14/11/2021 - 22:01

العنف الرمزيّ في مصطلح «الأدب النسويّ»

العنف الرمزيّ في مصطلح «الأدب النسويّ»

 

تحيّزات اصطلاحيّة

إنّ مقولة «لا مُشاحّة في الاصطلاح»[1] من المقولات الّتي لها وجاهتها، في عالم البحث والكتابة والتأليف بشكل عامّ؛ فهذه المقولة تأتي لتبيّن أنّ جوهر الألفاظ يكمن في معانيها؛ إذ تؤكّد أنّه ما مِنْ إشكال في أن تأتي المعاني وتتوارد في مصطلحات متعدّدة ومتفاوتة في تركيباتها اللغويّة، شريطة أن تُدْرَك هذه المعاني بطريقة صحيحة، وعلى الوجه الّذي ينبغي.

ورغم الوجاهة الّتي تتمتّع بها المقولة السابقة، إلّا أنّ ذلك لم يمنع العديد من المشتغلين في الحقول المعرفيّة المختلفة من الاهتمام بالمصطلح، ومن تخصيص مباحث كاملة في كتبهم بقصد معالجته وتبيينه، قبل التطرّق إلى موضوع البحث الرئيسيّ.

إنّ حقل البناء الاصطلاحيّ مليء بالمصطلحات المثيرة للجدل، والّتي تحوي في داخلها على ما يُطْلَق عليه «التحيّزات الاصطلاحيّة»...

وضمن السياق السابق، يمكن القول إنّ حقل البناء الاصطلاحيّ مليء بالمصطلحات المثيرة للجدل، والّتي تحوي في داخلها على ما يُطْلَق عليه «التحيّزات الاصطلاحيّة»[2]، تلك الّتي تأتي في التركيبة اللغويّة الأساسيّة للمصطلح، بحيث تنقل مدلولاته إلى ذهنيّة المتلقّي وتجعله يدركه على نحو منحاز. وإنّ التحيّزات الاصطلاحيّة الّتي يقوم عليها الكثير من تلك المصطلحات تجعلها عرضة لكثير من النقاش والجدال، حيث ينقسم متلقّوها ما بين القبول والرفض لها وللمدلولات الّتي تحتويها وتشير إليها.

 

كتابة النساء

إنّ واحدًا من أبرز المصطلحات المثيرة للجدل، الّتي ينقسم متلقّوها ما بين قابل ورافض لها هو مصطلح «الأدب النسويّ»؛ ذلك المصطلح الّذي يأتي – غالبًا - ليصف نمط الكتابة الأدبيّة الّتي تقوم به النساء دون الرجال.

وتبعًا لذلك، فإنّ جزءًا من جوهر المشكلة في هذا المصطلح يكمن في العجز عن ضبطه، وفي تعدّد التسميات اللفظيّة الواردة بشأنه على الساحة النقديّة العربيّة، حيث إنّ هناك تسميات عدّة ترد بخصوصه وتدلّل عليه، مثلًا: «أدب نسائيّ»، «أدب أنثويّ». ثمّ إنّ ثمّة عددًا من الأوصاف الّتي أُلصِقَتْ به، مثل «الأدب الهامشيّ»، و«الأدب الإباحيّ»، و«أدب الجسد» وغيرها. وإنّ الجزء الآخر من جوهر المشكلة في هذا المصطلح، يأتي من أنّه يحمل في بنيته اللفظيّة شكلًا من أشكال التحيّزات الاصطلاحيّة المرتبطة بالجندر أساسًا[3].

وتبعًا لذلك، فإنّ هذه المقالة ستسلّط الضوء على الجزء الإشكاليّ الثاني الكامن في هذا المصطلح، والمتعلّق بكونه مصطلحًا يحمل في بنيته اللفظيّة شكلًا من أشكال التحيّزات الاصطلاحيّة المرتبطة بالجندر أساسًا؛ إذ ستوضّح المقالة هذا الجانب الإشكاليّ من المصطلح، انطلاقًا من مفهوم «العنف الرمزيّ» لعالم الاجتماع الفرنسيّ بيير بورديو.

 

«العنف الرمزيّ» عند بورديو

إنّ بورديو يعرّف العنف الرمزيّ على أنّه "أيّ نفوذ يُفْلِح في فرض دلالات معيّنة، وفي فرضها بوصفها دلالات شرعيّة، حاجبًا علاقات القوّة الّتي تؤصّل قوّته".

وإنّ بورديو يقصد بتعريفه السابق ذلك العنف الّذي يكون فيه استخدام الرموز والدلالات والمعاني؛ بقصد السيطرة على الآخر وفرض الهيمنة عليه؛ إذ إنّ هذا النوع من العنف يأخذ صورة رمزيّة خفيّة ملتبسة تمكّن ممارسها من تحقيق أهدافه، دون أن يضطرّ إلى استخدام وسائل القوّة الواضحة والمعلنة[4].

العنف الرمزيّ فعاليّة ذهنيّة قد تُمارَس عبر أشكال لغويّة ودلاليّة وفكريّة ومعنويّة عدّة، حيث إنّه يصدر غالبًا عن قوًى اجتماعيّة وطبقيّة متمركزة في موقع الهيمنة والسيادة...

فالعنف الرمزيّ فعاليّة ذهنيّة قد تُمارَس عبر أشكال لغويّة ودلاليّة وفكريّة ومعنويّة عدّة، حيث إنّه يصدر غالبًا عن قوًى اجتماعيّة وطبقيّة متمركزة في موقع الهيمنة والسيادة، ويهدف إلى توليد معتقدات وأيديولوجيّات وأفكار محدّدة، وترسيخها في عقول أولئك الّذين يتعرّضون له وأذهانهم[5].

إنّ العنف الرمزيّ هو عنف يتميّز بقدرته على إخفاء مقاصده وأهدافه، فهو يأخذ صورة خفيّة وغير مباشِرة، تمكّنه من التغلغل في وعي ضحاياه بشكل عفويّ دون أن يدركوه؛ إذ إنّه يتحقّق عبر وسائل ينعدم فيها استخدام إكراهات العنف المادّيّة التقليديّة.

إنّ العنف الرمزيّ، بحسب بورديو، هو "عنف شفّاف هادئ يخترق عين البصر، فلا يقع عليه البصر، ولا يُرى حتّى من قِبَل ضحاياه"، فهو يهدف إلى بناء نسق من التصوّرات، والرؤى، والمقولات، والمعاني، والمفاهيم، والأفكار، في ذهنيّة الضحايا الّتي يُمارَس عليهم، بقصد التحوّل إلى مسلّمات تحكم نظرتهم إلى أنفسهم، وإلى مواقعهم الاجتماعيّة وتصنيفاتهم الجندريّة[6].

 

هامشيّة أنثويّة/ مركزيّة ذكوريّة

وبالعودة إلى مصطلح «الأدب النسويّ»، يمكن القول إنّ هذا المصطلح يحتوي في مضمونه وتركيباته الدلاليّة على عنف رمزيّ ضمنيّ، يأتي بهدف ترسيخ منظومة معتقدات جديدة في وعي المرأة؛ فهذا المصطلح يأتي – ضمنيًّا - ليدلّل على هامشيّة الأدب الأنثويّ الّذي تكتبه المرأة مقابل مركزيّة مفترضة للأدب الّذي يكتبه الرجل؛ فهو بحسب الناقدة خالدة سعيد "مصطلح شديد العموميّة وشديد الغموض، وهو من التسميات الكثيرة الّتي تشيع بلا تدقيق ... وإذا كانت عمليّة التسمية ترمي أساسًا إلى التعريف والتصنيف، وربّما إلى التقويم، فإنّ هذه التسمية على العكس، تبدأ بتغييب الدقّة، وتشوّش التصنيف وتستبعد التقويم، هذه التسمية تتضمّن حكمًا بالهامشيّة مقابل مركزيّة مفترضة"[7].

وإنّ مصطلح «الأدب النسويّ» لا يأتي فقط من أجل إقرار نظام لعلاقات القوّة وترسيخه في وعي المرأة، تتقدّم فيه الذكورة على الأنوثة، بل إنّه يأتي كذلك ليتجاهل الأوضاع القهريّة الّتي رزحت، وما تزال ترزح، تحتها المرأة بشكل عامّ، والمرأة العربيّة بشكل خاصّ؛ فمصطلح «الأدب النسويّ» لا يقيم اعتبارًا لحقيقة أنّ هذه الأوضاع القهريّة جميعها استدعت وجود نوع معيّن من الكتابة، تنجزها المرأة بالاستلهام من ذاتها وشروطها ووضعها المقهور، ويحاول من خلال استخدام العنف الرمزيّ أن يشير ويؤكّد ضمنيًّا إلى الفكرة القائلة بأنّ «الحساسيّة الأنثويّة» العالية، الّتي ربّما تظهر في الكتابة النسائيّة، وتجعلها متمحورة حول موضوعات معيّنة مثل الحبّ والجنس والجسد وغيرها، هي مجرّد حساسيّة شكليّة تلتفت فيها المرأة للتأثير الرنينيّ والتخيّليّ للعبارة المكتوبة، دون التدقيق في الموضوع[8].

هذا المصطلح يفترض في مضمونه أنّ خصوصيّة المواضيع، الّتي تنتقيها المرأة ضمن اشتغالاتها في الحقل الأدبيّ، هي خصوصيّة طبيعيّة، وليست خصوصيّة ناتجة عن الظروف الاجتماعيّة والتاريخيّة، وأوضاع القهر الاجتماعيّ...

إنّ مصطلح «الأدب النسويّ» ينضوي في مضامينه ودلالاته على عنف رمزيّ، يؤدّي إلى تكريس مفاهيم ومعتقدات معيّنة في ذهنيّة المرأة المشتغلة في الحقل الثقافيّ الأدبيّ؛ فهو لا يأتي فقط بافتراضات ضمنيّة حول هامشيّة كتاباتها مقابل مركزيّة كتابات نظرائها من الرجال، بل إنّه يأتي كذلك ليرسّخ في ذهنها معتقدات ذكوريّة البنى، تفرض عليها تصوّر الدونيّة في كتاباتها وأدبها، على اعتبار أنّها كتابات نسائيّة بحتة، تأتي دون ما هو إنسانيّ بالكلّيّة.

إنّ هذا المصطلح يفترض في مضمونه أنّ خصوصيّة المواضيع، الّتي تنتقيها المرأة ضمن اشتغالاتها في الحقل الأدبيّ، هي خصوصيّة طبيعيّة، وليست خصوصيّة ناتجة عن الظروف الاجتماعيّة والتاريخيّة، وأوضاع القهر الاجتماعيّ الّتي عاشت تحتها المرأة، بحيث يصحّ الاحتكام إليها لتصنيف الأدب تصنيفات جندريّة، بعيدًا عن القوانين المشتركة والثابتة الحاكمة لتشكّل الأدب عند الجنسين، ويقع في مقدّمتها مستوى الخبرة الفنّيّة والجماليّة والفكريّة، الموجودة عند المشتغل في الحقل الأدبيّ، سواء أرجلًا كان أم امرأة[9].

 


 إحالات

[1]وتعني هذه المقولة أنّه "لا ينبغي لأحد أن يمنع أحدٌ أحدًا من أن يستعمل اصطلاحًا معيّنًا في معنًى معيّن، إذا بيّن مراده بهذا الاصطلاح، والاصطلاح هو تواضع بين جماعة على معنًى معيّن؛ ليعبّر عنه بلفظ معيّن". انظر: المكتبة الشاملة الحديثة، في https://bit.ly/3zEVZ9K

[2]  محمّد همام، تحيّز المفاهيم والمصطلحات: من أجل بديل اجتهاديّ تطبيقيّ جديد، طه عبد الرحمن أنموذجًا، مؤمنون بلا حدود، ص 2-3.

[3] خضار سماحية، الأدب النسويّ: إشكاليّة مصطلح... أدب بين الاعتراف والرفض، مجلّة لغة - كلام، عدد 8، 2019، ص 64.

[4] علي أسعد وطفة، من الرمز والعنف إلى ممارسة العنف الرمزيّ قراءة في الوظيفة البيداغوجيّة للعنف الرمزيّ في التربية المدرسيّة، مجلّة شؤون اجتماعيّة، عدد 104، 2009، ص 65-68.

[5] المرجع السابق، ص 68.

[6] المرجع السابق، ص 70. 

[7] أحلام معمري، إشكاليّة الأدب النسويّ بين المصطلح واللغة، مجلّة مقاليد، عدد 2، 2011، ص 48.

[8] المرجع السابق، ص 47.

[9] خضار سماحية، مرجع سابق، ص 67-68.

 


 

إسراء عرفات

 

 

كاتبة وباحثة من نابلس. خرّيجة قسم العلوم السياسيّة في جامعة النجاح الوطنيّة، وحاصلة على الماجستير في التخطيط والتنمية السياسيّة من الجامعة نفسها. مهتمّة بقضايا الفكر والفلسفة، وتكتب في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.

 

 

التعليقات