15/01/2022 - 17:08

فكرة التاريخ بين كولنجوود وابن خلدون

فكرة التاريخ بين كولنجوود وابن خلدون

كولنجوود وابن خلدون

 

علم/ فنّ

إنّ المنهجيّة المتعارف عليها في المعرفة التاريخيّة، إعادة صياغة أحداث من الماضي وفق معايير يحدّدها المؤرّخ لما يتوافق مع رؤيته ومنهجيّته لتلك الأحداث، إلّا أنّ مظاهر الاختلاف تكمن في كيفيّة توظيف تلك المعايير أثناء دراسة حقبة تاريخيّة ما، وقد اهتمّ المؤرّخ البريطانيّ كولنجوود بدراسة تلك الكيفيّة في كتابه «فكرة التاريخ» (1926-1928)، الّذي يُعَدّ من المؤلّفات النظريّة المهمّة، الّتي درست التاريخ وفق رؤية فلسفيّة فكريّة متوافقة مع الفكر الهيغليّ والكانطيّ على وجه التحديد.

يُعَرِّف كولنجوود التاريخ بأنّه "علم من نوع خاصّ، هو علم ينصرف إلى دراسة الأحداث الّتي لا سبيل لنا إلى مشاهدتها الآن، دراسة تستند إلى الاستدلال، نستطرد فيها استنادًا إلى شيء آخر نستطيع مشاهدته - وهو ما يسمّيه المؤرّخ ‘المادّة التاريخيّة‘ - لدراسة الأحداث الّتي يهتمّ بدراستها"[1]؛ بمعنى التحكيم العقليّ لاكتشاف الأحداث المجهولة والغائبة عن ذهن الآخرين، بالاستعانة ببعض الموادّ التاريخيّة المساعدة على توثيق تلك الأحداث، كالوثائق والمخطوطات والمعالم الأثريّة وغيرها.

«فكرة التاريخ» (1926-1928) (...) يُعَدّ من المؤلّفات النظريّة المهمّة، الّتي درست التاريخ وفق رؤية فلسفيّة فكريّة متوافقة مع الفكر الهيغليّ والكانطيّ...

أمّا ابن خلدون فيعرّف التاريخ بأنّه "فنّ من الفنون الّتي تتداوله الأمم والأجيال (...) وتتنافس فيه الملوك والأقيال، ويتساوى في فهمه العلماء والجهّال؛ إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار الأيّام والدول، والسوابق من القرون الأُوَل، تنمو فيه الأقوال، وتُضْرَب فيه الأمثال، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيّات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يُعَدّ في علومها وخليق"[2]، ويفسّر هذا التعريف الرؤية الأولى لمنهجيّة ابن خلدون في فلسفة التاريخ، ويتمثّل ذلك في سمة «الفنّ» الّتي تشير إلى النزعة التأمّليّة الّتي تغلب على فكره، ويُفْهَم من التعريف، طرائق فهم التاريخ، والممثّلة بـ: الفهم الظاهر، الّذي يمكن أن تدركه عامّة الناس، والفهم الباطن، وهو النزعة الفكريّة الّتي تؤهّل القراءة الثانية للحدث التاريخيّ، الممثّلة بآراء المؤرّخ وتعقيباته على الحدث المنقول، مضيفًا من خلالها رؤيته الخاصّة به، والمغايرة عن غيره من الدارسين.

 

جمع المقتطفات

أمّا دراسة التاريخ، وفق رؤية كولنجوود، فتقوم على مرحلتين مهمّتين: الأولى؛ مرحلة العصور القديمة، وهي المرحلة الّتي كانت فيها دراسة التاريخ تعتمد على ما يُسَمّى بـ «جمع المقتطفات»[3]، حيث يعتمد فيها المؤرّخ "اعتمادًا كلّيًّا على شهادة الثقات"، ويقوم على: الابتداء بتحديد الموضوع الّذي يريد المؤرّخ أن يعرف عنه شيئًا، ثمّ يعمد إلى البحث عمّا ورد في هذا الموضوع، سواء أكتابة كان أم مشافهة، ومتى وجد في مثل هذا البحث ما يتّصل بموضوعه، يقتبس منه شيئًا ويدمجه فيه، أو يعيد صياغته في أسلوب يعتقد أنّه يناسب الموضوع الّذي اختاره"[4]، وهذا النوع من الدراسات لم يقتصر وجوده في العصور القديمة فحسب، بل ما زال حاضرًا في كتابات الكثير من المؤرّخين المعاصرين، الّذين يجعلون من مؤلّفاتهم سلسلة من الروايات المنقولة ممّا كتبه السابقون، مع مراعاة "الدقّة" في النقل، والابتعاد عن المغالطات الّتي تؤدّي إلى الفهم الخاطئ للأحداث المؤرّخة.

وأشار ابن خلدون إلى «جمع المقتطفات» من قبل، عندما تحدّث عن أنواع الكتابات التاريخيّة الّتي لجأ إليها بعض المؤرّخين العرب القدماء، "فمنهم من جمع تواريخ الأمم والدول، وأعادوا كتابتها في صحفهم المتأخّرة، كابن مسعود والطبريّ وابن الكلبيّ، ومنهم مَنْ انصرف إلى الاختصار والتقيّد بتاريخ دولته أو منطقته، ومثال ذلك ما فعله أبو حيّان مؤرّخ الأندلس والدولة الأمويّة، وابن الرفيق مؤرّخ الدولة الأفريقيّة، ومنهم بعض المؤرّخين المقلّدين، الّذين اكتفوا بنسج الأخبار على منوال سابقيهم"[5].

أشار ابن خلدون إلى «جمع المقتطفات» من قبل، عندما تحدّث عن أنواع الكتابات التاريخيّة الّتي لجأ إليها بعض المؤرّخين العرب القدماء...

الفرق بين رؤيتَي كولنجوود وابن خلدون، أنّ الأوّل يرى أنّ «جمع المقتطفات» ليس من التاريخ؛ لأنّه عبارة عن اقتباسات مباشرة دون إضافات نوعيّة إلى الحدث التاريخيّ المكتوب، وهذه رؤية طبيعيّة؛ لأنّ كولنجوود متأثّر كثيرًا برؤية هيغل وكانط وفيكو في دراسة الحدث التاريخيّ، وهي دراسة تقوم على ما يسمّى بــ «الفكر التاريخيّ»، الّذي يدرس كلّ الجوانب المختلفة من التاريخ، أمّا ابن خلدون فنظريّته متطوّرة في حدود عصره؛ بمعنى أنّ ما قدّمه في حدود الفلسفة الخلدونيّة المتأثّرة بالفكر اليونانيّ القديم، و«جمع المقتطفات» من الأفكار الّتي كانت شائعة في عصره، ولكن الكيفيّة الّتي كانت تقوم عليها عمليّة الجمع تختلف من مؤرّخ إلى آخر، وبالتالي فإنّ ابن خلدون درسها وفق النقاط الثلاث السابقة، من باب التوسّع والاختصار والتقليد؛ ليضع بعدها شروطًا مهمّة للنقل عن الرواة الثقات، وهي شروط مهمّة تتّفق مع جزئيّة بسيطة من المرحلة الثانية من مراحل دراسة التاريخ، الّتي سيتحدّث عنها كولنجوود، وتتمثّل تلك الشروط في: "عدم الاعتماد على الغثّ والسمين من بعض الحكايات والوقائع، ويجب على المؤرّخ الناقل أن يردّ المنقول إلى أصوله، ويجب عليه أن يسبر حكاياته بطابع الحكمة والنظر والبصيرة في الأخبار المنقولة"[6]، ويُفْهَم من هذا القول أنّ التأمّل والدقّة في النقل هما المركزيّة الأساسيّة الّتي يجب على المؤرّخ التقيّد بها أثناء عمليّة النقل.

 

المؤرّخ العلميّ

أمّا المرحلة الثانية الّتي تحدّث عنها كولنجوود في ما يتعلّق بدراسة التاريخ، فتتمثّل في: المرحلة الحديثة أو المعاصرة، ونشأ فيها حركتان جديدتان: "الأولى انصرفت إلى دراسة التاريخ دراسة علميّة تحليليّة لما ورد عن الثقات الرواة، تستهدف تحديد مبلغ رواياتهم من الصدق، وبصفة خاصّة، دراسة الأسس الّتي يمكن أن تحدّد مدى هذا الصدق والاعتماد عليه"[7]؛ بمعنى دراسة الحدث التاريخيّ وكأنّه نظريّة علميّة، تحتاج إلى الفكر العقليّ، والنظرة الشموليّة للإحاطة بالجوانب التاريخيّة كافّة، ومثال ذلك الجهود الفكريّة الّتي قام بها الفيلسوف الإيطاليّ فيكو، والفيلسوفان الألمانيّان هيغل وكانط؛ معتبرين التاريخ وسيلة مرنة، يمكن من خلاله دراسة المعارف المختلفة للحقبة التاريخيّة المدروسة، وعلّنا نستطيع أن نلمس هذه الحركة في الجزء الأوّل من تاريخ ابن خلدون، المعروف بـ «المقدّمة»، الّذي خصّصه لدراسة الأحوال السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والدينيّة، وعلوم الأدب واللغة، وغيرها، قبل الدراسة التتابعيّة لأخبار الأمم السابقة وأيّامها؛ ولذلك يُعَدّ هذا الجزء من الميزات الّتي انفرد بها ابن خلدون عن غيره من مؤرّخي عصره، في توظيفه لمنهجه الخاصّ للتدوين التاريخيّ، القائم على الدقّة في نقل الأخبار، وتكوين أحداث جديدة عليها؛ ولذلك يصف تاريخه بقوله: "وأبديت فيه لأوّليّة الدولة والعمران عللًا وأسبابًا، وبنيته على أخبار الأمم الّذين عمروا المغرب في هذه الأعصار (...) وهذّبت مناحيه تهذيبًا، وقرّبته لأفهام العلماء والخاصّة تقريبًا، وسلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكًا غريبًا، واخترعته من بين المناحي مذهبًا عجيبًا، وطريقة مبتدعة وأسلوبًا، وشرحت فيه من أحوال العمران والمدن والتمدّن، وما يعرض في الاجتماع الإنسانيّ (...) حتّى تنزع من التقليد يدك، وتقف على أحوال ما قبلك من الأيّام والأجيال وما بعدك"[8].

من سمات «المؤرّخ العلميّ» "قراءة المصادر التاريخيّة السابقة على ضوء سؤال في عقله"، وقارئ تاريخ أنساب بعض الشخصيّات في كتاب ابن خلدون، على سبيل المثال، يجد التفسير المنطقيّ في معرفة أصول تلك الشخصيّات...

وبناء على وصف ابن خلدون السابق، يمكن أن نضفي عليه لقب «المؤرّخ العلميّ»، الّذي نظّر له كولنجوود، عندما أراد التمييز بين تاريخ «جمع المقتطفات»، والتاريخ القائم على الدراسة الفكريّة. ومن سمات «المؤرّخ العلميّ» "قراءة المصادر التاريخيّة السابقة على ضوء سؤال في عقله"[9]، وقارئ تاريخ أنساب بعض الشخصيّات في كتاب ابن خلدون، على سبيل المثال، يجد التفسير المنطقيّ في معرفة أصول تلك الشخصيّات.

أمّا الثانية "فكانت تستهدف توسيع نطاق المصادر الرئيسيّة للتاريخ، وذلك عن طريق الاستفادة من المصادر غير المكتوبة، كالعملات والنقوش وغيرها"[10]، ونجد الكثير من المؤرّخين العرب في القرن العشرين نهجوا هذه الحركة في توثيق تاريخ بعض الشعوب والحضارات المختلفة في المنطقة العربيّة، بالإضافة إلى أنّ هذه الوسيلة تتّسم بالدمج المعرفيّ بين التاريخ وغيره من الفنون الإنسانيّة المختلفة، كمعرفة آداب تلك الشعوب وثقافاتها على سبيل المثال، ويُعَدّ كتاب «مصادر الشعر الجاهليّ» لناصر الدين الأسد من الأمثلة المهمّة للتعريف بقيمة «النقوش» لتحليل ثقافة الشعوب العربيّة القديمة؛ ليستنتج من خلالها الطبيعة المعرفيّة الغنيّة الّتي كانت حاضرة لدى الحضارات العربيّة القديمة، وهو الّذي مهّد السبيل أمام روّاد المنهج الأسطوريّ لتفسير الأبعاد الأيديولوجيّة لدى شعراء العصر الجاهليّ؛ ليخلصوا إلى أنّ الحياة الجاهليّة كانت مهدًا من العلوم والثقافات المختلفة.

 


إحالات

[1] ر.ج. كولنجوود، فكرة التاريخ، ترجمة محمّد بكير خليل (لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1961)، ص435.

[2] ابن خلدون، المقدّمة، تحقيق عبد الله محمّد الدرويش، ط1 (دمشق: دار يعرب، 2004)، ص81.

[3] كولنجوود، فكرة التاريخ، ص 444.

[4] المرجع السابق، ص 444.

[5] ابن خلدون، المقدّمة، ج1، ص 83.

[6] االمرجع السابق، ص 92.

[7] كولنجوود، فكرة التاريخ، ص 445.

[8] ابن خلدون، المقدّمة، ج1، ص 86.

[9] كولنجوود، فكرة التاريخ، ص 463.

[10] المرجع السابق، ص 446.

 


 

حسني مليطات

 

 

 

باحث وأكاديميّ ومترجم فلسطينيّ، حاصل على درجة الدكتوراه من «جامعة أوتونوما» في مدريد، متخصّص في الأدب المقارن والدراسات الثقافيّة والفنّيّة، يعمل أستاذًا مساعدًا في «الجامعة العربيّة الأمريكيّة» في فلسطين.

 

 

التعليقات