05/01/2022 - 17:54

نصف فرح ونصف حزن... أو انتصار أبو هوّاش

نصف فرح ونصف حزن... أو انتصار أبو هوّاش

الأسير هشام أبو هوّاش

 

أنظر إلى الاحتفالات أمام منزله في مقاطع الفيديو وأصرخ:"يا عمّي لسه.. ليش بتحتفلوا؟ أبو هواش ما وقّع". كان الناس يريدونه حيًّا بأيّ طريقة، منتصرًا، يشدّونه من الموت نحوهم ولو خُيِّل إليهم.

سألت على صفحتي في موقع «Facebook» عن حقيقة الأخبار، أكّدوا لي أنّ زوجته تنفي التوقيع، فانتظرت، لم أفرح، ابنتي تقف أمامي تحمل التمر، ليلتان لم تنم، خائفة من موتي بسبب الامتناع عن الأكل. قلت لها:"يا زوزو، أنا لم أكمل بعد ثلاثة أيّام، فكيف بأبنائه وعائلته".

إنّ الجسد سلاح قويّ حين يُعْجِزُكَ العدوّ عن القتال، والأهمّ أنّ أحدًا لا يلومك. يقدّرون ما تفعله، سلاح مقدّس هو الجسد، غير معرّض للنقد طالما كان موجًّها ضدّ قوى الاستعمار والظلم؛ من يستطيع أن يجبرك على الطعام، لا شيء، لا أحد.

 

«حاصر حصارك»

حين بدأنا حملة الامتناع عن الطعام اعتقدت أنّ الأمر سيكون صعبًا، لكنّني اكتشفت أنّ جوع الكرامة لهو أمر أكثر حسمًا من أيّ جوع آخر، بل أكثر سهولة. لا شيء يغريك، لا رائحة الموز أو رؤية الخبز، لا شيء، أتسوقّ، أمشي داخل المخابز ولا شيء يحرّكني. يأكل أفراد العائلة بجانبي فأنهرهم مزاحًا، فأنا لا أرى الطعام، بل أرى عينا أبو هوّاش اللتان ضاعتا في التعب والغياب. لم تعنيني رائحة الطعام وأنا الّتي أعاني مع أنظمة غذائيّة متعدّدة كلّ فترة لأصل إلى الوزن المثاليّ. بل تتردّد في رأسي عبارة واحدة بالإنجليزيّ من أحد الأفلام الّتي شاهدتها مؤخّرًا:"الطعام مُقرف.. Food Sucks".

إنّ الجسد سلاح قويّ حين يُعْجِزُكَ العدوّ عن القتال، والأهمّ أنّ أحدًا لا يلومك. يقدّرون ما تفعله، سلاح مقدّس هو الجسد...

 

تركت النشاط الحقوقيّ منذ فترة طويلة واكتفيت بالكتابة، لكنّني شعرت هذه المرّة أنّ أبو هوّاش لم يأخذ من البداية حظّه الإعلاميّ والتضامنيّ الّذي يستحقّه، ما أصابني بالخوف أنّ هذا قد يدفع الاحتلال إلى إهمال قضيّته بعكس الأسيرين كايد فسفوس ومقداد القواسمي الّلذين خاضا أيضًا معه إضرابًا عن الطعام وتمكّنا من انتزاع حرّيّتهما. لذلك أعلنت الإضراب حين شعرت أنّ الاحتلال يريد موته.

لم أكن متأكّد من استجابة المحيطين، إلى أن بدأت تصلني عديد الرسائل الداعمة يوميًّا وأخرى تعلن المشاركة في الإضراب، ورسائل أخرى سعيدة بالحملة التضامنيّة. لم أكن أتوقّع هذا التفاعل، فقد اعتقدت أنّ روتينيّة أيّ قضيّة كقضيّة الأسرى وتكرار المعاناة وتشابه أحداثها سيدفع إلى موتها مع مرور الوقت. لكن، ثبت أنّ ذلك ليس صحيحًا. ثمّة عواطف لا تصبح روتينيّة، خاصّة أنّ الوحدة الّتي ظهر فيها أبو هوّاش في صوره من غرفة المستشفى المحتجز داخلها، جعلت الناس يتحرّكون مندفعين كأنّهم تذكّروه فجأة، وعادوا إليه.

أطلقنا على الحملة التضامنيّة اسم «حاصر حصارك»، عبارة درويش الشهيرة، فليس ثمّة ما هو أكثر فعاليّة من مواجهة الحصار بحصار، والألم بألم، والسجن بالجوع، وعقاب العدوّ بالمصير ذاته الّذي اختاره لك. حاصروك بالقضبان فحاصرت نفسك بالجوع، وسادت إرادتك، فتخبّطوا. وهذا ما حدث في محاولات اقتحام المتطرّفين الإسرائيليين لغرفة الأسير أبو هوّاش في محاولة لحجب ضوئه المنبعث من جسده الضئيل الّذي بالكاد يزن 39 كيلو غرام.

كانت تجربة تغليب الذهن على البيولوجيا جديدة وقويّة، وهي مسألة كرامة أيضًا: تَحَقُّق الإنسان. كان لا يمكن حتّى أن أذوق طعامًا أطبخه، ولم أكن وحدي في ذلك، فجميع المتضامنين الّذين وصل عددهم في آخر الساعات إلى عشرين من دول مختلفة، شعروا ببعض الهزال والدوار، ولكنّ ذلك لم يُزعزع إرادة أيّ منهم عن الاستمرار في الإضراب، حتّى المتضامن المريض بداء السكّريّ. لكن ماذا لو استمرّينا إلى 141 يومًا مثلما فعل الأسير المحرّر الّذي غابت حواسّه عن كلّ ما حوله إلّا التنازل عن قضيّته، وبقيت الـ «لا» عصيّة عن العمى، والخرس، ولم تختلط بالألم، بل خرجت في كلّ مرّة واضحة قويّة ردًّا على أيّ اتّفاق ترسله مخابرات الاحتلال إلى غرفته.

ليس ثمّة ما هو أكثر فعاليّة من مواجهة الحصار بحصار، والألم بألم، والسجن بالجوع، وعقاب العدوّ بالمصير ذاته الّذي اختاره لك...

 

ولأنّني كنت جزءًا من مبادرات كثيرة من قبل، أردت من المتضامنين والمتضامنات المضربين والمضربات عن الطعام خلال عملهم، ودراستهم، وأسفارهم، أن يتحدّثوا إلى الوسائل الإعلاميّة حين جاءت لتجري المقابلات. كنّا نعرف أنّ الفعل نفسه أهمّ من التسويق له، أن نتعلّم ونجرّب أنفسنا في أزمات ومواقف مختلفة، أن نزيح عن أنفسنا الخلاص الفرديّ ونجرّب معًا الخلاص الجماعيّ الّذي يختلف عن تجربة الحرب والانقسام الّتي عايشناها في قطاع غزّة. بل كان خلاصًا اختياريًّا نبتغي منه الشفاء، أليست فلسفة الحقّ أهمّ من الحديث عن الحقّ نفسه؟

تمضي الساعات، أذهب إلى الحمّام كثيرًا بسبب المياه الّتي ملأت جسدي، أتمشّى كلّ يوم. لا أريد من التعب أن ينال منّي، أسجّل مقاطع فيديو ليلًا كي أخفي الإرهاق. لم أكن أريد المتاجرة بما يحدث، أردت للأشياء أن تكون طبيعيّة كما هي، كما لو أنّني قرّرت ممارسة رياضة روحانيّة ما، والتحدّث عنها. أردت أن نسانده دون صراخ، لا أريد أن يصبح دعمنا مغشوشًا. لقد عاصرت تطلّعات كثيرة، وخرجنا لنحقّق آمالًا كثيرة في فلسطين، من إنهاء الانقسام إلى الربيع العربيّ ومرورًا بالوحدة الوطنيّة، والنجاة من ثلاثة حروب. بدأت وشاركت في الكثير من المبادرات الشبابيّة، والنسويّة، والحقوقيّة، وأعرف متى يصبح الخطاب مغشوشًا ذو رائحة نتنة، يُباع أو يُشترى في الممرّات السرّية بسبب نفاق قائد أو خوف نسويّة جبانة، أو شابّ باع نفسه دون رجعة. لقد أصبحت روحي غربالًا من ثقوب الخذلان ولذلك أردت إنقاذ أبو هوّاش ولو من نفسي.

 

الفرح الناقص

في اليوم الثالث لإضرابنا خرجت صباحًا لآخذ ابنتي من المدرسة حيث كانت في حصّة خاصّة تساعدها على التخلّص من عسر القراءة. كانت لا تزال قلقة وسألتني:"ألا يزال ذلك المسيو لا يأكل؟"، "نعم، لا زال مسجونًا". كانت تحدّثني ونحن في الحافلة عندما فتحت هاتفي ووجدت رسالة في «الماسنجر» من رجل سوريّ اعتدنا داخل مجموعة من الأصدقاء مساعدته. يعيش في خيمة في إدلب، وهو رجل عجيب كان كلّ ما دعا لنا دعوة تحقّقت. كتب لي في رسالته:"سيفكّ ربّنا بإذنه تعالى كرب الأسير"، فابتسمت في داخلي، وقلت اليوم سيُفْرَجُ عن أبو هوّاش، ولا أدري الآن إذا ما كانت دعواته ستظلّ مستجابة بعد أن كتبت عنه أم لا؟!.

قريبًا من وقت العشاء وصلت الأخبار عن توقيع اتّفاق، فكتبت اسأل عن صحّة الأمر. أقلقَني منشور زوجته، العالم سعيد بينما أنا غاضبة وأشعر أنّها لعبة من السلطة الفلسطينيّة، أو من الاحتلال لكسر التضامن العالميّ. لكنّني كنت أكسر فرحَتي، كما أفعل دائمًا، لم أعتد أن أصدّق الفرح كاملًا مكتملًا، اعتدت نصف الأفراح أو ربعها، وحين تأتيني كاملة لا أصدّقها.

أردت من المتضامنين والمتضامنات المضربين والمضربات عن الطعام أن نزيح عن أنفسنا الخلاص الفرديّ ونجرّب معًا الخلاص الجماعيّ...

 

حدث ذلك عندما أبلغتني أختي فاطمة، وهي الطبيبة الآن، قبل عشر سنوات، أنّ معدّلها 98,2% وبينما الجميع يصرخ ويهلّل فرحًا، ما عداي أقول لهم:"انتظروا قليلًا حتّى نتأكّد..". كسرت فرحتهم وفرحتي، علّهم يسامحونني يومًا على شكّي الدائم بالحياة، وخوفي من السعادة. تكرّر الأمر في حياتي الشخصيّة كثيرًا، وعاد مع إعلان توقيع أبو هوّاش.

بعدها بدقائق رأيت أوّل مقطع فيديو فيه يرفعُ الأسير المحرّر أبو هوّاش علامة النصر، وأخذت التمرات من ابنتي زينة، وشكرت المتضامين والمتضامنات. عندها عرفت لماذا يفرح الناس قبل الأوان، لأنّ هذا ما يفعله الطبيعيّون، لا يخافون الفرح، يأخذونه ولو من بين أنياب الموت.

 


 

أسماء الغول

 

 

 

كاتبة فلسطينيّة مقيمة في فرنسا، صدر لها كتاب مشرتك في الروائيّ سليم نصيب (2016) ««L’insoumise de Gaza، ترجم إلى الإنجليزيّة والروسيّة، ولها مجموعات قصصيّة أخرى صدرت في كوريّا الجنوبيّة وبريطانيا.  

 

 

التعليقات