24/01/2022 - 18:24

الفلسطينيّات المصابات بسرطان الثدي | السياق الاستعماريّ (1/5)

الفلسطينيّات المصابات بسرطان الثدي | السياق الاستعماريّ (1/5)

 

سأتناول عبر سلسلة من خمس مقالات سياسات التحكّم بأجساد النساء الفلسطينيّات المصابات بسرطان الثدي، بوصفهنّ يخضعن لعنف بنيويّ استعماريّ وآخر محلّيّ في فلسطين. وذلك استنادًا إلى كتاب «هندسة الاضطهاد: سياسات التحكّم بالأجساد الصامتة» (2021).

في هذه المقالة، سأقدّم للكتاب من خلال استعراض منهجيّة العمل البحثيّ الإثنوغرافيّ الّتي اعتمدتْ على إجراء مقابلات شخصيّة مع نساء مصابات بالسرطان في كلّ من قطاع غزّة والضفّة الغربيّة، وأيضًا من خلال عرض أهمّيّة البحث في أصوات النساء المصابات بسرطان الثدي بوصفهنّ أجسادًا مهمّشة بِلا سرديّة تُفْرِدُ لهنَّ المساحات اللازمة لسرد قصصهنّ الخاصّة بعيدًا عن الخطابات المهيمنة. أمّا بقيّة مقالات السلسلة، فستتناول فصول الكتاب الأربعة.

 

تقديم

"إّنه صباح باكر من صباحات شهر كانون الأوّل، من العام 2018، قلت في نفسي وأنا ألملم شعري بملقط أسود، الحمد لله أخيرًا انتهى كابوس هذا العام... ثمّ وقفت سريعًا بجانب شبّاك غرفتي واسترقت نظرة سريعة إلى الخارج، بدت لي السماء ملبّدة بالغيوم السوداء، بمشهد أبدع في وصفه الشاعر العراقيّ بدر شاكر السياب حين وصف أمطارها ‘تسحّ ما تسحّ من دموعها الثقال‘... قلت في نفسي يبدو أنّه يوم رومانسيّ جميل كأيّام العشّاق، ثمّ نفخت من فمي على الزجاج، بدا لي شيئًا مشوّه المعالم، قرّرت أنّه يشبه «الغيمة»، قلت في نفسي غيمة جميلة لا معالم لها، ثمّ ابتسمت، وبحركة خاطفة رسمت بإصبعي عليها قلبًا كبيرًا من الحبّ، وكتبت داخله: ‘فقط كوني بخير‘، لكنّها لم تكن كذلك البتّة، فقد كنّا على معركة مع مرض سرطان الثدي... ثمّة أيّام ثقيلة تمرّ تشعر أنّك تحمل الكون كلّه على ظهرك، ولا تريد شيئًا من الحياة إلّا أن تضع هذا الحمل جانبًا وتتنهّد بكلّ قوتك وقد ارتحت منه... كان هذا المرض وما ارتبط به هو هذا الحمل الثقيل الّذي تتشارك آلامه وعذاباته الصامتة مع مَنْ يشبهونك أنت وحدك... أصواتهم الخافتة، قصصهم التائهة... يأتي هذا الكتاب لأجل أصوات هؤلاء النساء".

يُعْنى كتاب «هندسة الاضطهاد: سياسات التحكّم بالأجساد الصامتة»، بأصوات النساء الفلسطينيّات المصابات بسرطان الثدي، بوصفها أصواتًا تعاني من العنف البنيويّ في فلسطين. يرتكز الكتاب في ادّعائه على تجاوز فكرة اختزال المرض ببعده الطبّيّ ’البيولوجيّ‘، إلى البحث في ما وراء المرض، وأعني بذلك محاولة تفكيك السياق ’الكلّ‘ وتمظهراته ’التفاصيل‘ في النظريّة والممارسة، عبر تحليل الهياكل التالية، أوّلًا: السياق الاستعماريّ وسياساته، ثانيًا: المؤثّرات المجتمعيّة من خلال مُنْحَنَيَيْن هما ’استهداف منظومة الصحّة وجنسانيّة الجسد‘، ثالثًا: العنف الرمزيّ ’الآلام‘. وإذ أتوجّه في هذا الكتاب إلى البحث في ذلك، فإنّني أدّعي بأنّ هذه الهياكل قد عملت على تشكيل وهندسة المرض على أجساد النساء المصابات بسرطان الثدي، والّتي انعكست عنفًا مادّيًّا ’فيزيائيًّا‘، وعنفًا رمزيًّا على هذه الأجساد، مشكّلة بذلك هويّة اجتماعيّة للمرض جرى اختزالها لفترة طويلة بمفاهيم ولوائح طبّيّة مجرّدة بعيدًا عن الهياكل الّتي شكّلت العنف على تلك الأجساد. يوضّح زوّاوي بغورة في دراسته «المرض بوصفه خطابًا: بحث في سياسات المرض عند ميشيل فوكو ودورها في الفلسفة الاجتماعيّة المعاصرة»، كيف أنّ هنالك محاولات جديدة لخلخة المفاهيم القائمة، المعايير السائدة، وإقامة علاقات مختلفة، وبخاصّة تلك الّتي تربط المرض بالمجتمع، والمعايير، والاقتصاد، والسياسة أو السلطة (بغورة 2021، 35). ولئن كان تفكيك هياكل المرض في سياق دول ذات سيادة يتطلّب تحليل المرض بوصفه ظاهرة مرتبطة بأبعاد سياسيّة، اقتصاديّة واجتماعيّة، فإنّني في فلسطين أقوم بتفكيكها بوصفها مرتبطة بسياق فلسطينيّ يقع تحت استعمار أنتج هياكل من الاضطهاد الّتي مورِسَتْ على أجساد النساء المصابات بسرطان الثدي من خلال المرض.

يُعْنى كتاب «هندسة الاضطهاد: سياسات التحكّم بالأجساد الصامتة»، بأصوات النساء الفلسطينيّات المصابات بسرطان الثدي، بوصفها أصواتًا تعاني من العنف البنيويّ في فلسطين...

يعتمد الكتاب على تفكيك ’السياق‘ لفهم انعكاسات روايات النساء المصابات بسرطان الثدي، وأعني  بالسياق الفكرة الوجوديّة للمشروع الصهيونيّ، والّتي أدّعي أنّها تستهدف أجساد الفلسطينيّين/ ات بأنماط من الإبادة تشكّلت ذروتها في مأساة العام 1948، وذلك بوصفها عملية بنيويّة مستمرّة وليست حدثًا منقطعًا حسب مدرسة الاستعمار الاستيطانيّ، وفي ظلّ تلك الممارسة الاستعماريّة لا يكون ثمّة حيّز في الفضاء العامّ لـ ’حالة الاستثناء‘ لأجساد النساء الفلسطينيّات المصابات بسرطان الثدي. أمّا فهم استهداف منظومة الصحّة الفسطينيّة فأقرأ فيه هذه المنظومة بوصفها منظومة مستهدفة بالتدمير البنيويّ؛ إمّا بالقصف والاقتحامات العسكريّة، أو الإغلاق والتهميش، ثمّ عمليّة المأسسة السريعة والبنى البيروقراطيّة بعد نشوء النظام السياسيّ الفلسطينيّ، وبموازاة ذلك استمرّ القصف العسكريّ خصوصًا أثناء الحرب على قطاع غزّة. ثمّ لفهم جنسانيّة الجسد المصاب بسرطان الثدي، فإنّني أتوجّه لفهم الهويّة الجندريّة للنساء المصابات بسرطان الثدي، والّتي أعالجها من خلال معيارين مرتبطين بحالة الفقدان أو احتماليّة الفقدان المصاحبة للمرض، وهما ’الثدي والشعر‘. وفي النهاية  أرتكز على صوت الألم بوصفه عنفًا رمزيًّا مُورِسَ في داخل هذه الأجساد، في معركة بين الذات والجسد، ومعركة بين الجسد والمحيط.

وإذ أقوم بذلك، فإنّني أتوجّه للتركيز على مفارقة مهمّة، وهي عدم المساواة في المفاهيم  بين السياسات الاستعماريّة الصهيونيّة المنبثقة عن استعمار استيطانيّ يستهدف الجسد الفلسطينيّ عبر أنماط متعدّدة من الإبادة المنظّمة والمتسلسلة، وبين ما أُطْلِقُ عليه المؤثّرات المجتمعيّة والّتي أعالجها بكونها تعكس عنفًا على الجسد.

 أتوجّه في الكتاب لتغيير زاوية إنتاج المعرفة، عبر الانتقال من فكرة إنتاج المعرفة بالارتكاز إلى «النظام» - «الأنا» الّذي يمثّل صوت «الخبير» من موقعه النخبويّ، إلى فكرة إنتاج المعرفة من خلال تصوّرات النساء بسرطان الثدي عن مرضهنّ. تكمن أهمّية هذا التوجّه، كما وضّح غسان أبو ستّة، في محاولة إنتاج خطاب من موقع تهميش ينزع نفسه من الخطاب المهيمن الّذي يختزل بداخله تلك السرديّات المهمّشة (أبو ستّة، 2020). في حديث مع معزّ كراجة ناقشنا كيف أنّ عمليّة إنتاج معرفة من الهامش عن تلك السردّيات يعني بالضرورة تقديم تصوّرات النساء أنفسهنّ عن هذا الواقع وليس صورة بديلة عن الآخر من خلال الآخرين، وهذا يعني تحوّل دور المرأة من كونها موضوعًا للمعرفة وإنتاج السياسات إلى كونها منتجة لتلك المعرفة والسياسات (كراجة، 2021).

 

منهجيّة البحث

بهدف جمع البيانات ضمن إطار هذا العمل، اتّبعت المنهج الإثنوغرافيّ، بحيث أرتكز من خلال ذلك على فكرة  أنّ ما نحصل عليه من خلال هذا المنهج يؤدّي دورًا في كتابة تاريخ «الفواعل المهمّشة»، تاريخهم الحيّ الّذي يتجاوز الكتابة الأكاديميّة ويضعنا في عديد المواقع المتعدّدة والمعقّدة، ويتيح لنا فهم التجربة بتفاصيلها ومشاهدها الرئيسيّة والثانويّة الّتي تشكّل المشهد والقصّة الأكثر صدقًا. وقد شمل توجّهي البحثيّ نحو هذه المنهجيّة إجراء مقابلات معمّقة مع نساء من الضفّة الغربيّة ومن قطاع غزّة، مدركةً أنّ التوجّه نحو التركيز في المقابلات على  هاتين الوحدتين هو عمليًّا  تركيز على كيانات غير طبيعيّة تشكّلت بفعل الاستعمار الاستيطانيّ في فلسطين وتعمّقت بفعل الانقسام الفلسطينيّ.

تتقن الأجساد المصابة بسرطان الثدي، كأجساد مضطّرة للعلاج، الانضباط والالتزام بالسياسات الاستعماريّة، ثمّ تتقن كأجساد مضطّرة الوقوف على الطابور والانتظار والتنقّل بين الفضاءات للحصول على حقّها في العلاج...

التوجّه تشابه البنى والسياسات الّتي تخضع لها النساء المصابات بسرطان الثدي في هاتين الوحدتين أثناء محاولتهنّ تشخيص المرض والعلاج منه، فكلتا الوحدتين تخضعان لاستعمار استيطانيّ إسرائيليّ، يمارس فكره الاستعماريّ على هذه الأجساد عبر أدوات تشكّل الحياة اليوميّة للسكّان في الأراضي المحتلّة. كذلك فإنّ كلتا الوحدتين تخضعان لذات المؤثّرات المجتمعيّة المتمثّلة بالصحّة في فلسطين وجنسانيّة الجسد، ولتشابه تفاعلات الألم العنيف ’غير المرئيّ‘ داخل هذه الأجساد، وهذا يعني إمكانيّة استخدام ذات المفاهيم في التحليل نتيجة لتشابه هياكل الاضطهاد في كلتا الوحدتين الجغرافيّتين.

إنّ ذات السياسات الاستعماريّة الّتي أحاول تفكيك هندستها للمرض على أجساد المصابات بسرطان الثدي، هي ذات السياسات الّتي حالت دون تمكّني من الوصول إلى قطاع غزّة للحديث مع هؤلاء النساء؛ لذا فقد شاركتني في إنجاز هذه المقابلات باحثتان من قطاع غزّة، وأنجزت المقابلات المعمّقة مع النساء الفلسطينيّات اللّواتي أُصِبْنَ بالمرض في الضفّة الغربيّة. وأثناء تشاركنا الحديث معًا لم أشعر أنّني بحاجة لأن أتّبع تكتيكات العمل الإثنوغرافيّ في أخذ المعلومات، كالمناورة في استخدام الهويّات مثلًا، وهو ما يستدعيه الوجود في حقل مركّب.

في كتابها «الطبّ الشرعيّ في فلسطين» لجأت سهاد ظاهر - ناشف إلى ذلك كمداخل لجمع المعلومات في ميدان يعجّ بالكثير من التفاصيل والمركّبات الغامضة (ظاهر - ناشف، 2019)، أمّا أنا، وبحكم كوني من مجتمع الدراسة، فلم ألجأ لأن أتّبع مثل هذه التكتيكات؛ فطوال وجودي في هذه التجربة بجانب والدتي كنت أوثّق الملاحظات الّتي أشهدها ونتعرّض لها كافّة. وعندما أجريت المقابلات مع النساء المصابات بسرطان الثدي كانت المقابلة عمليّة تفاعليّة نقاشيّة بين طرفين عايشا ذات التجربة، نحاول كنساء العمل على تفكيك هياكل الاضطهاد على الأجساد الصامتة، وأعني بالأجساد الصامتة الأجساد الّتي يتشكّل عليها عنف السياسات الاستعماريّة والمؤثّرات المجتمعيّة وآلام المرض، فيما تتقن هذه الأجساد، كأجساد مضطّرة للعلاج، الانضباط والالتزام بالسياسات الاستعماريّة للحصول على حقّها في العلاج، ثمّ تتقن كأجساد مضطرّة الوقوف على الطابور والانتظار الطويل والتنقّل بين الفضاءات للحصول على حقّها في العلاج، ثمّ تتقن كأجساد مضطرّة كيف تخفي فقدان أعضاء من جسدها بفعل المرض خوفًا من الإقصاء والتهميش أو التعامل معها كأجساد ‘مبتورة الأنوثة‘. وأخيرًا تتقن إسكات الألم بداخلها وتماهيه كحدود قصوى في داخلها، لأنّها معركة تدور داخلها، معركتها وحدها، وبهذا الاضطرار تتحوّل الأجساد إلى أجساد صامتة، وتشكّل محاولة الإصغاء إلى أصوات هؤلاء النساء إصغاءً للاضطهاد الّذي يمارس على أجسادهنّ.

 

في أهمّيّة البحث ما وراء الأجساد الصامتة

تكمن أهمّيّة البحث في محاولة إفراد حيّز لتلك السرديّات الّتي تتشكّل على أجسادها سياسات هذا الاضطهاد، وهي السرديّات المذابة في الخطابات المهيمنة. ذلك أنّه في كل زمن فلسطينيّ يشيع ذلك الخطاب المهيمن الّذي يجري من خلاله اختزال تجارب الأفراد العاديّين، معاناتهم اليوميّة وهمومهم الحياتيّة، ضمن النضالات العسكريّة والسياسيّة، الشعارات، والآمال الكبيرة. وفي كلّ سرديّة خطابيّة من تلك السرديّات جرت عمليّة دفن آلاف آلاف القصص. فهل ثمّة سرديّة للجرح؟ سرديّة للمقابر؟ سرديّة للألم؟ سرديّة للثلّاجات الباردة؟ سرديّة للحجز؟ إنّها سرديّات لا وجود لها إلّا بكونها مذابة في الخطاب المهيمن، ولا يتمّ الحديث عنها إلّا من خلال استخدام أدوات ذات الخطاب. فالخطاب كما ينتج نفسه، ينتج أيضًا أدوات الحديث من خلاله، فلا ’يمكن‘ تصوّر المرض الفلسطينيّ إلّا من خلال هذا الخطاب المهيمن. ما يوضّحه غسّان أبو ستّة في كتابه «سرديّة الجرح الفلسطينيّ» هو الكيفيّة الّتي تحمل فيها الأجساد سرديّاتها، ولكنّ ما تحاول السلطة القائمة فعله هو محاولة تجنيد سرديّة هذه الجروح، أو طمسها، حسب تناقض أو تناغم هذا الجرح مع الخطاب السياسيّ المهيمن (أبو ستة 2020). وذلك يعني أنّ الخطاب المهيمن يحتوي ويُسَخِّرُ داخله مفاهيمًا ومصطلحات نضاليّة كبيرة تطمس في داخلها جروح الأجساد وتضحياتها اليوميّة، وبينما تفعل ذلك فإنها تُسَخِّرُ هذه الجروح لتحقيق منافعها النخبويّة

إنّ إشكاليّة الخطابات المهيمنة، كما يراها معز كراجة، هي في كونها بصفاتها الراهنة وبمنطلقاتها الأيديولوجيّة، قد تسرّبت إلى لغتنا بأكملها، باختلاف مواقعنا، وبات لها مكان في ثنايا قراءتنا للواقع على اختلاف توجّهاتنا، وأصبحت منطلقًا لوسائلنا الإعلاميّة بجميع هويّاتها، ومنطقًا يحكم المثقّفين بغضّ النظر عن منطلقاتهم (كراجة 2020). هنا تكمن خطورة هذا الخطاب المهيمن في تماهيه مع تفاصيل الحياة، بحيث يتّخذ صفة ما يطلق عليه الكتاب «العاديّة» أو الاعتياديّة»، لدرجة أنّ الجميع لا ينتبه مع مرور الوقت أنّ ثمة ريب ما في هذا الخطاب.

إنّها سرديّات لا وجود لها إلّا بكونها مذابة في الخطاب المهيمن، ولا يتمّ الحديث عنها إلّا من خلال استخدام أدوات ذات الخطاب. فالخطاب كما ينتج نفسه، ينتج أيضًا أدوات الحديث من خلاله، فلا ’يمكن‘ تصوّر المرض الفلسطينيّ إلّا من خلال هذا الخطاب المهيمن

إنّ التوجّه لإنتاج سرديّة عن المرض هو نزع [له] من هذا الخطاب المهيمن، وعمليًّا هو محاولة لتشكيل وعي عن العنف البنيويّ الّذي يتشكّل من خلال المرض والممارسُ على أجساد النساء المصابات بسرطان الثدي. كذلك هو مساحة لهنّ لرواية تاريخهنّ الّذي لا يُدوّن، سرديّتهنّ الشفهيّة عن أنفسهنّ، رواياتهنّ الغائبة في التاريخ المكتوب، التاريخ الرسميّ. تزداد أهمّيّة ذلك إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنّ كتابة التاريخ ركّزت بالدرجة الأولى على كتابة تاريخ النخب السياسيّة، السادة، الملوك، الحكّام والانقلابات العسكريّة، وهو ما يعتبره عبّاس الأمين امتدادًا لكتابة التاريخ من منظور استعماريّ (الأمين 2015). إضافة  إلى أنّ المؤرّخين سعوا بحثًا عن الوثيقة، لأنّ التاريخ لديهم مشروط بالقراءة والكتابة، ناسين أو متناسين تاريخ المهمّشين، وهم الناس العاديّين، الّذين لا يملكون أرشيفات لتجاربهم. وتأتي رواية قصص هؤلاء المهمّشين لتفرد مساحة لسرديّاتهم من خلال رواياتهم، هذه الروايات دليلهم على أنّهم وُجِدُوا في هذا العالم الّذي يحاول طمسهم ضمن خطاباته، وكما وضّحت عطوف كبير، تمنحُ رواية قصصهم فرصة لهم من أجل التعبير عن مشاعرهم، إحباطاتهم، ورصد تصوّراتهم عن عالم يعيشون فيه دون أن يتحكّموا به (كبير 2015).

في ذات السياق، وخلال الآونة الأخيرة، لم يعد باحثو الدراسات الاستعماريّة يركّزون على دور النخب، بل أبدوا، وبصورة متنامية، اهتمامًا بتجارب المهمّشين من أجل فهم أشكال المقاومة، أو السلطة من الأسفل (بالنتاين 2016، 13) ومن هنا جاءت أعمال راناجيت جوها وزملائه في محاولة لإنقاذ الممارسة التاريخيّة للفئات «التابعة» من براثن التأريخ النخبويّ، فقاموا بقراءة  التاريخ الهنديّ من منظور الفعل الواعي لهذه الفئات، وليس من منظور النخب، والّذي يعني كتابة "التاريخ من الأسفل" (الكيّال 2018).

ولئن كان التاريخ الرسميّ قد ركّز على المعارك والحروب بوصفه تاريخًا نخبويًّا، فإنّ التوجّه لسرديّات الناس ضمن هذا التاريخ هو عمليًّا توجّه لتغيير زاوية إنتاج المعرفة عبر تغيير نقطة الانطلاق بالتوجّه إلى المهمّشين. وذلك يتمّ من خلال إفراد مساحة للناس للحديث عن الهياكل الّتي تُصَمَّمُ وتُنَفَّذُ على أجسادهنّ بصورتها اليوميّة، وقد تحوّلت مع مرور الوقت إلى كونها مُسْتَدْخَلَة في الحياة اليوميّة عبر سياسات هادئة، صامتة، واعتياديّة.

 

الفصول من النظريّة إلى الممارسة

يحاول كلّ فصل من فصول الكتاب البحث في هياكل هذا الاضطهاد، وأثناء البحث في ذلك أقوم بتقديم مدخل نظريّ يأتي لغرض وضع إطار معرفيّ للقضايا الّتي عكستها روايات النساء المصابات بسرطان الثدي على أجسادهنّ، والّتي يمكن من خلالها فهم سياق تلك القضايا.

يحاول الفصل الأوّل في مدخله النظريّ التركيز على فكرة سياق الاستعمار الصهيونيّ كمدخل لفهم السياسات الاستعماريّة ووجودها على الأرض، وينطلق في ذلك من فرضيّة لرائف زريق تدّعي "أنّه يجب العودة إلى السّياق، إلى رؤية الكلّ من وراء غابة التفاصيل"، وأقصد بالسياق فكرة المشروع الصهيونيّ القائمة على تعدّد أنماط إبادة الجسد الفلسطينيّ تحقيقًا لشعاره: "أرض بلا شعب... لشعب بلا أرض". ثمّ أبحث كيف مَوَضْعَتْ النساء عنف هذه السياسات الاستعماريّة على أجسادهنّ خلال محاولتهنّ الوصول إلى العلاج. أحلّل ذلك من خلال العلاج الإشعاعيّ، ويعود السبب في ذلك إلى أنّ عدم توفّر هذا العلاج في مناطق الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، ويترتّب على ذلك ضرورة السفر إلى مدينة القدس والأراضي المحتلّة عام 1948 للحصول على العلاج، وأثناء حركة وصولهنّ إلى تلك المناطق يتعرّضن لذات السياسات الاستعماريّة على الأرض.

أمّا الفصل الثاني فأحاول فيه قراءة الصحّة في فلسطين، مدّعية أنّه لا يمكن قراءة الصحّة بمعزل عن السياسة في فلسطين. فالوضع الصحّيّ  في فلسطين وارتباطه بالسياسة يستدعيان فهمًا مغايرًا للفعل الاجتماعيّ عنه في سياقات أخرى طبيعيّة (حنفي وليندا طبر 2004). يتطرّق هذا الفصل إلى ذلك بالبناء على تعمّد استهداف الصحّة عبر فعليّ القصف والاقتحام الإسرائيليّين، ثمّ التهميش والإغلاق تحت الحكم العسكريّ، وصولًا إلى الوصفة النيوليبراليّة لإدارة القطاعات الفلسطينيّة بعد نشوء النظام السياسيّ الفلسطينيّ بموازاة استمرار عمليّات القصف. وفي قسمه الثاني يحاول تفكيك تمظهرات الأزمة الّتي عكستها روايات النساء المشاركات في الدراسة جرّاء ضعف هذه المنظومة الطبّيّة.

في الفصل الثالث أقدّم قراءة في جنسانيّة الجسد في حياة النساء اليوميّة، من خلال علاقة النساء بذواتهنّ، وعلاقة الآخرين مع أجسادهنّ، مدّعية أنّ هذه السلطة مرتبطة بالنظم، المثل الثقافيّة، الصور، والتوقّعات المجتمعيّة عن ’الأنوثة‘، وإذ يجري خلق هذه التصوّرات مجتمعيًّا فإنّه يجري تسويغها وشرعنتها عبر بعدها البيولوجيّ ’ذكر، أنثى"‘. ثمّ يحلل الفصل آليّات استدخال الجندر من خلال الرقابة على الذات، وفيه يُتَتَبَّع كيف عرّفَتْ النساء المصابات بسرطان الثدي وعُرِّفَتْ هويّتهن الجندريّة من قبل الآخرين، ثمّ كيف نَظَرْنَ إلى أجسادهنّ، وكيف نُظِرَ إلى أجسادهنّ. وفي هذا القسم أدّعي أنّ المعيار الجندريّ في حالة الإصابة بسرطان الثدي يبلغ منتهاه من خلال ارتباطه بمعيارين على علاقة بوضعيّة الفقدان ومادّيّة الجسد أثناء المرض، وهما "الثدي والشعر"، بحيث يُنْظَرُ إلى هذا الجسد ليس بوصفه جسدًا مريضًا مقابل جسد معافى، وإنّما بوصفه جسدًا «مبتور الأنوثة»، محلّلاً كيف يؤثّر المعيار الجندريّ في تعريف الهويّة الجندريّة لهؤلاء النساء.

وفي فصله الرابع يحاول الكتاب قراءة الآلام بوصفها عنفًا في داخل هذه الأجساد، الذوات المتألّمة، القويّة الهشّة، الضعيفة الهشّة. الآلام المذابة بين تفاصيل الكلام، الإيقاع الّذي يتموّج في أوتار هؤلاء النساء، تلك الآلام وتلك العذابات الّتي يختزلها الجسد في معركتة الداخليّة الّتي تدور بين الإنسان وذاته، معركة الذات مع الجسد، والّتي لا مجال للفرار أو الاختباء منها. هي فقط حالة من احتضان هذا الألم والتكوّر حوله، فقط لحظات الانتظار مع جحيم الألم هي سيّدة الموقف، وأثناء ذلك لا ينظرن إلى كيفيّة تماهيه في ثنايا محيطهنّ الاجتماعيّ إلّا بعد الانتهاء منه، ففي اللحظات القصوى يغدو الألم هو الأنا ذاتها.

 


مراجع

أبو ستّة، غسّان. «الفيروس والمستوطن والحصار: غزّة في زمن الكورونا»، مجلّة الدراسات الفلسطينيّة. العدد 123 (2020).

الناشف، سهاد ونادرة شلهوب. «الرغبات الجنسيّة في آلة الاستعمار الإسرائيليّة الاستيطانيّة». مجلّة الدراسات الفلسطينيّة. العدد 104 (2015).

بالنتاين، توني. «المعرفة الاستعماريّة»، ترجمة: ثائر ديب. مجلّة عمران. المجلّد 5. العدد 17 (2016).

بغورة، الزواوي. «المرض بوصفه خطابًا: بحث في سياسات المرض عند ميشيل فوكو ودورها في الفلسفة الاجتماعيّة المعاصرة». مجلّة تبيّن. المجلّد 9. العدد 35 (2021).

الكبير، عطوف. «تدوين التاريخ الشفوي للمهاجرين المغاربة في فرنسا». مؤتمر مقاربات في الحقل الاجتماعيّ – الأنثروبولوجيّ. الدوحة: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات (2015).

الأمين، عبّاس. «الرواية الشفويّة: قراءة في تجربة أرشيف معهد الدراسات الأفريقيّة والآسيويّة». مؤتمر التاريخ الشفويّ: مقاربات في المفاهيم والمنهج والخبرات. الدوحة: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات (2015).

مجدل كيّال. «إن كنّا نثق بمنظّمة الصحّة العالميّة»، متراس، 05/04/2020، شوهد في 24/1/2022، في: https://bit.ly/3qY96Bg.

معز كراجة، «الخطاب والممارسة والحاضر الأبديّ»، الآداب، شوهد في 24/1/2022، في: https://bit.ly/3IvVrXL.

 


 

نور بدر

 

 

مرشّحة دكتوراه في «جامعة تونس» في «كلّيّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة»، تعمل على أطروحة تتناول سوسيولوجيا الحكم العسكريّ الإسرائيليّ على الأجساد الفلسطينيّة ومقاومتها. صَدَر لها كتاب بعنوان: «هندسة الاضطهاد: سياسات التحكّم بالأجساد الصامتة: النساء الفلسطينيّات المصابات بسرطان الثدي» (2021).

 

 

التعليقات