16/08/2021 - 16:26

تبرير الإبادة... ويليام أولبرايت وعلم الآثار التوراتيّ

تبرير الإبادة... ويليام أولبرايت وعلم الآثار التوراتيّ

من حفريّات ويليام أولبرايت في «تلّ بيت ميرسيم» عام 1926 | مكتبة الكونجرس

 

الكتاب المقدّس في يدٍ، والمِجرف في اليد الأخرى

كان عقد العشرينات، أي خلال العقد الأوّل من الانتداب البريطانيّ، عقدًا زاخرًا بقدر كبير من النشاط الأثريّ في فلسطين، مع تسهيل البريطانيّين الوصول إلى البلاد وتنظيمه بالنسبة إلى علماء الآثار الغربيّين؛ فقد نصّ البند الثاني عشر من وثيقة الانتداب على ما يلي: "ستكون الدول الأعضاء في ‘عصبة الأمم‘ متمتّعة بحرّيّة إجراء البحوث الأثريّة". وكانت الولايات الأميركيّة المتّحدة متمتّعة بهذا الحقّ، رغم عدم عضويّتها في العصبة، وقد كان علماء الآثار الكتابيّون في الغرب سيبادرون إلى الاستجابة بحماسة مشحونة بـ ‘الترقّب‘، جنبًا إلى جنب مع ‘الفهم المسبق‘، فـ ‘الفهم المسبق‘ يقول بأنّ «الكتاب المقدّس» صحيح تاريخيًّا، و‘الترقّب‘ يقول بأنّ من شأن تمكين علماء الآثار من الوصول إلى فلسطين أن يبيّن أنّ الأمر هو كذلك.   

وبحسب لورنس دفدسن Lawrence Davidson، فإنّ "نظام الانتداب الّذي أخضع المنطقة للحكم البريطانيّ، كما جعلها وطنًا قوميًّا لليهود، كان يعني وضع تلك المزاعم [التوراتيّة] والمطالب [الصهيونيّة] موضع التطبيق العمليّ...

وبحسب لورنس دفدسن Lawrence Davidson، فإنّ "نظام الانتداب الّذي أخضع المنطقة للحكم البريطانيّ، كما جعلها وطنًا قوميًّا لليهود، كان يعني وضع تلك المزاعم [التوراتيّة] والمطالب [الصهيونيّة] موضع التطبيق العمليّ. وبالتالي، فإنّه من الممكن اعتبار علم الآثار الكتابيّ أداة لعقلنة الإمبرياليّة".

كان البحث التاريخيّ والأثريّ في بلادنا فلسطين ليس مجرّد إعادة بناء نزيه للماضي، ولكنّه يتعلّق بموضوع بالغ الأهمّيّة، يتّصل بالهويّة وميزان القوى المعاصرة. لقد وصل الباحثون إلى فلسطين، والكتاب المقدّس في يد، والمِجرف في اليد الأخـرى، ساعين إلى تأويل كلّ المعلومات المستجدّة، لمصلحة أفكارهم التوراتيّة.

 

التنقيب في خدمة الاستعمار

كان من أبرز الباحثين في آثار فلسطين، من دعاة «علم الآثار التوراتيّ»، عالم الآثار الأميركيّ، ويليام فوكسويل أولبرايت William Foxwell Albright، الّذي ترأّس «المدرسة الأمريكيّة للأبحاث الشرقيّة» في القدس، من عام 1919 حتّى عام 1936، وقد سُمِّيَتِ المدرسة في ما بعد باسمه. لقد رأى أولبرايت لزامًا عليه توجيه المهتمّين بالآثار من الصهاينة، وأخذ يوزّع عليهم واجبات محدّدة، الأمر الّذي لا يخفيه أولبرايت نفسه.

كانت تربية أولبرايـت الأرثوذكسيّة والميثوديّة التَّقْوِيَّة، وموقفه المحافظ المتعلّق بالديانة اليهوديّة، وتعاطفه مع الأصوليّين والإنجيليّين، هي الأساس لاختلاقه إسرائيل القديمة، وتصويره لها على أنّها تمثّل الجذور الثقافيّة والعقلانيّة والروحيّة للمجتمع الغربيّ. الكتاب المقدّس عند أولبرايت، ليس فقط صحيحًا، لكنّ محتوياته أيضًا موثوقة تاريخيًّا؛ فليس ثمّة أدنى شكّ في أنّ علم الآثار قد أثبت الموثوقيّة التاريخيّة للعهد القديم بالنسبة إليه.

نبّه عالم الآثار سلبرمان إلى المضامين السياسيّة، في أعمال أولبرايت، فهو يقول: "من المستغرب أنّ علماء الآثار التوراتيّين الحاليّين - أو بالأحرى علماء الآثار المختصّين في سوريا وفلسطين، الّذين يفخرون بكونهم باحثين غير منحازين، لا يعترفون بأنّ هناك شيئًا أبعد من الأفكار التاريخيّة العامّة كان أولبرايت يرمي إليه. وكان هذا هو التراث الّذي خلّفه. هل يمكن الباحث الّذي هو نفسه نتاج للمجتمع الحديث، وله وضع قوميّ، ودينيّ، واقتصاديّ معيّن، أن يدخل إلى مجتمع تمزّقه الصراعات (مثل فلسطين في العشرينات)، دون أن يكون له إسهام - سواء عن قصد، أو غير قصد - في ذلك الصراع السياسيّ الدائر هناك؟ هل بإمكانه، أو هل كان يجب أن يحصل على حقّ لإجراء تنقيبات أثريّة في موقع ما (ذلك الموقع الّذي هو أيضًا جزء من المنظر الطبيعيّ الحاليّ بالبلد)، وأن يتفاوض على السلع، ويحصل على الخدمات، وعلى إذن الحكومة، ويوظّف العمّال المحلّيّين، والأكثر من ذلك، أن يأتي برواية للتاريخ شديدة التأثّر بالتحريف السياسيّ للأحداث في الفترة المعاصرة، دون أن يسهم - بقصد أو عن غير قصد - في الخطاب السياسيّ المعاصر؟".

كانت تربية أولبرايـت الأرثوذكسيّة والميثوديّة التَّقْوِيَّة، وموقفه المحافظ المتعلّق بالديانة اليهوديّة، وتعاطفه مع الأصوليّين والإنجيليّين، هي الأساس لاختلاقه إسرائيل القديمة...

يعترف أولبرايت بذلك عند حديثه عن التنقيبات الأثريّة في فلسطين، فيقول: "... فإنّنا نصل إلى عام 1920، حينما أُنْشِئَت مصلحة للآثار الفلسطينيّة على نظام حديث، تحت رئاسة الأثريّ المحنّك، جون جارستارنج John Garstang، من جامعة ليفربول. وفي ظلّ سياسة المصلحة الجديدة إزاء المنقّبين الأجانب، ازدهرت البحوث الأثريّة في فلسطين ازدهارًا لم يسبق له مثيل. وفي خلال سنوات السلم الخمس عشرة (1921 - 1936)، لم تمرّ سنة واحدة إلّا وجرت فيها حفائر عدّة، وقد زاد عدد المشروعات خلال هذه المدّة زيادة مطّردة، حتّى بلغ ذروته في الثلاثينات الأولى، ويعُدّ المؤلّف نفسه [أولبرايت] محظوظًا لعمله في فلسطين، من 1920 إلى 1935، وقد قام خلالها بدور فعّال في كلٍّ من مجالَي التنقيب والدراسة. ولقد كانت هذه السنوات سنوات مثيرة حقًّا؛ إذ تحقّق فيها كلّ شهر تقدّم ملحوظ نحو هدفنا البعيد لكتابة تاريخ فلسطين الكامل، كما تحكيه آثارها".

 

شعبٌ يحلّ محلّ شعب

أثار أولبرايت في أعماله مسألة حقوق السكّان الأصليّين في الأرض، بل حاول بشكل مخيف تبرير إبادة الشعب الفلسطينيّ، فكثيرون من الشعب الأميركيّ يتماهون في التنميط البروتستانتيّ مع «بني إسرائيل» المتخيّلين، وبالتالي يربط مصير سكّان أمريكيا الأصليّين بالفلسطينيّين. يقول أولبرايت: "... ونحن الأميركيّين قد يكون لنا حقوق أقلّ من باقي الدول المتمدّنة، على الرغم من إنسانيّتنا الحقيقيّة، في أن نصدر أحكامًا على الإسرائيليّين، في القرن الثالث عشر قبل الميلاد؛ إذ إنّنا قمنا، عن قصد أو غير قصد، بإبادة آلاف السكّان الأصليّين في كلّ بقعة من أمّتنا العظيمة، ووضعنا البقيّة الباقية منهم في معسكرات الاعتقال. والقول إنّ هذا كان أمرًا لا مفرّ منه، لا يجعله أكثر قبولًا أو تهذيبًا من الناحية الأخلاقيّة، لدى الأميركيّ اليوم... ومن وجهة النظر غير المنحازة إلى فلسفة التاريخ، يبدو من الضروريّ في أحيان كثيرة اختفاء شعب ذي مستوًى متدنٍّ إلى حدّ بعيد؛ ليحلّ محلّه شعب ذو صفات متفوّقة، حيث يتحتّم الوصول إلى مرحلة لا يمكن فيها الاندماج العرقيّ أن يستمرّ دون حصول كارثة. عندما تحدث مثل هذه العمليّة، كما هو جارٍ الآن في أستراليا، فإنّ الدوافع الإنسانيّة، لا يمكنها فعل الكثير، علمًا أنّ كلّ عمل همجيّ، وكلّ ظلم سوف ينعكس بكلّ تأكيد على المعتدي".

هكذا، يؤكّد أولبرايت فكرة قيام أمريكا، الّتي يتماهى كثيرٌ من سياسيّيها والمؤسّسات الّتي يؤثّرون فيها مع النصوص الحرفيّة الواردة في «الكتاب المقدّس»، قيامها على فكرة استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة.

اتّضح لاحقًا أنّ أولبرايت، ومعاونيه وتلاميذه، تعاملوا تعسّفيًّا مع كثير من الاكتشافات الأثريّة على أساس أنّها توراتيّة، دون بذل الكثير من الجهد لمعرفة حقيقة هذه الآثار وتاريخها؛ فقد أدّى التوجّه التوراتيّ لأولبرايت إلى وقوعه في أخطاء أثارت انتقادات علميّة، ووسمت أعماله الواسعة بالضعف في بعض جوانبها.

في السنوات الأخيرة، حدث انقلاب حقيقيّ في نظر علماء الآثار إلى التوراة، باعتبارها مصدرًا تاريخيًّا، وشكّك بعضهم بإمكانيّة كتابة تاريخ حقيقيّ للمنطقة، استنادًا إلى روايات التوراة.

 

يذهب البروفيسور توماس طومسون Thomas L. Thompson، في إعادة تقييمه لأعمال أولبرايت، إلى القول بـ "ضحالة مفهوم أولبرايت التاريخيّ، الأمر المؤسف، والمفهوم في آن، والمداورة في مقارناته، وافتقاره إلى منهج واضح في التحليل، ومبادئ واضحة للتحقيق، وانجذابه نحو تصوّرات أدّى كلّ عنصر جديد فيها إلى تغيير في هيكلتها، قادته إلى تصوّرات جديدة في المجالات المتعلّقة به، وأدّت أخيرًا إلى تدمير كلّ محاولة توفيقيّة قام بها، وجعل العديد من مساهماته في أواخر حياته متناقضة تمامًا مع كثير من أعماله الأولى".

في السنوات الأخيرة، حدث انقلاب حقيقيّ في نظر علماء الآثار إلى التوراة، باعتبارها مصدرًا تاريخيًّا، وشكّك بعضهم بإمكانيّة كتابة تاريخ حقيقيّ للمنطقة، استنادًا إلى روايات التوراة.

 

 


أحمد الدبش

 

 

كاتب وباحث في التاريخ القديم. له مجموعة مؤلّفات حول التاريخ التوراتيّ، منها «بحثّا عن النبي إبراهيم»، و«كنعان وملوك بني إسرائيل في جزيرة العرب»، و«يهوديّة الدولة: الحنين إلى الأساطير».

 

 

التعليقات