25/05/2021
"هبّة القدس"... ثوريّة البذاءة

"هبّة القدس"... ثوريّة البذاءة

26/07/2021
نروي الحكاية، نستعيد الجبل

نروي الحكاية، نستعيد الجبل

27/06/2021
مستحيلات المكان وأعجوبة السمكة

مستحيلات المكان وأعجوبة السمكة

02/06/2021
هستيريا جماعيّة: انفجار نظريّة العرق في وجه أصحابها

هستيريا جماعيّة: انفجار نظريّة العرق في وجه أصحابها

14/05/2021
الهبّة... عودة الفنّان إلى شارعه

الهبّة... عودة الفنّان إلى شارعه

30/06/2021
معركة «سيف القدس»: صحف أوروبّا وأمريكا تنحاز لسرديّة إسرائيل

معركة «سيف القدس»: صحف أوروبّا وأمريكا تنحاز لسرديّة إسرائيل

19/05/2021
للحارات شباب يحميها | شهادة

للحارات شباب يحميها | شهادة

27/05/2021
"أسبوع الاقتصاد الوطنيّ"... تنظيم الذات الفلسطينيّة

"أسبوع الاقتصاد الوطنيّ"... تنظيم الذات الفلسطينيّة

25/06/2021
حيفا إلنا: ما بين الحارة، والمحطّة، والمحكمة | شهادة

حيفا إلنا: ما بين الحارة، والمحطّة، والمحكمة | شهادة

25/05/2021
مظاهرة هارتفورد: الهتافات، والشرطة، واللغات

مظاهرة هارتفورد: الهتافات، والشرطة، واللغات

21/05/2021
لنضع ذكرياتنا في الحقيبة... جاءت الحرب | شهادة

لنضع ذكرياتنا في الحقيبة... جاءت الحرب | شهادة

29/05/2021
التضامن مع سلوان... وجهة نظر معلّمة

التضامن مع سلوان... وجهة نظر معلّمة

26/07/2021
الصراع في ضوء الهبّة: الرواية والزمن والتدويل

الصراع في ضوء الهبّة: الرواية والزمن والتدويل

01/06/2021
الجسد حين يقاوم: تأمّلات في سياسات الموت والحياة

الجسد حين يقاوم: تأمّلات في سياسات الموت والحياة

18/05/2021
الاحتلال متقدّم في قياس حالة الطقس!

الاحتلال متقدّم في قياس حالة الطقس!

19/06/2021
الصور الّتي لن تفارقنا

الصور الّتي لن تفارقنا

21/05/2021
لأنّ حياة الفلسطينيّين أيضًا مهمّة

لأنّ حياة الفلسطينيّين أيضًا مهمّة

05/07/2021
واجبنا أن نغضب | ترجمة

واجبنا أن نغضب | ترجمة

22/05/2021
جغرافيا من مسنّنات

جغرافيا من مسنّنات

13/08/2021
عنوان المعركة: وعي جديد يفكّك وعيًا مريضًا

عنوان المعركة: وعي جديد يفكّك وعيًا مريضًا

18/05/2021
مراكز غزّة الثقافيّة ومكتباتها... هدفٌ دائم لإسرائيل

مراكز غزّة الثقافيّة ومكتباتها... هدفٌ دائم لإسرائيل

21/06/2021
«أجمل ما فينا»... قيم الهبّة ومعانيها

«أجمل ما فينا»... قيم الهبّة ومعانيها

21/06/2021

التعليقات