24/07/2021 - 14:40

النكبة: طفولة مبتورة، سكوت قهريّ، إفصاح مستمرّ (3/5)

النكبة: طفولة مبتورة، سكوت قهريّ، إفصاح مستمرّ (3/5)

جنود في «جيش الإنقاذ العربيّ»، القسم الأوسط من فلسطين، 1948 | المتحف الفلسطينيّ

 

جنود «جيش الإنقاذ العربيّ»

في الجزء الثالث من السلسلة الخماسيّة المعنونة بـ «النكبة: طفولة مبتورة، سكوت قهريّ، إفصاح مستمرّ»، يسرد محدّثي – والدي - تفاصيل الطريق كما عبرها صبيًّا هو ومَنْ معه من مهجّرين، يقول: "وِتْوَجَّهْنا لَروسْ الِجْبال تا حتّى طَلّينا على عارة، وِنْزِلْنا مِنْ طَريقِ الْمِسْقاة[1] صعودًا لَعَرْعَرَة. طَوّالي مِنْ طَريقِ الْمَهْد عَ هَالِجْبال على عارة من فوقْ، وْنِزْلوا الناس وْهَوَّدوا، وْطِلْعوا على عَرْعَرَة. بَقوا كلِّ الْبَلَد، مَلانْ ناس. مِثِلْ ما بِتْشوفي بِالْأَفْلام! وْفَجْأَة شُفْنا سيّارات جيش نازْلِة من عرعرة. أَجَتْ مِنْ فوقْ عَنْ طريقْ عينِ السَّهْلِة. 14 سيّارة، عَدّيناهِنْ، فَابْتَهَجوا النّاس بْجَيِّة هَذول الِجْنودِ يْصُدُّوا عن كُفُرْ قَرِع. وإذ بهم يتوقّفون، وْنِزْلوا من سيّارة. أنا كُنْتْ قَريبْ، قَرَّبِتْ وِتْفَرَّجِتْ، وَقَّفِتْ جَنْبْهُم. وْبَدوا يْقَلّْبوا بِوْراقْ، وقالوا إِنُّه هايْ بَلَد ساقْطَة [بمعنى أنّ كفر قرع قد سقطت في أيدي القوّات الصهيونيّة]، رُغُمْ إِنُّه النساء بَقينْ [كنّ] يْغَنِّين وِيْهاهينْ لَلِجْنود، وِيْقُلِنْ: ‘يا ناصر السّتّة على السِّتّين‘! وْبَدَتِ السيّارات بِدْها تِتْحَرَّك يمينًا لشارع بِروح لَإِمِّ الْفَحِم. وْفَجْأَة تْرَجَّل جندي من سيّارة، عريف أوِ بْرُتْبِة أكبر، وقال: ‘اللّي رايِحْ يْقاتِلْ لَأَجْلِ الْوَطَن والله يِنْزِل معاي"! هنا بدت علامات التأثّر على أبي، وفي صوته، واغرورقت عيناه، وأصابتني عدوى تأثّره. تمالك وأكمل مباشرة: "فَتْرَجَّلوا مِنْ 10-15 بَني آدَم، وِتْوَجَّهوا لَكُفُرْ قَرِعْ مشيًا على الأقدام. نِزْلوا وْغَرَّبوا مَشي. الناس مَرِجْعوشْ مَعاهُم، ظَلّوا بَرّا. الباقْيين لَفّوا عَ اليَمينْ وْظَلّوا مْشَرّْقين. هاظْ مُشْ مِنِ الناس، هاظْ اللّي شُفْتُه. كلِّ الناس تْعَجَّبوا، هَالسيّارات رَحِنْ يَمينْ! شَرَّقوا عَ إِمِّ الْفَحِمْ. كانوا مِتْوَقّْعين هَالسيّارات تْروح هناك [إلى كفر قرع]. الناس تْأْسَّفوا [أسفوا]، بَقوا مِتْأَمّْلين يْروحوا [الجنود] يْساعْدوا اللّي هناك. إِنُّه هَظوه أَجا النصِر، أَجا النصِر".

"ثاني يومْ ثالِثْ يومْ صاروا يِتْخَرَّفوا ناس أَجوا مْنِ النّاحَة الشماليّة، إِنُّه [كان] يْشَجِّع الناس وْيِشْهِدْهم على إصابة كلّ جندي [من الجانب الصهيونيّ]، إِنُّه شايْفين إِحْنا بْنِغْدَر. كان قنّاص مِيِّة بِالْمِيِّة. واستشهد عمر وعدد من الناس من البلد".

أمّا عن الجنود الّذين ترجّلوا من السيّارات، وتوجّهوا مشيًا إلى الغرب في اتّجاه كفر قرع، فأكمل: "وْبَدوا في البلد مْنِ النّاحَة الشماليّة قَذِفْ بالنّار على اليهود. كان الجندي، واللهُ أعلم، اِسْمُه عمر[2]، هيكِ الناسْ خَرَّفوا [قالوا] بعدِ بْيومْ بْيومين، [كان] مصوّبًا ماهرًا، فأبلى بلاء حسن"[3]. يكمل الصورة حول ما وقع على أرض القتال في كفر قرع، حسب شهادة مَنْ فرّوا من بيوتهم إلى منطقة ستالين شمال شرق البلد: "ثاني يومْ ثالِثْ يومْ صاروا يِتْخَرَّفوا ناس أَجوا مْنِ النّاحَة الشماليّة، إِنُّه [كان] يْشَجِّع الناس وْيِشْهِدْهم على إصابة كلّ جندي [من الجانب الصهيونيّ]، إِنُّه شايْفين إِحْنا بْنِغْدَر. كان قنّاص مِيِّة بِالْمِيِّة. واستشهد عمر وعدد من الناس من البلد".

ويحفظ للشهداء التخليد بواسطة ذكر أسمائهم وإضافة معلومات تيسّر وتقرّب التعريف بهم إليّ: "نايِف الحجّ مْحِمَّد، نايِف الحجّ مْحِمَّد من دار كَناعْنِة، سيد الأستاذ يوسِف كَناعْنِة، هاظْ إِتْقَوَّس وَرا طابونّا. هناك نَزَفْ وفاضت روحُه. وراجِحِ الْعَريدي، أخرى حمدان الْخاطِرِ اِسْتَشْهَد، أبو أحمد الحمدان وإبراهيم الحمدان، وِاسْتَشْهَدْ أخرى مْحِمَّدِ ابن سْليمان وهو مارِق عند الـ... عند الْمَفاحِر عَ بَرّا وين صارت دار عيسى الِإِبْراهيم أَجَتُه هْواه طايْشِة. مْحِمَّدِ الْعارِف، هاظَ مِنْ دار يَحْيى. هَذولَ اِسْتَشْهَدوا، قِسِم كان يْقاوِم وِيْناضِل وْقِسِم طايْشِة. وفيه غيرْهم تْصاوَبوا...".

وبدافع حبّ الاستطلاع لديّ عن جثمان المقاتل الباسل، سألت: "أين دُفن؟"، أجاب أبي جوابًا لاكونيًّا قاطعًا: "مَشُفْتِش، مَعْرِفْتِش". هكذا هو أبي، لا يشهد في أمر لم يشهده، ولا يدّعي معرفة شيء لا يعرفه حقّ المعرفة.

وإذن، يصوّر السطر الّذي يفتتح الاقتباس الأوّل أعلاه الطريق الّذي سلكه الصبيّ والفارّون المهجّرون معه، بحيث يمكننا الوقوف على تضاريس المنطقة من خلال تغيّر التعبير عن مسلكهم بحسب طبيعة تضاريسها: "طَلّينا على عارة، وِنْزِلْنا مِنْ طَريق الْمِسْقاة، صعودًا لَعَرْعَرَة"، سهل هو خلّة السقيع[ص]، فتلال عارة، فوادٍ هو طريق وادي عارة، فجبل عرعرة وهو جبل الخطّاف، حيث تقطع طريق وادي عارة بين القرية الابنة عارة من الجهة الشماليّة لطريق الوادي وبين القرية الأمّ عرعرة في الجهة الجنوبيّة المقابلة.

 

يا ناصر الستّة على الستّين

وصول أربع عشرة سيّارة لمقاتلين عرب هي مفاجأة بالنسبة إلى صبيّ في جيله، في طريق التهجير الّذي يعيش لحظتها، وفي هذا التوقيت الدقيق حال وصوله هو ومَنْ معه. بالنسبة إلى البالغين والبالغات وأهل عارة الّذين عرفوا في حينه، ومَنْ تلاهم من أجيال اطّلعت على التاريخ الرسميّ والخاصّ منه بالمنطقة بخاصّة، أو سمع قسم منهم بعض تفاصيله، بالنسبة إلى هؤلاء فإنّ المفاجأة تفقد بعض عناصرها؛ إذ كان «جيش الإنقاذ العربيّ» منتشرًا في وادي عارة، وقد اتّخذ مقرًّا له في عارة، في بيت الحاجّ أحمد العبد القادر يونس، والمعروف بين أهالي عارة -عرعرة باسم «الدار الغربيّة»، وهو البيت الأوّل، ولفترة من الزمن الوحيد الّذي بناه صاحبه خارج قلب عارة على تلّة غربيّة هي إحدى بضع تلال المنطقة؛ لذا فطبيعيّ أن تتحرّك قافلة من سيّاراتهم هناك، لكنّها تبقى المفاجأة الكبرى بالنسبة إلى مهجّرين في حالة رعب، وفي التوقيت الحرج إيّاه، ومصدرًا للنجدة المرجوّة، وعنها عبّر ابتهاج الناس بوصول «الفزعة» على شكل عسكر نظاميّ عوّلوا عليه.

ويستوقفنا دور النساء في التعبير عن هذا الابتهاج، وفي التشجيع بالأغاني، والمهاهاة، والدعاء. دعاؤهنّ المحدّد الّذي يذكره الصبيّ "يا ناصر السّتّة على السّتّين"، هو عنصر على مستوى الكلمة الشعبيّة يُضاف إلى المستوى البصريّ، فيكثّف من المشهد الحيّ المُسْتَلّ من الذاكرة. والواقع أنّه لا يمكن فهم هذا التوسّل إلى الله إلّا في سياق معرفة ميزان القوى بين طرفَي القتال؛ إذ فاقت القوّات الصهيونيّة قوّات «جيش الإنقاذ العربيّ» عددًا وعدّة وتدريبًا عسكريًّا. للهوّة في موازين القوى بين الطرفين أسباب جمّة، مفتاحها انحياز الاستعمار البريطانيّ إلى اليهود ومشروع إقامة دولة لهم في فلسطين، بدءًا بـ «وعد بلفور» (1917)، مرورًا بإتاحة هجرة اليهود غير القانونيّة إليها باضطراد، وانتهاء بتزويدهم بالعتاد والأسلحة، وتركه ما في قواعده لهم عند الانسحاب وإنهاء «الانتداب»، وفضلًا على دعم بريطانيا للقوّات الصهيونيّة فقد حَظَوْا بدعم دول أوروبّيّة أخرى، حتّى بصفقات تزويدهم بالأسلحة المتطوّرة، والأشهر بينها صفقة الأسلحة التشيكيّة.

 

هايْ البلد ساقطة

اللافت أنّه للمرّة الأولى تصلنا في هذا السياق عبارة مختلفة عن تلك الشهيرة، المكوّنة من اللفظين: «ماكو أوامر»، أي لا يوجد أوامر، وهي الّتي تُنْسَب إلى الجنود العراقيّين في «جيش الإنقاذ». انتظار سماعهما من محدّثي لم يتحقّق، وعوض ذلك سمعنا منه نقله عنهم: «هاي بلد ساقطة»، جملة أصيلة (Authentic)  عبّرت عن الكلام المفتاح في الحدث كما سمع، ولا سيّما أنّ هؤلاء الجنود سوريّون.

لكنّ جنديًّا واحدًا يعلن، بموقفه وتصرّفه وقوله، مخالفة الأوامر العليا فعليًّا؛ إذ يترجّل من سيّارة، ويهيب بزملائه لينضمّوا إليه ببضع كلمات: "اللّي رايِحْ يْقاتِلْ لَأَجِلْ الْوَطَنْ والله يِنْزِلْ مَعايْ!"...

إنّ تصوير المشهد الحيّ من الميدان، بكلمات شاهد العيان، يفيد أنّه كان ثمّة تنوّع في مواقف جنود «جيش الإنقاذ العربيّ» حيال أوامر إيقاف القتال، الّتي وصلتهم من القيادة السياسيّة[4]. تنصاع الكتيبة المؤلّفة من أربع عشرة سيّارة من الجنود للأوامر، فتولّي يمينًا «مُدْبِرَة» في اتّجاه أمّ الفحم شرقًا، لكنّ جنديًّا واحدًا يعلن، بموقفه وتصرّفه وقوله، مخالفة الأوامر العليا فعليًّا؛ إذ يترجّل من سيّارة، ويهيب بزملائه لينضمّوا إليه ببضع كلمات: "اللّي رايِحْ يْقاتِلْ لَأَجِلْ الْوَطَنْ والله يِنْزِلْ مَعايْ!"، وفي رأينا ما من مفهوم للوطن أوسع من هذا التعبير العروبيّ المرتجل، الّذي فيه لا ينحصر الوطن في رُقَع دول القوميّة الّتي فصّلتها وهندستها القوى الاستعماريّة في ذلك العقد، بل يمتدّ على كامل بلاد العرب، وفلسطين القلب منه.

وتنتهي الطريق لتبدأ حياة اللجوء.

يتبع...

........

إحالات

[1] حارة في عارة في المنطقة المنخفضة منها بمحاذاة طريق وادي عارة الرئيسيّ، وقد سُمِّيَتْ بـ «الْمِسْقاة» لوجود عين ماء فيها تزوّد السكّان به.

[2] لم أرجع إلى المستندات الرسميّة للتحقّق من اسم الجنديّ لغرض هذه النسخة للمقال، فلست هنا بصدد التوثيق الرسميّ بقدر استحضار الصورة الحيّة، وإسماع الصوت النابض لشاهد عيان على هذا الجزء من معارك عام 1948 ونكبتها.

[3] صيغ الفصحى في بعض أجزاء من الاقتباسات، والتنقّل بين العامّيّة والفصحى، أوردها كما هي في الأصل في حديث والدي.

[4] قد تكون الفكرة هذه مدوّنة في متون كتب التاريخ، لكنّي لست بصدد ربط بيانات الشهادة بالتاريخ الرسميّ، ليس في هذه النسخة للمقال، ولا من أجل باب المعرفة الّتي أحاول التأسيس لها هنا.

 

 

تغريد يحيى - يونس

 

 

أكاديميّة وأستاذة جامعيّة فلسطينيّة. حازت على الدكتوراه مع مرتبة الشرف من جامعة تل أبيب، واستكملت دراستها لما بعد الدكتوراه في جامعة SOAS - لندن. اهتماماتها الأكاديميّة الرئيسيّة علم اجتماع الغربة، والإثنيّة والعلاقات الإثنيّة، والنظريّات النسويّة، والسياسة والجندر، ومناهج البحث النوعيّ، واللغة والهويّة.

 

 

التعليقات