30/11/2021 - 13:39

زرت أذربيجان... ردّ الاعتبار لمفهوم الدولة الحديثة

زرت أذربيجان... ردّ الاعتبار لمفهوم الدولة الحديثة

تصوير مرزوق الحلبي

 

قيود الكورونا والإجراءات الوقائيّة هي الّتي حسمت أمر سفرنا إلى أذربيجان وليس إلى إيطاليا الّتي نحبّ، أنا وزوجتي دالية؛ ليتّضح لي على مدى سبعة أيّام كاملة أنّ منعطف السفر هذا أدّى بي إلى تجربة مثيرة في بُعْدَيْن: في قراءة مفهوم الدولة من جديد، وفي الاطّلاع على روحانيّات شعب تمتدّ أبعد كثيرًا من الدولة والسلاطين والاحتلالات. عُدْت مشحونًا بانطباعات وأفكار رأيت أن أشارك فيها الآخرين، ولو من قبيل الاندهاش والأسئلة الّتي انبعثت في الطريق من باكو العاصمة، الواقفة بعنفوان وسط مناخ صحراويّ إلى بلدة شاكي في الشمال (500 كم تقريبًا)، في أعالي الوادي الفسيح الّذي شكّل مقطعًا من طريق الحرير الّتي وصلت الشرق بالغرب، وليس عبر خيوط الحرير وأنواعه وألوانه البديعة فحسب.

 

صراعات الموارد

يُعَدّ الشعب الأذربيجانيّ واحدًا من الشعوب التركيّة الممتدّة الانتشار، من شمال المتوسّط إلى القوقاز إلى فارس. أمّا أذربيجان فإنّها دولة استقلّت حديثًا (في عام 1991)، جزءًا من تداعي الإمبراطوريّة السوفييتيّة، لكنّها دفعت ثمن ذلك مرّتين؛ في المرّة الأولى، عندما أرسلت موسكو جيشًا لإخضاع حركة الاستقلال دون نجاح سوى قتل المدنيّين. في المرّة الثانية، عبر سلسلة من مواجهات حرب محدودة مع أرمينيا المدعومة من نظام موسكو، كان آخرها العام الماضي، وانتهى بهزيمة أرمينيا الّتي خسرت مناطق شاسعة، لصالح أذربيجان الّتي تعتبر أنّ هذه المناطق والجماعات السكّانيّة فيها، وإن كان بعضها أرمنيًّا، تابعة لأذربيجان تاريخيًّا.

أذربيجان فإنّها دولة استقلّت حديثًا (في عام 1991)، جزءًا من تداعي الإمبراطوريّة السوفييتيّة، لكنّها دفعت ثمن ذلك مرّتين...

أمّا أسباب هذه المواجهات فكامنة في السياسات الروسيّة الخارجيّة الّتي تتعمّد إشعال الحرائق في مناطق كثيرة من الاتّحاد السوفييتيّ سابقًا؛ للإبقاء على دورها كرجل الإطفاء، وجزءًا من أحلامها الإمبرياليّة. أمّا الأسباب الأخرى فكامنة في الضغط على باكو العاصمة لضمان حصّة في نفط أذربيجان. وكان قد اكْتُشِفَ النفط في حوض باكو على بحر قزوين في أواسط القرن التاسع عشر، وبدأ تكرير النفط على أرضها في أواخر الستّينات من القرن المذكور (بمساعدة ومساهمة من عائلة نوبل السويديّة الّتي ينتمي إليها مؤسّس «جائزة نوبل»). إنّ هذه الثروة المكوّنة من النفط وما يتبعه من غاز وموارد أخرى بتروليّة، تمثّل سببًا في نهوض هذه البلاد، كما أنّها سبب في الحروب عليها، مثلما يقول الّذين تحدّثت معهم.

حتّى لا ينتج انطباع بأنّ هذه هي أذربيجان، لا بدّ من الإشارة إلى تاريخ هذه البلاد، الممتدّ إلى ما قبل التاريخ؛ بدلالة وجود كهوف ورسومات للإنسان القديم في منطقة غوبستان جنوبيّ العاصمة باكو، وهي لا تترك مجالًا للشكّ بوجود حياة قبل تاريخيّة في هذا الحوض الصحراويّ على شاطئ البحر.

تناوبت على البلاد ثقافات أتتها من الشرق والغرب غازيّة أو متمدّدة، من الفيكونغ في شمال القارّة الأوروبّيّة والرومان واليونانيّين القدماء، ومن الفرس والمسلمين، وآخرهم العثمانيّون؛ فقد سيطر العرب المسلمون على أذربيجان بعد قرن وأكثر من بداية الدعوة المحمّديّة، واستمرّ الوجود هناك إلى نهاية القرن التاسع الميلاديّ مع اضمحلال الدولة العبّاسيّة، فحلّ محلّهم السلاجقة ونازعهم عليها الفرس، إلى أن أتى تدخّل روسيا القيصريّة ومن ثَمّ الاتّحاد السوفييتيّ. أمّا المعالم الأثريّة فتدلّنا على أنّ هذه البلاد شهدت ديانات قبل توحيديّة (الزرادشتيّة مثلًا، ثمّة معبد كامل لا يزال قائمًا قرب العاصمة باكو)، ودعوات ومذاهب إيمانيّة روحانيّة أخرى.

 

باكو كما أرادها علييف

كانت باكو بوّابتي إلى هذه البلاد، وقد استوقفتني كثيرًا في مستويات عدّة، سأحاول أن أرتّبها هنا. سيلفت نظرك نظافتها التامّة في كلّ المواقع والساحات والشوارع، وسيلفت نظرك هذه الحفاوة في الحيّز، ساحات ومماشٍ وفُسَح وتماثيل بيئيّة ومتنزّهات واسعة وحدائق. لم يغب عن بالي قطّ دور الّذين يحفظون وجه المدينة من غائلات الزمن. نساء قبل الرجال يحملن المقشّات ويَجُبْنَ حتّى شوارع الأوتستراد. أمّا المرتّبات المدفوعة لهم، كلّما سألتهم، فهي - كما قال غير مرشد – محترمة، وتكفي لعيش كريم. لم يغب عن بالي قطّ أنّ للمدينة وجهين: وجهًا للوافد الغريب ووجهًا للأذربيجانيّين؛ وفق السياسيات الّتي اعتمدها الرئيس و«الأب» المؤسّس حيدر علييف الّذي تبوّأ منصب رئيس الجمهوريّة من عام 1969 إلى عام 2003؛ أي منذ كانت الجمهوريّة تحت سيادة السوفييت إلى وفاته، وقد خلفه نجله إلهام.

 

من حقول النفط المنتشرة حول باكو

 

يُعَدّ علييف الأب باني أسس الجمهوريّة المستقلّة بشكلها اليوم، من خلال حيويّة ناور في إطارها بين قوًى دوليّة وإقليميّة عديدة، ضمن وضع سياسيّ سائل ومتحوّل. لقد استطاع علييف أن يطوّر الصناعات النفطيّة في مستوى كمّ الإنتاج ونوعيّته، وفي مستوى التصنيع والتوريد إلى الخارج؛ هذا يعني أنّه زاد من القدرات الاقتصاديّة للدولة وللشعب في آن واحد؛ فالأموال الّتي كانت الجمهوريّة تتقاسمها مع موسكو انحصرت في الجمهوريّة المستقلّة وشعبها، وفي باكو الّتي تُعَدّ مدينة ليس في معمارها وشكلها الحضريّ، بل في نمط حياتها اليوميّ؛ وهو أمر يعود إلى «الأب» المؤسّس، الّذي رأى أن تكون مدينته وبلده على أسس مدنيّة تتّسع للتعدّد الحضريّ والسكّانيّ، وهو ما يلفت النظر في هذه المدينة الّتي تعدّ نحو 3.5 مليون نسمة وحدها، ونحو 5 ملايين مع محيطها؛ فالتنوّع البشريّ ظاهر، وكذلك انفتاح الحيّز العامّ للحياة المدنيّة، وقوامها مراكز ترفيه وتجارة ومقاهٍ ونوادٍ مفتوحة طيلة الوقت، بينما الناس يملؤون الساحات والمراكز والمطاعم، في إطار صخب حقيقيّ هو من سمات كلّ مدينة. أمّا أماكن العبادة فهي متواضعة أو غير ظاهرة ولا مُسْتَظْهَرَة، هادئة؛ فالصلاة في المساجد تُتْرَك للأفراد، وتحصل بهدوء بدون مكبّرات صوت أو خطباء يقاتلون طواحين الهواء.

 

الأسلمة والغربنة

حتّى الآن شكّلت باكو مركز بثّ بكلّ الاتّجاهات نحو الريف حيث هو، ونحو البلدات المتوسّطة والمدن في عمق البلاد. مدينة واقفة على رجليها مع فضاء كبير للحرّيّات على اختلافها، بما فيها السياسيّة، ضمن نظام برلمانيّ، وأكاديميا نشطة، وروابط واتّحادات متخصّصة، ومؤسّسات دولة واقتصاد، وما إلى ذلك. ربّما كانت المدينة، في كلّ نواحي حياتها، صورة كبيرة للبلاد الّتي أرادها المؤسّسون والنخب، ومن خلال الدستور والتشريع، علمانيّة أو لنقل مدنيّة مع تأكيد فصل الدين عن الدولة والحفاظ على تعدّديّة إثنيّة، خاصّة أنّه يعيش في البلاد نحو 16 مجموعة إثنيّة. أمّا غالبيّة الناس فهم من أتباع الديانة الإسلاميّة. كانوا في غالبيّتهم من السنّة، وصاروا لاحقًا من الشيعة في غالبيّتهم في فترة من فترات الاحتلال الفارسيّة للبلاد، وكان قسم منهم انكشف على الهندوسيّة في بعض مذاهبها، ومع هذا فإنّ المساجد مفتوحة للجميع دون أيّ فصل؛ كلّ المذاهب تصلّي في الجوامع ذاتها. أمّا باكو العاصمة، على كبرها، فليس فيها سوى 16 مسجدًا، حسب المرشدين، وهي مساجد غير مكتظّة ولا مزدحمة، ولا تشهد نشاطًا غير الصلاة. هذا للتدليل على العلاقة الّتي حدّدها الدستور بين الدين والدولة.

في أعقاب انهيار الإمبراطوريّة السوفييتيّة، حاولت جهات إسلامويّة من دول الشرق الأوسط، ومنها إيران وتركيا والسعوديّة، «أَسْلَمَة» البلاد وفق رؤاها وتوجّهاتها، واختراقها عبر إنشاء مئات المساجد؛ وهو الأمر الّذي أثار شكوك الدولة، فحسمت الأمر في دستورها بإعلان الدولة علمانيّة والدين شأنًا خاصًّا.

في هذه النقطة تحديدًا، يعتبر البعض أنّ النخب في أذربيجان استطاعت أن تطوّر نموذجها الخاصّ؛ دولة إسلاميّة بدون «إسلام تديّنيّ» في نظامها وسياساتها وعقيدتها السياسيّة. لمست ذلك في كلّ الأحاديث والحوارات، وتركيز الجيل الشابّ - بوجه الخصوص - على ضرورة حماية البلاد على هذا النحو كي تتّسع للجميع. ثمّة إصرار على إبقاء الدين شأنًا للحيّز الخاصّ والبلاد، كدولة ومؤسّسات، في منأًى عن المراسم والعبادات والطقوس والرموز الدينيّة. وفي اعتقادي أنّه حَسْمٌ في مكانه، في ضوء التجربة العربيّة بوجه خاصّ، ومن منظور علميّ إداريّ حديث أيضًا؛ فليس في الديانات، إذا صارت أيديولوجيا شموليّة، ما ينفع المجتمعات الحديثة وما بعد الحديثة، ولا أن يوفّر أيّ حلّ لمشاكل الاجتماع الحديث.

مست من مخطّطات الحيّز والمعالم في المدينة أنّها تقصد الإثبات للغرب بأنّ أذربيجان وباكو تنافسان «بشرف» النظام الغربيّ، على ما يعنيه من نوعيّة وجماليّة واكتمال الحيّز المدينيّ...

أقول هذا ولم تغب عنّي محاولات غربنة الدولة القسريّة، وباكو العاصمة بوجه الخصوص؛ أي جعل وجهتها الغرب، ليس في نظامها السياسيّ بل في مخاطبتها ورسائلها؛ فالدولة - ضمن انفتاحها العامّ - تُبْدي انفتاحًا نحو الغرب، يعكس رغبة في الانتماء إلى الطريقة الأوروبّيّة، من خلال الإرث الأذربيجانيّ المتراكم والحاضر في اهتمامات الدولة، كمكوّن روحانيّ جماليّ في عمليّة البناء. وقد لمست من مخطّطات الحيّز والمعالم في المدينة أنّها تقصد الإثبات للغرب بأنّ أذربيجان وباكو تنافسان «بشرف» النظام الغربيّ، على ما يعنيه من نوعيّة وجماليّة واكتمال الحيّز المدينيّ، وتوفير كلّ احتياجات الساكن والوافد، ولا سيّما تلك الروحيّة منها، المعنيّة بالفنون والإبداع والجماليّات.

 

الاقتصاد الّذي يحمل الدولة والمجتمع

علمتُ أنّ الدولة بسياساتها وخططها استطاعت أن تخفّض التوتّرات السكّانيّة والطبقيّة، إلى حدّ لا يكاد يظهر، خاصّة أنّها - الدولة - تعتمد سياسات تطوير ودعم للسكّان جميعًا دون استثناء، ولديها خطط دعم اقتصاديّة وإنمائيّة في كلّ البلاد تقريبًا. مثلًا، إقامة مصالح واستغلال الأرض والموارد، بما فيها الغابات كمنتجعات منتشرة حيثما ذهبنا. أمّا معدّلات النموّ في هذا البلد فقد كانت غير مسبوقة، ومحطّ دراسات اقتصاديّة واهتمام كبير. كما أنّ العملة الوطنيّة المسمّاة «مانات»، من العملات القويّة والمستقرّة؛ مانات واحد يساوي نصف يورو، وأكثر من نصف دولار.

تسعى الدولة عبر خططها إلى توفير فرص عمل للجميع، وعبر تطوير كلّ القطاعات، ولا سيّما الزراعيّة، والخدماتيّة، والسياحة، وتطوير الموارد الطبيعيّة - معادن متنوّعة ونادرة - وإحداث إنماء في المرافق الّتي عانت من الفقر تاريخيًّا، ولم تستطع الحقبة السوفييتيّة استثمارها. وثمّة ادّعاء بأنّ الحرب مع أرمينيا على موارد كهذه؛ فالمناطق الّتي استولت عليها من أرمينيا في الحرب الأخيرة تحتوي على احتياطيّ كبير من الذهب، تحاول أذربيجان أن تطوّر إنتاجه وتصنيعه، أو بيعه في السوق الدوليّة.

في إطار سياسة توفير أماكن العمل، فإنّ الدولة مشغّل كبير، تدفع لجيوش من العاملات والعاملين في الصيانة والنظافة والخدمات والإدارة العامّة؛ فإذا زرت «المتحف الوطنيّ للسجّاد» فستلتقي بموظّفة في كلّ 10 أمتار من المتحف، تجلس هناك وتنتظر أن تسألها أو تطلب خدمة منها لتهبّ إلى تلبية حاجتك أو الإجابة عن سؤالك. هكذا في «مركز حيدر علييف» المقام في بناية صمّمتها الراحلة زها حديد، وفي «المتحف التاريخيّ الوطنيّ»، وما إلى ذلك من مرافق تعود إلى الدولة.

أمّا وباء الكورونا - قالوا لنا - فقد ضرب، أوّل ما ضرب، قطاع السياحة الّذي شهد إلى ما قبل سنوات نموًّا بقفزات عالية، تجسّدت في ارتفاع أعداد الأسرّة في الفنادق بأرقام عالية مضاعفة، وفي إنشاء مرافق سياحيّة وشركات وتطوير المنشآت والمسارات، ولا سيّما الجبليّة، وصيانة المعالم الأثريّة وترميمها.

 

أضرحة شهداء أذربيجانيّين

 

لا شكّ في أنّ ثمّة علاقة بين النموّ الاقتصاديّ، الّذي شمل كلّ المرافق القويّة والأقلّ قوّة، وبين الاستقرار السياسيّ في البلد المستقلّ حديثًا، وبين رؤية البعض إلى أذربيجان، نموذجًا له شخصيّته وسماته، ويمكن التعلّم منه. واللافت أنّ النموذج الأذربيجانيّ المثبّت دستوريًّا استطاع أن يتشكّل وسط ضغوط من الخارج إلى نماذج أخرى، كالنموذج التركيّ وذاك الإيرانيّ، وأن يتحرّر من إرث الحقبة السوفييتيّة، على ما تعنيه من مركزيّة وشموليّة، وإحداث توازن بين قطاع خاصّ ناهض وطفرات اقتصاديّة، وبين توفير نظام ضمانات اجتماعيّة متطوّر وخدمات عامّة؛ فالتعليم في كلّ مراحله متوفّر مجّانًا، وكذلك خدمات الصحّة، واقتناء السيّارات الحديثة محرّر من الضريبة؛ بمعنى أنّ خزينة الدولة تتكفّل بكثير من أعباء الحياة، وتوفّر شبكة أمان لا بأس فيها لعموم المواطنين.

أستذكر في هذا السياق النموذج الشرق آسيويّ للدول المسلمة، مثل أندونيسيا وماليزيا، على أنّهما استطاعتا تطوير نظام حكم مقتدر، واجتماع تسيّره ديمقراطيّة معقولة، عكس النموذج الإسلاميّ العربيّ، الّذي لا نزال نشهد تفكّكه على وقع الصراع بين ثورة الشعوب وبين الثورات المضادّة. وفي ضوء نزوع الإسلام السياسيّ العربيّ على تيّاراته إلى الاستبداد والعنف والاستئثار بالسلطة وموارد الدولة، حتّى عندما يكون «معتدلًا» كما في تونس والمغرب.

مع ما تقدّم، استطعت أن أتبيّن ثلاثة عيوب في النموذج الناهض لأذربيجان؛ الأوّل: ارتفاع معدّلات التلوّث بسبب الإهمال في صيانة حقول النفط وإدارتها. جولة واحدة في مناطق حقول النفط، حول باكو العاصمة مثلًا، تكفيك لتشهد ذلك من خلال نفط خامّ منتشر هنا وهناك، وأنابيب ممدّدة بشكل شبه عشوائيّ بين الأحياء السكنيّة، وما يمكن أن ينتج عن ذلك من مخاطر. الثاني: نشوء أحياء فقر واضحة حول باكو؛ بسبب هجرة الضائقة إليها، ووفود لاجئين من مناطق الصراع مع أرمينيا. يسكن هؤلاء في «عشوائيّات» تحاول الدولة ضبطها دونما كبير نجاح. هذا رغم نجاحها في توطين قسم من اللاجئين في مناطق زراعيّة، من خلال إنشاء البيوت والتجمّعات لهم. الثالث: قصور إداريّ في توزيع الإنتاج والإيصال وتوفير الخدمات.

لقد برّروا ذلك بأنّها نتيجة طبيعيّة لكلّ طفرة اقتصاديّة كالّتي تشهدها البلاد، وأنّ الدولة ستكون قادرة، في مدى عقد من الآن، على ضبط الأمور ومعالجة القصور، خاصّة أنّها ملتزمة بمعايير مؤسّسات دوليّة وأوروبّيّة، في أمر إدارة الاقتصاد والاجتماع.

 

التصالح مع الماضي المتعدّد

في غير موضع في العاصمة، رأيت شعارًا ورمزًا من الفترة السوفييتيّة، رأيت نُصُبًا تذكاريّة لجنود سوفييت، وأخرى لمدنيّين قتلهم جنود روس (1990)، ورأيت شوارع بأسماء غير أذربيجانيّة والنجمة السوفييتيّة والمنجل والشاكوش، ورأيت المباني السوفييتيّة تتّسم بتصميم موحّد وخطوط مستقيمة، وقليلة الكلفة كعمارات سكنيّة أو مكاتب أو مقارّ، كما رأيت نُصُبًا من فترات سابقة، فارسيّة وعربيّة وما قبل ذلك؛ رأيت معبدًا زارادشتيًّا كاملًا، ورأيت كنائس قديمة ألبانيّة أو أرثوذكسيّة أو غيرها، ولمست حرص الدولة على صيانتها على أفضل وجه، ورأيت مباني قديمة ومعالم تحافظ عليها الدولة وتصونها. يتّضح أنّ الدولة بنخبها ومؤسّساتها قرّرت أن تتصالح مع ماضيها على حقبه المختلفة؛ لم تنشغل لا بإزالة معالم ولا بتدمير شيء، بل بتعمير كلّ شيء من جديد، والحرص على أدقّ تفاصيله، ومن ثَمّ المضيّ قُدُمًا، والتطلّع إلى تعمير البلاد، وترسيخها دولة سياديّة ومتينة ومستقرّة.

الدولة في حاجة إلى كلّ معالم الماضي للسياحة، وهذا صحيح، لكنّ التصالح مع الماضي بدا لي أعمق وأكثر مبدئيّة؛ فالدولة على وعي كما أجابني المحاورون بأنّ هذه النزعة التصالحيّة مع الماضي ضروريّة للنهوض والتطلّع إلى أمام...

يمكن القول إنّ الدولة في حاجة إلى كلّ معالم الماضي للسياحة، وهذا صحيح، لكنّ التصالح مع الماضي بدا لي أعمق وأكثر مبدئيّة؛ فالدولة على وعي كما أجابني المحاورون بأنّ هذه النزعة التصالحيّة مع الماضي ضروريّة للنهوض والتطلّع إلى أمام، وهي نزعة تذكّرني بنزعة مهيمنة في الثقافة اليابانيّة بعد الحرب العالميّة الثانية، الّتي نادت بما معناه: ادفنوا موتاكم وانهضوا للعمل. لم يبنوا نُصُبًا تذكاريّة، ولم تنشغل الأمّة اليابانيّة بالذاكرة الجماعيّة، بل صاغت نفسها من جديد وأعادت ترميم ذاتها على وقع مشروع مستقبليّ، في صلبه فكرة النهوض وصناعة الجنّة على الأرض اليابانيّة بعد الحرب المدمّرة تلك. هكذا تبثّ الدولة في أذربيجان لمواطنيها وللوافدين: وجهتنا صناعة الجنّة على الأرض في أذربيجان، تكون مفتوحة للجميع دونما استثناء.

وعلى مستوًى آخر، ستجدون جهدًا خاصًّا للدولة اعتزازًا بمكوّنات أذربيجانيّة موروثة، ولا سيّما صناعة السجّاد والحرير، وما بينهما من أنسجة. في هذا الإطار، أقاموا متحفًا للسجّاد على شكل سجّادة ملفوفة، ومعمار فريد، وفضاءات داخليّة مثيرة. ثمّ إنّهم معتزّون بمطبخهم، وهو في مكوّناته وأطباقه يندرج ضمن المطبخ الفارسيّ - التركيّ، مع مكوّنات شاميّة. وأمكنني القول إنّه من أفضل المطابخ الّتي تذوّقت أطباقها. حيثما ذهبت، إلى أيّ مطعم، بسيط أو مرموق، ستجد ما يسرّك ويدهشك؛ مذاقات لا تزال معي بعد أسبوع من مغادرة باكو. وأعترف أنّنا أحضرنا أنا وزوجتي كمّيّة لا بأس فيها من بهارات وإضافات وعصائر؛ لنجرّب حظّنا مع الأطباق الأذربيجانيّة. نقول هذا وفي الخلفيّة بلاد ذات مناخات متعدّدة تصلح لزراعة أنواع لا تُعَدّ ولا تُحْصى من الثمار الأرضيّة والشجريّة، بدءًا من الزعفران. وهنا يفاخر الأذربيجانيّون بأنّه الأفضل، ويتفوّق على ذلك الزعفران الّذي اشتهرت به إيران، وانتهاءً بفواكه استوائيّة.

أمّا الحكمة الشعبيّة للفلّاحين فحاضرة في هذا المجال أيضًا، إذ إنّها تقترح عليك سلسلة غنيّة من النباتات العطريّة، ولكلّ نبتة غرضها العلاجيّ أو الوقائيّ.

ثمّة بدايات جميلة لتصنيع الأغذية كالعسل البرّيّ الخاصّ في نكهاته، ومن منتجات البلاد وتسويقها خارج أذربيجان. وثمّة على المستوى ذاته محاولات لا بأس فيها لإنتاج عطور ومجوهرات أذربيجانيّة، تضيف إلى اسم البلاد أبعادًا جماليّة.

 

طيبة الناس وودّهم

وصلنا إلى محطّة للحافلات، نريد أن نستقلّ من هناك سيّارة أجرة إلى متحف بعيد بعض الشيء. لا أعرف كيف انتبهت صبيّة أذربيجانيّة كانت هناك إلى حاجتنا، وناولت زوجتي هاتفها النقّال. كان على الخطّ المقابل صديقة الصبيّة الّتي خاطبت زوجتي باللغة الإنجليزيّة، واتّضح أنّ الصبيّة أرادت مساعدتنا لكنّها لا تعرف لغة مشتركة بيننا، فاتّصلت بصديقتها كي تساعدنا. انتهى الأمر أنّهما طلبتا لنا سيّارة أجرة، واقتربت الصبيّة من السائق، وحذّرته لئلّا يطالبنا بأكثر ممّا هو لازم 3-4 مانات (1.5-2 يورو). شكرناها وتوجّهنا إلى متحفنا بشعور كبير بالامتنان والتقدير.

عندما أردنا العودة من المتحف بعد 4-5 ساعات، كان في انتظارنا مشهد مشابه، ما إن سألنا شابّين عن مكان مرور سيّارات التاكسي حتّى سحبانا وراءهما إلى موقع ما، وتحدّثا إلى سائق السيّارة، وحذّراه أن يطلب أجرة وفق القانون.

 

«المتحف التاريخيّ الوطنيّ»

 

هذه الأريحيّة صادفناها في ثلاث مرّات، استعنّا فيها بمرشدين خاصّين في جولاتنا السياحيّة التعلّميّة، وصادفناها في كلّ نقطة احتكاك بالناس؛ في المتجر، وفي المطعم، وفي المقهى، ومع صاحب البسطة وبائع العسل والزعفران، والنحّاس، والزجّاج، وبائع التين، وموظّفي الفندق، إلى آخر القائمة.

هكذا في العادة تتعامل المجتمعات مع السائح، قد يُقال، وهذا ممكن أيضًا؛ فهم محتاجون إلى كرمنا وإلى ما في جيوبنا. لكنّ المشهدين اللذين رسمتهما آنفًا ينفيان هذا الاعتقاد، ويشيران إلى وجود بُعْدٍ ما آخر في الثقافة المحلّيّة، وفي تعامل الناس، وهو هذا الودّ والتعامل المسالم والرغبة في تقديم المساعدة دون أن تطلب. وعندما سألنا عن معدّلات الجريمة اتّضح لنا أنّها لا تكاد تُذْكَر بالنسبة إلى مجتمعات غربيّة، إمّا لأنّ الشعب هنا في طور البناء والدولة والحياة والثقافة، وإمّا لأنّنا حيال ثقافة فيها من التعدّديّة الحقيقيّة الّتي تترسّخ من خلال التقبّل والكرم. وجدتني أحني قامتي في كثير من الأحيان، وأشعر بالغبطة من كرم هنا وسخاء هناك.

أمّا بالنسبة إلى الأمن والأمان، فقد اكتشفنا بالحوار مع الناس العاديّين أنّها مسألة محسومة، بالنسبة إلى الدولة المصرّة على توفير الأمن والأمان حتّى في الأماكن النائية. وعليه – قالوا - ستجدون البوليس وقوّات الأمن في كلّ مكان. قد ترونها وقد لا ترونها، لكنّها هناك كي تحفظ الأمن، وكي تُسْهِم في ترسيخ عقيدة الدولة في ما يتّصل بالحيّز العامّ والنظام والأمن والأمان. وأنا القادم من بلاد تسكنها النزعة العسكريّة الأمنيّة، تساءلت عن كثافة البوليس في كلّ مكان، ولا سيّما الشوارع الرئيسيّة في العاصمة، أو بينها وبين محافظات أذربيجان؛ بمعنى أنّ الدولة حاضرة، وآمل أن يكون كلام محدّثي صحيحًا؛ في أنّه حضور يُقْصَد به تثبيت القانون في دولة حديثة العهد (ومجتمع قديم العهد)، وفي سيرورة بناء كلّ شيء من جديد.

 

بناء الأمّة

إنّ موادّ بناء الأمم متشابهة في مختلف الأماكن؛ تبدأ من الماضي وتتطلّع إلى المستقبل، أو أنّها تقوم على تعبئة الناس بهويّتهم الحقيقيّة أو المفترضة، تشحنهم برسائل مشروعها المستقبليّ، وتجنّدهم لخدمتها، براية ترفرف في كلّ مكان، كبيرة وصغيرة، في الساحات وعلى واجهات المحلّات والسيّارات. ستجدون علم أذربيجان هناك من ثلاثة ألوان: الأزرق، ويرمز إلى الانتماء إلى الشعوب التركيّة. والأحمر، ويعني التقدّم والتطلّع إلى المستقبل. والأخضر، هو لون الإسلام. أمّا النجمة الثمانيّة فهي على نسق هذا المكوّن البارز في المعمار الأذربيجانيّ، خاصّة معمار القصور والمعابد. وقد يفسّره البعض على أنّها رمز لثماني إثنيّات وازنة تشكّل الشعب الأذربيجانيّ.

ليس هذا فحسب، فستجدون صور «القائد الأب» حيدر علييف في كلّ مكان بانيًا أذربيجان الحديثة. في هذا محاولة لتشبيهه بكبار قيادات الأمم، ولا سيّما بكمال أتاتورك مؤسّس تركيا الحديثة، والحاسم في أمر علمانيّتها، أو جعله نموذج الأب القائد على الطريقة السوفييتيّة، وستجدون مؤسّسات ومرافق باسمه.

هناك جهد على كلّ المستويات لتثبيت أذربيجان دولة، ليس فقط دولةً قوقازيّةً من منطقة الأوراس بين آسيا وأوروبّا، بل دولة لها شخصيّتها الخاصّة وحضورها وإنجازاتها، جهد تراه حيثما ذهبت...

هناك جهد على كلّ المستويات لتثبيت أذربيجان دولة، ليس فقط دولةً قوقازيّةً من منطقة الأوراس بين آسيا وأوروبّا، بل دولة لها شخصيّتها الخاصّة وحضورها وإنجازاتها، جهد تراه حيثما ذهبت، وقد لفت نظري بشكل خاصّ هذه الآلاف من الشاحنات المحمّلة بأحجار البناء الخاصّة، تتّجه إلى الريف وأماكن الإنشاءات في المناطق النائية، وإلى هذه البدايات التعميريّة على جوانب الطرقات الرئيسيّة.

حياة كاملة خارجة من تاريخ متعدّد المستويات، مُتْعِب إلى حدّ كبير، ومن حروب ونزاعات. إلّا أنّ النخب الأذربيجانيّة الحاكمة استطاعت أن تبني علاقات دوليّة عمليّة، مع غير مركز قوّة دوليّ؛ مع روسيا الّتي يتعاونون معها في تصدير النفط والغاز، مع أوروبّا الغربيّة وشركاتها، ومع تركيا، ومع سوق النفط الدوليّة ومؤسّساته. هذا فضلًا على انخراطها من أوسع الأبواب في منظّمات دوليّة وإقليميّة وازنة.

إلى الآن استفاد الشعب الأذربيجانيّ من النهضة الاقتصاديّة العمرانيّة، ومن استغلال خيرات البلاد، ولا سيّما من النفط والغاز والمعادن، وإلى الآن استطاعت باكو العاصمة أن تحدّد الإيقاع وأن ترسم خرائط المستقبل، وإلى الآن استطاعت النخب أن تؤسّس دولة حديثة وعلمانيّة تعترف بثغراتها وتحاول التصحيح. حالة كهذه شهدتها مدن عربيّة رئيسيّة بعد الاستقلالات، لكنّها سرعان ما انكفأت على نفسها وتريّفت، وتوقّفت الطبقات الوسطى عن النموّ والتمدّد. كما أنّ هذه المدن كعواصم عربيّة ظلّت أسيرة الماضي والثقافة الإسلاميّة ذاتها، الّتي أدّت وظيفة كبح المجتمع والدولة، وإعاقة عمليّة التمدّن. إلّا أنّني أقدّر أنّ الأمر لن يحدث لأذربيجان في المدى المنظور على الأقلّ؛ لأنّ النخب الّتي صاغت الدستور والعقيدة السياسيّة للبلاد تصرّ، إلى الآن، على تطوير ما أُنْجِز في باكو مدينةً، وعلى مستوى البلاد. أمّا احتياطيّ النفط والغاز والمعادن والثروة الزراعيّة، والشعب نفسه المنخرط في مشروع الدولة، فهي ضمانات لاستتباب الأمور لمدًى زمنيّ آخر. هذا إذا رأينا الأمور من زاوية البلاد نفسها ونُخَبِها. أمّا إذا رسمنا سيناريو حرب جديدة تفرضها روسيا، أو أيّ جهة خارجيّة؛ لابتزاز البلاد اقتصاديًّا، فقد ينكسر المدّ التعميريّ، ويتعطّل ما أُنْجِز.

في تجربتي القصيرة هذه مع أذربيجان، استعدت بعض ثقتي بالدولة ككيان الاجتماع البشري الأفضل حتّى الآن؛ ففي العقود الأخيرة تضعضع هذا المفهوم كثيرًا لديّ، كما هو الأمر لدى كثيرين من علماء السياسة. إلّا أنّ أذربيجان تثبت أنّ المعاني - معنى الدولة - قد تُصاغ من جديد على نحو معقول؛ إذ لم يكن مشرقًا. أذربيجان قيد البناء من جديد، ومجتمع قيد التشكيل على وقع دستور واضح، في ما يتّصل بالعلاقة بالدين في ظروف وفرة اقتصاديّة وموارد وطنيّة عديدة، في أساسها النفط وصناعاته والمعادن.

 


 

مرزوق الحلبي

 

 

 

شاعر وناقد من فلسطين، يكتب في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة. يعمل وينشط في الجانب الحقوقيّ والمجتمع المدنيّ. له مجموعة شعريّة بعنوان "في مديح الوقت".

 

 

التعليقات