07/01/2022 - 21:13

عدوّ عدوّي أيضًا عدوّي: عنصريّون بيض في مواجهة الإمبرياليّة

عدوّ عدوّي أيضًا عدوّي: عنصريّون بيض في مواجهة الإمبرياليّة

من تظاهرة للحركة الاشتراكيّة الوطنيّة في واشنطن | حراز نغباري/ أب

 

عند الحديث عن العنف العرقيّ أو الدينيّ، تكون ردود الفعل والسرديّات غالبًا مبسّطة. حتّى السرديّة الحقوقيّة التقاطعيّة ليست ناجحة كثيرًا في مقاربة هذا الموضوع، الّتي ترى أنّ محاربة التشدّد الدينيّ والتمييز العنصريّ تتقاطع مع محاربة الإمبرياليّة والاستعمار الجديد وطبقة رأس المال؛ أي أنّ ثمّة فريقين بحسب هذه السرديّة، أحدهما خيّر (تقدّميّ، نسويّ، يساريّ، جذريّ، متسامح، لاعنفيّ)، والثاني شرّير (رجعيّ، أبويّ، رأسماليّ، عنصريّ، عنيف). إلّا أنّ هذه السرديّة سرعان ما يظهر قصورها في حالات مثل نشوب الصراع بين الإمبرياليّة والجماعات المتطرّفة، خاصّة العنصريّة البيضاء؛ فإذا كانت الإمبرياليّة عنصريّة بيضاء فكيف تحارب العنصريّين البيض؟ وإذا كان العنصريّون البيض أبناء الإمبرياليّة فلماذا يحملون السلاح في وجهها؟

 

مستوطنون قدماء في معاداة الإمبرياليّة

تختلف ‘ثوريّة‘ المستوطنين البيض في الأطراف ضدّ المركز الأوروبّيّ عن الثوريّة المعادية للاستعمار والإمبرياليّة الأوروبّيّة، لدى السكّان الأصليّين في آسيا وأوروبّا والأمريكتين. من ناحية، حمل هؤلاء السلاح ضدّ إمبراطوريّتهم الأمّ بعد عمليّة تراكم تاريخيّ لاحق للاستعمار، أدّت إلى بناء الهويّة الوطنيّة ‘الجمهوريّة‘ الخاصّة بالمستوطنين في مواجهة الهويّة ‘الملكيّة‘ في المركز، كما حصل في ثورات الأمريكتين ضدّ الإمبراطوريّات الأوروبّيّة، ومن ناحية أخرى، وجد المستوطنون أنفسهم في كثير من الأحيان يحاربون إمبراطوريّة أوروبّيّة غير إمبراطوريّتهم الأمّ؛ ممّا أضاف إلى تشكيل هويّتهم، كما حدث في حرب السنوات السبع البادئة عام 1756، عندما هُزِمَ المستوطنون الفرنسيّون في كندا على يد الإمبراطوريّة البريطانيّة، وفي «حرب البوير» عام 1899، عندما هُزِمَ المستوطنون الهولنديّون في جنوب أفريقيا على يد البريطانيّين كذلك.

ثورة المستوطنين الأمريكيّين على الإمبراطوريّة البريطانيّة، الّتي أدّت إلى تأسيس الولايات المتّحدة عام 1776، فقد اتّخذت منحًى رجعيًّا قائمًا على العنصريّة والعبوديّة والتوسّع الاستيطانيّ شرقًا...

ومع أنّ هذه الثوريّة المعادية للإمبرياليّة نشأت في أساسها برجوازيّة وعنصريّة، إلّا أنّ مدى تخلّيها عن العنصريّة واعتناقها للتعدّد الثقافيّ اختلف بحسب السياق؛ فثورات أمريكا اللاتينيّة الواقعة في القرن التاسع عشر اتّجهت إلى منحًى تحرّريّ معادٍ للتمييز العنصريّ، على نحو ساهم في بناء هويّة جمهوريّة، تعلو على الهويّات العرقيّة الضيّقة، ومواطنة متساوية، ونظام سياسيّ ديمقراطيّ يعتبر التمييز العنصريّ تصرّفًا غير وطنيّ[1]، (مع العلم كذلك بأنّ ثورات أمريكا الجنوبيّة لم تؤدِّ إلى تأسيس أنظمة إمبرياليّة توسّعيّة كما حدث في الشمال)، أمّا ثورة المستوطنين الأمريكيّين على الإمبراطوريّة البريطانيّة، الّتي أدّت إلى تأسيس الولايات المتّحدة عام 1776، فقد اتّخذت منحًى رجعيًّا قائمًا على العنصريّة والعبوديّة والتوسّع الاستيطانيّ شرقًا، والحرب الإباديّة على السكّان الأصليّين، وقد اعتنق ثوريّةَ الآباء المؤسّسين هذه المستوطنون الجنوبيّون في صراعهم ضدّ الحكومة (الاستعماريّة) الفيدراليّة في الحرب الأهليّة الأمريكيّة البادئة عام 1861. أمّا هزيمة المستوطنين الهولنديّين في «حرب البوير» عام 1899، فقد كانت عاملًا أساسيًّا في اتّجاه الهويّة المهزومة إلى أقصى اليمين، وصولًا إلى صعود القوميّة الأفريكانيّة العنصريّة البيضاء، وتدشين دولة الفصل العنصريّ في جنوب إفريقيا[2].

 

انحراف أيديولوجيّ

في نهايات حقبة حركة الاستقلال الوطنيّ في العالم الثالث في القرن العشرين، خفت العمل السياسيّ المسلّح المعادي للإمبرياليّة، وظهرت أيديولوجيّات دينيّة وعرقيّة تتبنّى هذا الخطاب، بما يشمل الحركات الجهاديّة المسلّحة في الشرق الأوسط، هذا بالإضافة إلى تبنّي الخطاب المعادي للإمبرياليّة من قِبَل الأنظمة السلطويّة في العالم الثالث، بما يشمل الدول العربيّة، وتبنّي الإمبرياليّة ذاتها خطاب معاداة الإمبرياليّة، مثل خطاب رونالد ريغان، الّذي وصف الاتّحاد السوفييتيّ بـ "إمبراطوريّة الشرّ".

وبعد نهاية الحرب الباردة، وجد العنصريّون البيض أنفسهم في إمبراطوريّة جديدة تختلف عن إمبراطوريّتهم الأمّ، وهنا ظهرت في فترة التسعينات من القرن الماضي حالات اشتباك مباشر في الولايات المتّحدة، بين عدد من الحركات المسلّحة اليمنيّة المحلّيّة والحكومة الأميركيّة، وفي الفترة الواقعة بين عامَي 2008 و2012، زاد عدد الميليشيات المتطرّفة المسلّحة المعادية للحكومة في الولايات المتّحدة، من 149 إلى 1360 جماعة. وفي حقبة صعود اليمين البديل، تبنّى هؤلاء سرديّة معاداة الإمبرياليّة، بالإضافة إلى سرديّات أخرى، مثل سرديّة معاداة النيوليبراليّة ومعاداة الدولة العميقة.

قوم الانحراف الأيديولوجيّ في مناهضة الإمبرياليّة هنا على أساسين: أوّلهما اعتناق أيديولوجيّات فئويّة إقصائيّة تكفيريّة وعنصريّة، وثانيهما إباحة تلك الأيديولوجيّات مهاجمة المدنيّين العُزَّل...

"هذه هي لحظة عام 1776"، أشار بعض محرّضي مهاجمي مبنى «الكابيتول»، في كانون الثاني (يناير) من عام 2021، رابطين بين ‘ثوريّة‘ المؤسّسين الآباء و‘ثوريّة‘ المقتحمين. أمّا منفذ «مجزرة كرايستشيرش»، في عام 2019 ضدّ الجالية المسلمة في نيوزيلندا، فقد ذكر معاداة الإمبرياليّة الأميركيّة كأحد أهداف المجتمع المستقبليّ الّذي يريد بناءه، وذكر بالتفصيل أنّه يهدف إلى بَلْقَنَة الولايات المتّحدة إلى دول عرقيّة، ليس فقط من أجل إقامة دول إثنيّة تحافظ على العرق الأبيض في شمال أميركا، بل من أجل إضعاف الهيمنة الأميركيّة حول العالم.

يقوم الانحراف الأيديولوجيّ في مناهضة الإمبرياليّة هنا على أساسين: أوّلهما اعتناق أيديولوجيّات فئويّة إقصائيّة تكفيريّة وعنصريّة، وثانيهما إباحة تلك الأيديولوجيّات مهاجمة المدنيّين العُزَّل وقتلهم بأساليب ترهيبيّة، بدلًا من العنف السياسيّ ضدّ المصالح الحيويّة للإمبرياليّة. لكن سواء كان هنالك ‘تبييض‘ أو ‘أسلمة‘ لهذا التطرّف، أو كان هنالك ‘تبييض‘ أو ‘أسلمة‘ للعمل السياسيّ المسلّح، فالسبب البنيويّ وراء كلّ ذلك يعود، كما يقول المفكّر السلوفينيّ سلافوي جيجك، إلى أنّ الرجعيّة والفاشيّة دائمًا ما تصعد على أعقاب فشل اليسار أو فشل الثورة اليساريّة؛ أي فشل اليساريّين في حقبة العولمة، وبعد نهاية الحرب الباردة، في تشكيل جبهة إدماجيّة غير فئويّة، غير عنصريّة، غير دينيّة، معادية للإمبرياليّة.

 

تضليل

تشارك نخبة الإمبرياليّة الثقافيّة والأكاديميّة والصحافيّة في تضليل أيديولوجيّ، قائم على المشاركة (مع المتطرّفين) في عمليّة ‘تبييض‘ أو ‘أسلمة‘ التطرّف، بل تقوم تلك النخبة بإيجاد روابط بين العنصريّين البيض والجهاديّين الإسلاميّين. بعد أحداث «شارلوتسفيل» عام 2017، رفض دون ليمون، المذيع ذو الأصول الإفريقيّة على قناة «CNN» وجود تمثال أو مدرسة باسم الجنرال الكونفدراليّ روبرت أي لي، واعتبر أنّ ذلك لا يختلف عن إقامة تمثال أو تسمية مدرسة باسم أسامة بن لادن. وبعد هجمة «الكابيتول»، أثنى الكوميديّ الأميركيّ ذو الأصول الفلسطينيّة، ديين عبيد الله، في مقالة له على موقع «CNN» على جورج بوش الابن، الّذي ربط بين هجمة المتطرّفين المحلّيّين على «الكابيتول» وهجمات «القاعدة» في الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، ووصفهما معًا هجمات ضدّ رموز وصروح وطنيّة أميركيّة.

هذا التضليل يهدف إلى ‘تبييض‘ أو ‘أسلمة‘ أيّ عنف مناهض للإمبرياليّة، حتّى لو لم يكن عنفًا متطرّفًا أو دينيًّا أو عرقيًّا في أساسه، وذلك من أجل نزع صفته عنه عملًا سياسيًّا، ومقاربته كعمل ‘غير أخلاقي‘ وعدميّ وفاقد لأيّ شرعيّة. يشير الأكاديميّ ريتشارد جاكسون إلى أنّ الإرهاب يمثّل تابو معاصرًا، ويتطلّب الانهماك المستمرّ في طقوس الإدانة الأخلاقيّة له، حتّى من الأكاديميّين الّذين يحاولون جمع المعلومات عنه، هذا ما يؤدّي إلى اعتناق سياسات معاداة المعرفة؛ أي رفض الأسباب والدوافع السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة وراء وقوع مثل هذا العنف (بما يشمل الدوافع المعادية للإمبرياليّة)، والاكتفاء بالأسباب الأخلاقيّة والثقافويّة[3].

يجد اليسار الجديد اللاعنفيّ الصاعد (...) ذاته أمام خيارين، إمّا أن يصبح متماهيًا مع الإمبرياليّة، وإمّا أن يرفضها ويرفض مصادرتها للتسامح العرقيّ والجندريّ...

هذا التضليل الأيديولوجيّ هو أكثر خطورة، في حالة العنف العنصريّ الأبيض منه في حالة العنف الجهاديّ؛ إذ من السهل، بعد عشرين عامًا من الحرب على الإرهاب، كشف النوايا التوسّعيّة والإمبرياليّة والسلطويّة عند الحديث عن محاربة العنف الجهاديّ، أمّا في حالة محاربة العنف الأبيض، فيصل التضليل الأيديولوجيّ إلى أعلى مراحله، ذلك لأنّ ‘تبييض‘ العنف المعادي للإمبرياليّة يعني أيضًا ‘تذكيره‘، ويعني في المقابل ‘تأنيث‘ و‘تلوين‘ الإمبرياليّة؛ حيث تصادر، وتستغلّ، شركات تصنيع السلاح، والجيوش، والأجهزة الاستخباراتيّة الغربيّة، الأيديولوجيّات القائمة على التسامح والتعدّد العرقيّ والجندريّ.

في ذات الوقت، يجد اليسار الجديد اللاعنفيّ الصاعد، في أعقاب فشل اليسار القديم، يجد ذاته أمام خيارين، إمّا أن يصبح متماهيًا مع الإمبرياليّة، وإمّا أن يرفضها ويرفض مصادرتها للتسامح العرقيّ والجندريّ، ويستمرّ في إعلان مناهضته المبهمة والغامضة للآثار الإمبرياليّة؛ أي السلطويّة والاستعمار الجديد وطبقة رأس المال النيوليبراليّة، من دون أيّ خطّة حقيقيّة على أرض الواقع. 

 


إحالات

[1] Lasso, M. (2006). Race War and Nation in Caribbean Gran Colombia, Cartagena, 1810–1832. The American Historical Review, 111(2), 336–361.

[2] Dhanagare, D. N. (1967). Apartheid—Its Theory and Practice in South Africa. India Quarterly, 23(4), 338–361. http://www.jstor.org/stable/45071222

[3] Jakson, R. (2015) The epistemological crisis of counter-terrorsim. Critical Studies on Terrorism. volume 32, issue 1. pp.33-54   

 


 

فخري الصرداوي

 

 

كاتب وقاصّ من رام الله. يعمل في مجال القانون الدوليّ والعلوم السياسيّة، حاصل على الماجستير في العمل الدوليّ الإنسانيّ من «جامعة ديوستو» في إقليم الباسك. يهتمّ بالكتابة الساخرة من المجتمع التقليديّ، ومن ثقافة الصوابيّة السياسيّة على حدّ سواء.

 

التعليقات