15/04/2022 - 15:49

رمضان كما في السجن

رمضان كما في السجن

إعداد الكنافة في السجن | صورة ملتقطة من أحد الأسرى

 

الكتابة عن رمضان السجنيّ

الكتابة عن رمضان في السجن أبعد من صياغة النصّ، بل إنّ ما أحتاج إليه كي أعود إلى النصّ هو العودة الافتراضيّة إلى السجن، في حين لا يذهب أحد إلى منتجعات القهر طوعًا، والحدود بين الافتراض والواقع ليست مستقيمة، وليست واضحة المعالم ولا مفروغًا منها، بل متداخلة. بينما الذاكرة الحيّة وبقاء السجن وخاصّة الأسرى في الوجدان، هما وسيلتا تنقّل قادرتان على شقّ طريق العودة إلى السجن ذهابًا وإيابًا، قد لا يكون فيها تحرير الأسرى، لكن بالتأكيد تحرير قصّتهم من جدران النسيان، ومن أبراج خطابات البطولة.

هذه الجولة تحتاج إلى جهد، ولا سيّما الجولة بين عنابر السجن وخريطة المكان المبنيّ من الجدران والمتاهات المتداخلة؛ كي يضمنوا أن يبقى المكان خارج الرؤية، سواء من داخله أو من خارجه، وأن يبقى مهندس القهر يَرى ولا يُرى؛ سعيًا منهم إلى أن يغيب اكتمال المشهد لاحقًا عن الذهن والبصيرة، إلّا أنّ الأخيرة ليست ملك السجّان وإنّما الأسير؛ ولذلك فهي البوصلة وهي الفنار وهي الفانوس، وهي بالأساس نفق الحرّيّة للإطلالة على جماليّات الحياة مهما كانت غشاوة القساوة.

 ينقشع الصخب ويعلو صوت الهدوء؛ هدوء وجدانيّ يلغي كلّ ضوضاء، يحلّ النظام وترتيبات رمضان، يعدّ ’الْمَرْدَوانْ‘؛ أي طاقم الأسرى العاملين تطوّعًا لخدمة المجموع، قائمة بمَنْ يريد التسحّر...

أصحيح القول "رمضان في السجن" أم "السجن في رمضان"، أم "رمضان السجين في السجن"؟ ويزداد هذا الشرود في مساحات المعاني، حين يتحفنا الإعلام الإسرائيليّ وتقديرات منظومات الأمن القوميّ بدررهم العنصريّة الاستعلائيّة، وكلّ ذخيرتهم مصوّبة نحو رمضان؛ لتصل الأمور إلى أن تبني تصوّرات لإستراتيجيّات مواجهة ما يضمره هذا الشهر، إلى درجة بات ذكر رمضان يُرْعِب المؤسّسة كما لو كان الحديث عن عمليّة عسكريّة أو حسب معجمهم ’قنبلة موقوتة‘، وربّما يكون هذا من ارتدادات صدمة إخفاق إسرائيل في حرب 1973، في السادس من تشرين الأوّل (أكتوبر)، وهو العاشر من رمضان آنذاك. ويذكّرنا بذات الإعلام وذات المؤسّسة، حين اعتبروا أنّ القول ’الله أكبر‘ يضاهي عمليّة استشهاديّة، حتّى لو كان المكبّر في هدوء صلاته وتجلّياته الإيمانيّة والوجدانيّة. ولو كان ثمّة من عدّ المرّات الّتي ذكر فيها الإعلام الإسرائيليّ كلمة ’رمضان‘، لكانت بالآلاف الكثيرة، كلّ ذلك ليس من باب المعايدة أو الترحاب بالشهر المبارك وطقوسه الجميلة، إنّما من باب الهوس ولشحن الروح العدوانيّة واستباق الشهر بعدوان، ولدى المستعمِر موهبة رهيبة، هي قدرته على تقمّص شخصيّة ضحاياه، معتبرًا الأخيرين هم مَنْ يشنّون عدوانًا وجوديًّا عليه.

 

ويعلو صوت الهدوء

خلال رمضان، ما بين الجدران والأسلاك، ينقشع الصخب ويعلو صوت الهدوء؛ هدوء وجدانيّ يلغي كلّ ضوضاء، يحلّ النظام وترتيبات رمضان، يعدّ ’الْمَرْدَوانْ‘؛ أي طاقم الأسرى العاملين تطوّعًا لخدمة المجموع، قائمة بمَنْ يريد التسحّر، وماذا يريد أن يحتوي السحور من ضمن ما يتيسّر في ’الكانتينا‘؛ لِتُوَزَّع على أصحابها في الزنازين الموصدة وقت السحور ومع سماع الأذان، وحيث لا يُسْمَح للأسرى الخروج إلى الساحة؛ وهو ما يضطرّ السجّان إلى أن يوزّعها حسب الأسماء المسجّلة على الرزم الرمضانيّة.

بينما التحضيرات الكبرى تكون قبل حلول الشهر بأيّام عديدة، سواء بالاقتناء الجماعيّ لكمّيّات أكبر من المعتاد من الموادّ الغذائيّة والمؤن، وكمّيّات مضاعفة من المياه والمشروبات الخفيفة، وتُحَوَّل إلى الثلّاجات العامّة، وهي ليست عامّة بمفاهيم العالَم غير السجنيّ، بل عبارة عن ثلاث ثلّاجات تجاريّة تخدم الأسرى لتخزين الموادّ الغذائيّة كاللحوم المجمّدة وغيرها، يضاف إليها حجرة ‘الكانتينا‘؛ أي ’دكّان‘ الأسرى الّذين يشترون كلّ محتوياته مسبقًا وجماعيًّا. ونظرًا إلى أنّ النقود ممنوعة في السجن؛ يُسَجَّل كلّ ما يقتنيه الأسير ليحسم من حسابه. وما يميّز ’الكانتينا‘ وجود مكيّف فيها كي لا تتلف الموادّ الغذائيّة، وبذلك تتحوّل في أيّام الصيف القائظة في رمضان إلى مأوًى لمَنْ لا يستطيع احتمال ويلات الطقس.

ثمّة قوّة لدى الأسرى رغم التراجع في حالتها من وقت لآخر، فمثلًا يوجد تقليد بأن توفّر إدارة السجن قبيل رمضان ما معدّله خمسة كيلوغرامات من التمر لكلّ أسير، إضافة إلى علبة حلويات عربيّة، ويطلقون على ذلك وصف ’هديّة‘، لا يستطيعون الفكاك منها. وحين يحلّ رمضان في الربيع أو الشتاء، تكون الأجواء أسهل وأكثر احتمالًا خلال الشهر والعيد المحاصَرَين.

تحلّ أجواء التكافل فيتطوّع عدد من الأسرى يوميًّا للعمل في خدمة المجموع، ويُطْلَب من عمّال ‘المَرْدَوان‘ الصائمين عدم الخروج إلى العمل بل الخلود إلى الراحة...

قد يكون التعبير الأقوى لتأكيد ما يستحقّ الحياة هو تمسّك الأسرى بالطقوس؛ فالطقوس تحمل نكهة البيت والمسجد والعائلة والحارة والحيّ والقصبة وشِعاب البلد وروحه، وتحلّ أجواء التكافل فيتطوّع عدد من الأسرى يوميًّا للعمل في خدمة المجموع، ويُطْلَب من عمّال ‘المَرْدَوان‘ الصائمين عدم الخروج إلى العمل بل الخلود إلى الراحة، ويُسْتَبْدَل بهم كلّ مَنْ يريد، سواء بنقل أكياس النفايات من الزنازين إلى الساحة، ومن ثَمّ تسليمها جماعيًّا للسجّانين، أو بتوزيع الخبز صباحًا بعد أن يضعه السجّانون في مقدّمة مدخل قسم الأسرى، يدأبون لعدم إحداث أيّ ضجيج في ساحة القسم.

يعتاد الأسرى في رمضان أن يعدّوا الكنافة، ويُسْتَعاض عن الشعر بِبَرش الخبز من الأيّام الفائتة، والّذي يُسَمّى ’الجافر‘، ويُحَمَّص قبل إعداد الوجبة، وتُنْقَع شرائح الجبنة الصفراء بالماء ليلة كاملة؛ لتخرج منها الدهون وتبيت بيضاء، تُخْلَط مع الكوتج وتكون جبنة الكنافة، وتستمرّ عمليّة الإعداد ساعتين على الأقلّ، من خلال استخدام بلاطتين كهربائيّتين؛ واحدة أرضيّة، وعليها طنجرة ماء يغلي وفوقه سدر الكنافة، ومن فوق السدر تكون بلاطة مدلّاة من فوقه، مربوطة بعصا مكنسة.

 

إفطار رغم القَهْر

عدت إلى رسائلي، وفيها دوّنت حياتي الاعتقاليّة بشكل يوميّ، وكلّ ما كتبت وحرّرت من كلمات لتصل أسرتي وتنقل إليها القصّة من داخل الجدران، ولتبقى معها شاهدًا على ما سيصبح يومًا من الماضي، حتّى لو امتنع الماضي عن المغادرة وبات جزءًا لا يتجزّأ من الحاضر المعيش، كما أنّ الكتابة فيها تحرير لأثر المشهد القهريّ؛ وكي لا يصبح عاديًّا ومسلَّمًا به.

مقابل تمسّك الأسرى بالطقوس الرمضانيّة، فإنّ السجّان أيضًا يتمسّك بطقوس القهر، الّتي لا اعتبار فيها لعيد ولا لشهر فضيل. وقد عدت إلى رسائلي المقدّرة بالمئات وآلاف الصفحات، فوجدت وصفًا تفصيليًّا لطقوس القهر الرمضانيّة المنبثقة عن ذهنيّة السجّان، وذلك من الرابع والعشرين من آب اللهّاب في عام 2011، حين كنت في القسم رقم 2، وهو ما بات يُعْرَف مؤخّرًا باسم «قسم النفق». واللافت أنّه في المرحلة الأولى من الحياة الاعتقاليّة، كانت بعض ممارسات السجّان لا تزال تحمل شيئًا من المفاجأة، ومع مرور السنوات، يصبح التعامل مع القهر باعتباره شأنًا روتينيًّا يكاد لا يلفت النظر، كما لم تلفت القصّة الآتية أيّ اهتمام أو توتّر لدى قدامى الأسرى في حينه. إنّه عدم اكتراث المتمرّسين بالصبر، الّذين يدركون أنّ إرادتهم أكثر صلابة من القهر.

في تمام الثامنة من صباح اليوم الأربعاء، 24 آب (أغسطس)، وبينما كنّا مجموعة قليلة من الأسرى نمارس الرياضة بهدوء كي لا نزعج الصائمين في نومهم، انطلقت الصفّارات وأعلنوا في مكبّرات الصوت العنيفة صوتًا ومضمونًا، عن أمر "الجميع للزنازين فورًا".

يعتاد الأسرى في رمضان أن يعدّوا الكنافة، ويُسْتَعاض عن الشعر بِبَرش الخبز من الأيّام الفائتة، والّذي يُسَمّى ’الجافر‘، ويُحَمَّص قبل إعداد الوجبة، وتُنْقَع شرائح الجبنة الصفراء بالماء ليلة كاملة...

بالنسبة إليّ، كان نصيبي اليوم هو الخروج إلى الفورة الأولى؛ أي من الثامنة حتّى العاشرة صباحًا من أصل فورتين متاحتين للأسير؛ واحدة صباحيّة والأخرى بعد الظهر؛ ليمكث الساعات العشرين المتبقّية في الزنزانة. لقد أُخْلِيَتْ ساحة سجنهم من أسرانا، وراحت الفُسْحَة الصباحيّة ضحيّة لأنظمتهم. اقتحمت قوّات الأمن المدجّجة بالعتاد الزنزانة رقم 12 الموازية للزنزانة رقم 4، حيث أنا، فقرّرت أن أشاهد ما سيقومون به، وذلك من بوّابة الزنزانة الّتي يحتلّ القسم العلويّ منها الشبك الحديديّ السميك، والطاقة في جزئها الأسفل.

أخرجوا الأسرى من الزنزانة 12 بعد أن اجتثّوهم من متعة نومهم الرمضانيّ، خاصّة في ساعات الصباح قبل أن يتسارع ارتفاع درجات الحرارة لتبلغ فوق الأربعين، وتزيدها الصفائح الحديديّة اللانهائيّة حرارة بما معدّله عشر درجات؛ إذ إنّ جميع الإخوة الأسرى في هذه الزنزانة صائمون، وهي محسوبة ضمن التقسيم الفصائليّ بأنّها تابعة لـ «حركة المقاومة الإسلاميّة – حَماس»، في حين الزنزانة رقم 4 تقع ضمن مسؤوليّة «الجبهة الشعبيّة».

يعرف الأسرى وسلطات السجن أنّ الصائمين يسهرون الليل كلّه بأجواء اجتماعيّة وتعبّديّة ومتابعة مسلسلات تلفزيونيّة ضمن المحطّات التسع المتاحة، الّتي يتحكّم بها السجّان، وذلك بعد صلاة التراويح حتّى السحور، ومن ثَمّ يخلدون في النوم عند الفجر. ولا مجال للسلطة للادّعاء بأنّها لا تعرف؛ إذ إنّ فانوسهم الليليّ العنيف يتجوّل بين الزنازين كلّ نصف ساعة، وذلك في ساعات الليل حين تكون بوّابات الزنازين موصدة بالأقفال، في حين لا فوانيس رمضانيّة مسموحًا بها، ولا عتمة يتمنّاها الأسير؛ فإضاءات فتّاشات رقابة وإثبات السيادة تصادر العتمة المشتهاة، كما يتعمّد السجّان توجيه الضوء الحادّ للغاية إلى أوجه الأسرى النيام.

باشرت الوحدة الخاصّة حملة تفتيش من النوع الثقيل، يطلق عليها الأسرى كما السجّانون اسم ’التشطيب‘ (גרוד – لفظها جيرود). أبقوا أسيرًا خارج الزنزانة حسب الأنظمة ليكون شاهدًا على التفتيش الّذي يشمل كلّ شيء حتّى حبّات البصل والبطاطا، وحتّى ملابس الأسرى وقناني الشراب والمؤن والصابون، كلّ شيء يخضع لتفتيش آليّ وشخصيّ، وحتّى الحيطان ورفوف الخزائن بعد تفريغها وأرضيّة الحمّام والمرحاض، وأغطية أنابيب الصرف... كلّ شيء خاضع للجرد؛ المرحاض وأرضيّته، المجاري في الساحة؛ فهناك عدد من نقاط المجاري، مقابل كلّ زنزانة نقطة (بركة صغيرة) ولها غطاء باطونيّ. لم يجدوا شيئًا في المجاري، ولا في ’البلاكة‘ مقابل الغرفة، ذهبوا مع فوانيسهم ليفحصوا ’البرك‘ أو الفتحات الأخرى باتّجاه سيلان المجاري وميلانها. كلّ قوارير الشامبو فُحِصَتْ يدويًّا وآليًّا، وإذا كانت غير شفّافة يسكبون محتواها في قارورة مياه معدنيّة من صنف «عيدِن» الاستيطانيّ، وهو الوحيد المتاح.

وضعوا طاولات الساحة البلاستيكيّة الصغيرة مقابل الزنزانة، نحو ثماني طاولات، وجمّعوا عليها كلّ شيء؛ فراش الأسرى وملابسهم كلّها كومة واحدة، والفراش مصفوفة واحدة فوق الأخرى بعد أن أزالوا أغطيتها. الأحذية كلّها تُفْحَص ويجري نزع بطانتها، ثمّ فحص آليّ... أكياس الطحين (عفوًا السميد، فالطحين ممنوع) والأرزّ والعدس ومعلّبات كلّها قيد الفحص... ثمّ أتى دور المطرقة الكبيرة الّتي نسمّيها ’المهدّة‘ للضرب بها على الحيطان الداخليّة في كلّ أنحاء الزنزانة، وتكسير ما يقرّرون تكسيره، وإحداث ثقوب في الحيطان.

يواصلون التفتيش ولم يجدوا شيئًا... وحين لا يجدون شيئًا يفتّشون أكثر فأكثر، ثمّ يفتّشون ما فُتِّش؛ لربّما عثروا على أمرٍ ما، يفتّشون عنه وربّما "لأمر في نفس يعقوب".

 

يواصلون التفتيش ولم يجدوا شيئًا... وحين لا يجدون شيئًا يفتّشون أكثر فأكثر، ثمّ يفتّشون ما فُتِّش؛ لربّما عثروا على أمرٍ ما، يفتّشون عنه وربّما "لأمر في نفس يعقوب".

طبعًا لن يعيدوا شيئًا إلى مكانه، بل على الأسرى المأسورين داخل الأَسْرِ في حجرة الغسّالة، عليهم حين يعودون أن يواصلوا النهوض الّذي حوّله السجّان إلى أرق ورحلة عذاب، بدل عذوبة الصيام وطقوس رمضان.

سيكون على الأسرى إعادة كلّ شيء إلى الزنزانة الّتي أُخْلِيَتْ من كلّ شيء، وإعادة ترتيبه واستعادة ’راحتهم النفسيّة‘... وإضافة إلى العقاب الجماعيّ للزنزانة 12 في هذا الإجراء العنيف، وكما تقتضي طقوس السجّان؛ فالعقاب جماعيّ لمئة وعشرين أسيرًا في القسم، أُدْخِلوا قسرًا إلى الزنازين كي يسهل على السجّان القيام بدوره. والآن، وبعد ساعة ونصف تقريبًا من التفتيش، أسمع تفكيك المواسير.

ثمّ جاء دور خراطيم المياه المخصّصة لإطفاء الحرائق؛ لتتحوّل إلى خراطيم ضخّ يستخدمونها في مهمّة كشف أيّ شيء عالق داخل منظومة المياه العادمة. أمّا عدّة العمل الأخرى فهي مقدح كهربائيّ كبير (كومبريسور)، ومقادح يدويّة كهربائيّة لإحداث ثقوب في الحيطان، حيث يشكّون في وجود ما يبحثون عنه.

لا يولّد الشكّ إلّا شكًّا، فتأتي طواقم جديدة بتعزيزات وهي مقتنعة بأنّ الحلّ عندها، وسوف تعثر على الهدف، فتبدأ العمل من جديد. أحدهم يفكّك فانوسًا كهربائيًّا للدراسة ولا يعود يركبه. كومة اللوازم الشخصيّة والجماعيّة للزنزانة تتراكم وتعلو... أحدهم يتفحّص قناني الشامبو من جديد للمرّة قد تكون الثالثة؛ علّه يعثر على شيء ما، العمليّة جارية ومتدحرجة، لكنّها تتراوح مكانها في داخل اللامكان.

وما أعنف حنق السجّان الّذي لا يجد مبتغاه، فغريزة القهر تقهره هو، والآن جاء دور المراوح الكهربائيّة القديمة وجهاز التلفزيون المتآكل، وتُفَكَّك. ولا أدري ما يحدث مع أسرى الزنزانة رقم 12 الّذين أدخلوهم إلى حجرة الغسّالات، وحرارتها العالية الّتي لا تخفضها المروحة الكبيرة، بل تبعث هواء حارًّا. إنّها غرفة الغسّالة والنشّافة والبرّادات الكبيرة، وكلّها مصدر حرارة غير محتملة... وكلّهم صائمون اقتادوهم من نومهم. أمّا ما يفتّش عنه ضبّاط الوحدة الخاصّة فهو، كما تسرّب للأسرى، هاتف خلويّ غير موجود أصلًا. نتيجة لاحتجاج الأسرى فقد نُقِلوا من حجرة الغسّالات إلى ‘الكانتينا’ المكيّفة، وافترشوا الأرض من دون فراش وناموا. في الحادية عشرة انتهى التفتيش، ولملمت فرقة القهر عتادها، وبدأت بالمغادرة لتعود بخفّي حُنَيْن وقد أخفقت في تحقيق هدفها، وفي لعبة الأذهان فإنّ التفوّق للأسرى.

يتسابق الأسرى في القسم في توفير وجبة الإفطار لأسرى الزنزانة رقم 12، وفي مدّ يد المساعدة إليهم، إنّه تقليد تكافليّ رمضانيّ، إنّه تقليد اعتقاليّ في كلّ شهر وفي كلّ يوم...

في مرحلة ما، أُدْخِلَ جهاز لفحص الحيطان، وإذا ما كان بها فراغات عبارة عن مخابئ يبدعها الأسرى، وبعد ذلك أتوا بعمّال الصيانة، وهم سجناء جنائيّون من الأقسام الجنائيّة في سجنَي «جلبوّع» و«شطّة»، وأزالوا أثر الثقوب وتكسير الحيطان؛ لتبدو الأمور كأنّ شيئًا لم يحدث ولم يكن.

في الساعة الثانية بعد الظهر، ما زال الأسرى في معمعان إعادة ترتيب ما يمكن ترتيبه من لوازمهم، وما لم يصادره السجّانون، أو أتلفوه. ربطوا ما يمكن ربطه من خيطان قُطِّعَت، وفتّشوا عن برغيّ هنا ومسمار هناك، وكلاهما من الممنوعات. الساعة الآن الثانية والنصف ظهرًا، والأسرى يعملون على ترتيب الأكوام المكدّسة دون أيّ نظام، حسب نظام السجّان. والعمل جارٍ وبكدّ، فكلّ الأجهزة الكهربائيّة مفكّكة، وهذا يعني أنّه لا مراوح داخل الزنزانة الّتي باتت كالفرن بعد أن استوعبت كلّ أشعّة الشمس الحارقة... الشباب يعملون وينشطون، العرق يتصبّب منهم وقد ارتوت ملابسهم به، و... في الثالثة والنصف نجحوا في إدخال كلّ اللوازم والأغراض من الساحة إلى الغرفة، وبقيت مهمّة الترتيب الداخليّ الجماعيّ والفرديّ، وقد تطوّع العشرات لمساعدتهم بعد مغادرة الوحدة الخاصّة والسماح للأسرى بالخروج إلى الساحة.

في هذه الأثناء، بدأ الأسرى في الزنازين بالتحضيرات لوجبة الإفطار، ويتسابق الأسرى في القسم في توفير وجبة الإفطار لأسرى الزنزانة رقم 12، وفي مدّ يد المساعدة إليهم، إنّه تقليد تكافليّ رمضانيّ، إنّه تقليد اعتقاليّ في كلّ شهر وفي كلّ يوم، إنّه انتصار طقوس الحرّيّة لدى الأسرى على طقوس دولة السجّان وقهرها.

 


 

أمير مخّول

 

 

أسير سياسيّ فلسطينيّ محرّر. عمل قبل اعتقاله مديرًا لـ "اتّجاه- اتّحاد الجمعيّات الأهليّة"، كما شغل منصب رئيس لجنة الحرّيّات المنبثقة عن لجنة المتابعة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948. يكتب المقالة السياسيّة والثقافيّة في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.

 

 

التعليقات