27/09/2021 - 19:12

إسماع صوت ساذج بهائي - نصّار

إسماع صوت ساذج بهائي - نصّار

ساذج بهائي- نصّار (1900 - 1970) | أرشيف الناصرة

 

شيخة الصحافة الفلسطينيّة

هذه المقالة ليست ترجمة لشخصيّة تاريخيّة نسويّة عاشت في فترة زمنيّة حرجة، وخاضت حروبًا مضاعفة لأجل وطنها ونسويّتها؛ إذ لم يكن ليخطر ببالي حين شاهدت مسرحيّة «صاحب الكرمل»، الّتي عرضها «المتحف الفلسطينيّ» ضمن فعاليّات «طُبِعَ في القدس»، بأنّني سأتعلّق بتلك الشخصيّة، الّتي حوّلها الهمّ الوطنيّ باكرًا من مجرّد شابّة عفويّة تملؤها الحماسة، وربّما وصفها البعض بشيء من التمرّد والذكوريّة - نظرًا إلى خروجها عن النمط المعروف لتعريف الأنثى في حينه - إلى شيخة الصحافة الفلسطينيّة، وقد أخذت عن زوجها[1] ما كان يؤمن به من حتميّة الخطر المحدق بفلسطين، بعد أن أدرك ماهيّة الصهيونيّة وغايتها، فكانت كالصخرة في ظهره تدفعه وتشجّعه، ورضيت أن تختزل حياتها، بين صفّ حروف الآلة الكاتبة وأطنان الأوراق المبعثرة في زاوية مطبعة في حيفا، كما طوّرت من الصحيفة وأعطتها شيئًا من الطابع النسويّ عبر تخصيص زاوية لمعالجة قضايا المرأة العربيّة، ولا سيّما شريحة الفلّاحات منهنّ.

طوّرت من الصحيفة وأعطتها شيئًا من الطابع النسويّ عبر تخصيص زاوية لمعالجة قضايا المرأة العربيّة، ولا سيّما شريحة الفلّاحات منهنّ...

ساذج  بهائي - نصّار[2] ذات الاسم غير المألوف، ستملك في ما بعد قصّة غريبة، قصّة دفعت ثمنها من الاعتقال والاضطهاد والاتّهامات ثمّ التهجير، غير أنّ فضولي المعرفيّ للوقوف على تلك الشخصيّة الوطنيّة، لم تشبعه تلك المقالات القليلة الّتي كُتِبَت عنها؛ لذا سأحاول في هذا المقال الوقوف على جانب من تلك الشخصيّة؛ معتمدة في ذلك إبراز صوت ساذج عبر إعادة قراءة مقالاتها وكتاباتها الصحافيّة وتحليلها، تلك الّتي كانت تنشرها في جريدة «الكرمل»[3]، وقد استرعاني أن أُمعن النظر في القضايا النسويّة الّتي كانت تحملها؛ لأرى الفرق الّذي ربّما يكون قد أحدثه المجتمع بعد نحو مئة عام.

يعتمد منهجي في هذا المقال على الرجوع إلى أرشيف جريدة «الكرمل»، بحيث أختار مجموعة من المقالات العشوائيّة لساذج، على مدار سنوات مختلفة، الّتي عادة ما كانت تكون في الصفحات الأخيرة من الجريدة تحت عناوين «النهضة النسائيّة»، ثمّ لاحقًا «صحيفة النساء».

 

نسويّة ضدّ الصهيونيّة

اتّسمت كتابات ساذج وفكرها بطابع متفرّد في عصرها؛ ذلك أنّها آمنت بالقضيّة النسويّة، ودعمت تحرّر المرأة، ولكن ضمن إطار المصلحة الوطنيّة، فكانت فلسطين نصب عينيها في كلّ مقال تعلّق عليه أو تكتبه؛ إذ أرادت أن تصنع من تحرّر نساء فلسطين قوّة تقف في وجه الصهيونيّة، وتحمي أرض فلسطين.

في مقال إخباريّ جاء بعنوان «زيارة مندوبة جمعيّة الاتّحاد النسائيّ الدوليّ لفلسطين» في 8 شباط (فبراير) 1935، علّقت ساذج بعد أن وصفت الزيارة والتنقّلات، وجاءت على ذكر بعض كلمات الحضور، بالقول "نرجو من جمعيّة الاتّحاد النسائيّ، ومن رئيستها الفاضلة، ألّا يقفن عند هذا الحدّ، بل يعملن بكلّ ما بوسعهنّ لإيصال صوتهنّ إلى المؤتمر النسويّ العامّ، وإفهام المجتمعات حقيقة قضيّة فلسطين، وخطر الصهيونيّة الّذي لن ينحصر في فلسطين، بل سيتعدّاه - في ما نعتقد - إلى كلّ أنحاء الشرق[4]. وهنا نجدها تعتبر القضيّة الأهمّ، الّتي يتوجّب على «الاتّحاد النسائيّ الفلسطينيّ» الدفاع عنها أو حمل صوتها، هي التنبيه للخطر الصهيونيّ، دون أن تأتي على ذكر أيّ قضايا أو مطالبات نسائيّة، بما يتناسب مع ذلك المؤتمر النسويّ العامّ.

نجدها تعتبر القضيّة الأهمّ، الّتي يتوجّب على «الاتّحاد النسائيّ الفلسطينيّ» الدفاع عنها أو حمل صوتها، هي التنبيه للخطر الصهيونيّ، دون أن تأتي على ذكر أيّ قضايا أو مطالبات نسائيّة...

وفي مقال آخر، يجمع ما بين الطرافة والحسّ الوطنيّ، تقول ساذج: "وبهذه المناسبة، نقول إنّنا في فلسطين باحتياج كبير إلى مصرف شعبيّ يسلّف الفلّاح والعامل والتاجر الصغير بفائدة معتدلة؛ لننقذ البلاد من الضائقة الاقتصاديّة… وقد حاولنا حمل الرجال على الامتناع عن التدخين، ورصد ثمن الدخّان شهريًّا في أحد المصارف، إلى أن يصير مبلغًا يمكن إنشاء مصرف منه، نظرًا إلى أنّ إرادات الرجال ضعيفة... فهل للسيّدات أن يُثبتن مقدرتهنّ ويُظهرن تأثيرهنّ ونفوذهنّ في رجالهنّ، فيحملنهم على الامتناع عن التدخين والمُسْكِر، ويجمعن ما يتوفّر من الأثمان لمشترى أسهم في المصرف الشعبيّ لهنّ ولأولادهنّ، فيدوّن مؤرّخو العرب لنساء فلسطين باكورة نهضتهنّ ‘إنقاذ فلسطين من الخطر الصهيونيّ‘..."[5]. في هذا النصّ يتبيّن نهج ساذج وفكرها بأنّها تربط كلّ المكوّنات الاقتصاديّة والسياسيّة والنهضويّة لخدمة قضيّة فلسطين؛ فهي ترى أنّ نهضة نساء فلسطين لن تكون إلّا بمقدار خدمتهنّ للقضيّة، وإدراكهنّ أبعاد المشروع الصهيونيّ.

 

بين المرأة والمرأة

من جهة أخرى، امتاز جزء كبير من مقالاتها بروحها النقديّة؛ فوضعت يدها على مواضع العلل، فأجرت المقارنات بين واقع المرأة العربيّ والغربيّ، مثال ذلك ما جاء في تعقيبها على خبر نشرته صحيفة «الديلي» البريطانيّة حول الحركة النسويّة ونشاطاتها المتعاظمة في أوروبّا؛ لتعقّب ساذج بقولها "عرّبنا ذلك للسيّدات العربيّات؛ ليقفن على بعض المعلومات عن الحركة النسائيّة في الغرب، ولا سيّما بريطانيا لعلّهنّ يستفدن منها... لم نشاهد حركة مباركة بين نساء فلسطين لمساعدة منكوبي الثورة السوريّة؛ لتساؤلنا حيال ما نقلناه من أخبار الحركة النسائيّة في بريطانيا العظمى، عن النهضة النسائيّة في سوريا وفلسطين، ولاستغرابنا كيف ترضى العربيّات أن يقعدن والغربيّات ناهضات، مع أنّ العربيّات كنّ في كلّ الأدوار يُجارين الرجال في أدوارهنّ"[6].

وفي مقال آخر تقارن فيه بين العربيّات أنفسهنّ في الوطن العربيّ، والأخريات العربيّات اللواتي يقطنّ في دول غربيّة، تحديدًا الولايات المتّحدة، تقول: "لم تكد صرختي بشأن أطفال المجاهدين في الصحراء، تصل إلى آذان بعض الأمّهات في فلنت ميشغان، حتّى قمن يلبّين نداء الوطنيّة والواجب، فجمعن أولادهنّ وأفهمنهم أنّ أطفالًا مثلهم من بني جنسهم يتألّمون من الجوع والبرد... فحنّت تلك القلوب الصغيرة الطاهرة، وتبرّع كلّ واحد من صندوق توفيره بريال أمريكانيّ... أمّا السيّدات العربيّات في سوريا وفلسطين، اللواتي يعلمن بضيق وضنك المجاهدين، أكثر ممّا تعلمه أمّهات العرب في ميشغان، فإلى الآن لم نسمع لواحدة منهنّ صوتًا"، إنّ تلك المقارنة ليست اعتباطيّة، ولكنّها تعبّر عن ثقافة وعلل مجتمع بأكمله؛ فالعلّة ليست في العِرق نفسه، بل بالمحيط والمجتمع من حوله، ولربّما استحضرنا واقعنا المعيش في هذا.

 

شؤون مجتمعيّة

وإن كان الشغل الشاغل لساذج وزوجها نجيب هو التنبيه للخطر الصهيونيّ، عبر «الكرمل»، إلّا أنّ كثيرًا من الأعداد جاء ليتناول مواضيع قريبة من المرأة وبيئتها، فبعضها جاء على شكل نصائح لكلٍّ من الزوجة والزوج؛ لضمان استقرار حياتهما الزوجيّة، وجاء فيها: "أيّها الزوج، إيّاك أن تعتاد الشكوى من صحّتك فتملأ زوجتك همومًا، فإن كنت مريضًا فاذهب إلى الطبيب، وأن تعتاد تناول الشاي في ساعة متأخّرة، فتسهر وتتعلّل بالأباطيل، وتلقي باللوم في ذلك على زوجتك... أيّتها الزوجة، إيّاك أن تهملي ممارسة الرياضة... ولا تتركي نفسك تسمنين، قاومي السمن بكلّ الوسائل، فليس يذهب بجمال الوجه منه"[7].

بعد مرور أكثر من قرن على جريدة «الكرمل»، نجد أنّنا للأسف ما زلنا لا نبرح مكاننا، فما أدركنا خطر الصهيونيّة؛ فضاعت البلاد وتمزّقت وحدة العرب حتّى عشنا زمانًا تتسابق فيه الدول العربيّة على التطبيع، وما نهضنا بالشعب بما فيه وضع المرأة...

يطول الحديث في هذا المقام؛ فليس أجمل من أن نتلمّس التاريخ بأنفسنا فنستقي تصوّراتنا ومخيالنا الجمعيّ من الكتب والمصادر التاريخيّة، بما فيها الصحف والجرائد، ففي طيّاتها قصص الناس ومشاغلهم وخوفهم وفرحهم وإقبالهم وإحجامهم، وبعد مرور أكثر من قرن على جريدة «الكرمل»، نجد أنّنا للأسف ما زلنا لا نبرح مكاننا، فما أدركنا خطر الصهيونيّة؛ فضاعت البلاد وتمزّقت وحدة العرب حتّى عشنا زمانًا تتسابق فيه الدول العربيّة على التطبيع، وما نهضنا بالشعب بما فيه وضع المرأة ونظرة المجتمع والتخلّف والجهل، غير أنّ صوت الأحرار فينا يظلّ يعلو، فميراث ساذج كامن فينا، يستنهض ذواتنا لتسير قدمًا.

.........

إحالات

[1] نجيب نصّار (1872–1948)  أديب وصحافيّ فلسطينيّ وُلد في عين عنوب، اشتهر بـ «شيخ الصحافة الفلسطينيّة»، كان من روّاد المناهضين للحركة الصهيونيّة، فأسّس جريدة «الكرمل» (1908).

[2] وُلدت ساذج بهائي في مدينة حيفا عام 1900. بدأت حياتها المهنيّة سنة 1923 بكتابة المقالات في جريدة «الكرمل»، وكانت ساذج أوّل امرأة فلسطينيّة تخضع للاعتقال في عهد الانتداب البريطانيّ؛ بسبب نشاطها الوطنيّ، توفّيت في دمشق عام 1970.

[3] «الكرمل» جريدة فلسطينيّة أسّسها نجيب نصّار في حيفا  عام 1908، اهتمّت بالقضايا السياسيّة والاجتماعيّة.

[4] ساذج نصّار، «زيارة مندوبة جمعيّة الاتّحاد النسائيّ الدوليّ لفلسطين»، جريدة الكرمل، 08/02/1935.

[5] ساذج نصّار، «النهضة النسائيّة»، جريدة الكرمل، 21/03/1926.

[6] المصدر السابق.

[7] ساذج نصّار، «أيها الزوج – أيّاك»، الكرمل الجديد، 05/06/1937.

 

 


أنوار قدح

 

 

 

باحثة فلسطينيّة حاصلة على الماجستير في التاريخ العربيّ الإسلاميّ من «جامعة بيرزيت»، لها العديد من الدراسات المنشورة حول المناهج في القدس.

 

 

التعليقات