16/07/2022 - 17:58

غسّان كنفاني في فرنسا... حضور شحيح

غسّان كنفاني في فرنسا... حضور شحيح

 

تحاول هذه المقالة عرض مكانة غسّان كنفاني، روائيًّا وقاصًّا ومسرحيًّا، ومثقّفًا عربيًّا تقدّميًّا، ومناضلًا متعدّد الاهتمامات والإنتاج، في اللغة الفرنسيّة وأدبها وثقافتها. وهذا يعني من جهة، معرفة ما تُرْجِم من أعماله الأدبيّة إلى الفرنسيّة، وتقصّي حضوره في وسائل الثقافة المتعدّدة؛ من برامج وتظاهرات وحلقات ثقافيّة. بالإضافة إلى الاطّلاع على الأعمال الفنّيّة الّتي استوحت بعض أعماله. ومن جهة أخرى، يتطلّب هذا عرضًا لحضوره في حقل الدراسات الأكاديميّة، وتقديمًا مختصرًا للدراسات الجامعيّة الّتي اهتمّت بأدبه، سواء كانت رسائل الدكتوراه أو المقالات الّتي نُشِرَتْ في مجلّات أكاديميّة محكّمة، ومتخصّصة في الأدب العربيّ أو في مجال الدراسات المقارنة. ومعرفة كلّ هذه الجوانب الأدبيّة والثقافيّة والأكاديميّة، ستقدّم لنا بالضرورة تصوّرًا عامًّا عن حضوره ومكانته في فرنسا؛ البلد الّذي يحمل واحدة من لغات الأدب الرئيسيّة في العالم، وذات الانتشار الواسع نسبيًّا في أوروبّا وخارجها.

 

الأعمال المترجمة

ثمّة ستّة أعمال أدبيّة معروفة مترجمة إلى الفرنسيّة لكنفاني، وهي: «رجال في الشمس» الّتي صدرت مُلْحَقَة بنصوص أخرى له، في كتاب جاء تحت عنوان «رجال في الشمس: يتبعها الساعة والصحراء، وأمّ سعد» (Des hommes dans le soleil: suivi de L'horloge et le désert, et Oum-Saad la matrice)، صدر عن دار النشر «سندباد» عام 1990، والكتاب بتقديم وترجمة ميشيل سورات. وصدرت عام 1997 رواية «عائد إلى حيفا: وقصص أخرى» (Retour à Haïfa: et autres nouvelles)، بترجمة الشاعر عبد اللطيف اللعبي وزوجته جوسلين اللعبي، ويحوي الكتاب إحدى عشرة قصّة عدا الرواية، وصدر الكتاب عن دار «سندباد» المتخصّصة بترجمة الأدب العربيّ ونشره بالفرنسيّة. ومسرحيّة «الباب» (La porte) الّتي صدرت عن دار النشر «سبارتاكوس» عام 2019، وهي من ترجمة مشتركة لمجموعة من المترجمين من بينهم هدى أيّوب، وجاءت في كتاب ثنائيّ اللغة. وصدرت بعض قصص كنفاني في كتاب بعنوان «قصص من العالم العربيّ» (Nouvelles du Monde Arabe)، عام 1993، عن دار النشر «ليفر دو بوش»، وهي تسع قصص مختارة "لأفضل الروائيّين العرب" كما جاء في مقدّمة الكتاب، ويحوي من ضمنهم نجيب محفوظ ويوسف إدريس. وكتاب «حكايات من فلسطين»(Contes de Palestine) ، بتقديم إبراهيم الصوص، صدر عن دار النشر «ستوك» عام 1979. ولأنّ الفرنسيّة لا تقتصر على فرنسا، فقد صدر عن ديوان المطبوعات الجامعيّة في الجزائر كتاب «أنطولوجيا فلسطينيّة» (Anthologie Palestinienne) لكنفاني عام 1984.

إنّ ترجمة ستّة أعمال للفرنسيّة، لكاتب بحجم كنفاني ولحضوره في الأدب العربيّ المعاصر، تدلّ على محدوديّة مكانته في المنشورات الفرنسيّة...

إنّ ترجمة ستّة أعمال للفرنسيّة، لكاتب بحجم كنفاني ولحضوره في الأدب العربيّ المعاصر، تدلّ على محدوديّة مكانته في المنشورات الفرنسيّة؛ فبالمقابل نجد، مثلًا، أكثر من خمس عشرة رواية مترجمة لإلياس خوري إلى الفرنسيّة، وأكثر من عشرين كتابًا مترجمًا لدرويش. وهذا العدد المحدود من النصوص المترجمة لكنفاني، ينطبق أيضًا على إميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا؛ إذ لا تتجاوز ترجمات كلّ واحد منهما ستّة أعمال فقط.

 

في الأحداث الثقافيّة والفنون

وعلى مستوى حضور كنفاني في الساحة الثقافيّة في فرنسا، فيبقى محدودًا كذلك. وكمؤشّر بليغ على هذا، لم نجد أيّ حلقة ثقافيّة مخصّصة له في إذاعة «فرانس كلتور» (France Culture)، وهي محطّة إذاعيّة ثقافيّة وطنيّة في فرنسا، تقدّم تحليلًا معمّقًا للأخبار الاقتصاديّة والتاريخيّة والسياسيّة والأدبيّة في فرنسا والعالم، ومن خلال برنامجها الثقافيّ تقدّم كتّابًا ومثقّفين مهمّين للرأي العامّ، سواء كانوا فرنسيّين أو أجانب؛ فنجد أكثر من حلقة مخصّصة عن محمود درويش، وعن إلياس خوري، لكنّنا لا نجد شيئًا عن غسّان كنفاني.

أمّا على صعيد الأعمال الفنّيّة المستوحاة من نصوصه الأدبيّة، فثمّة بعض المسرحيّات الّتي مُثِّلَتْ في المسارح الفرنسيّة، وهذه الأعمال الفنّيّة الّتي تُعَدّ أيضًا على أصابع اليد الواحدة، مستوحاة بشكل خاصّ من روايته «عائد إلى حيفا» ومسرحيّة «الباب» و«حكايات أمّ سعد»، سواء من قِبَل فنّانين عرب أو فرنسيّين.

 

في البحوث الأكاديميّة

أمّا في حقل الدراسات الأكاديميّة فثمّة أربع أطروحات دكتوراه، قدّمت باللغة الفرنسيّة في جامعات فرنسا عن أعمال غسّان كنفاني، ونترجم هنا عناوينها إلى العربيّة: أطروحة «التحليل الشكليّ والدلاليّ لرواية ’ما تبقّى لكم‘ لكنفاني»، للباحث محمّد سيدي، قدّمها في «جامعة السوربون الجديدة» عام 1986، وأطروحة بعنوان «البناء المكانيّ في الرواية العربيّة الفلسطينيّة: غسّان كنفاني وإميل حبيبي نموذجًا»، من عمل الباحث الحسن كيركور الميّاد عام 1997، ونذكر أيضًا أطروحة بعنوان «غسّان كنفاني: الرجل، حياته وأعماله»، لأفنان القاسم، قدّمها عام 1975 تحت إشراف المستشرق الفرنسيّ المعروف أندريه ميكل، وهي الدراسة الجامعيّة الأولى بالفرنسيّة عن كنفاني. الأطروحة الرابعة جاءت بعنوان «التقصّي والمَسْرحة في روايات غسّان كنفاني ومحمّد ديب» للباحثة مريدة أكيشي، عام 2000. وقد جاء في ملخّص هذه الدراسة: "تأخذ الأعمال الروائيّة عند محمّد ديب وغسّان كنفاني مسارات مختلفة، هدفها المكان والهويّة، والتحرّر للوصول إلى المعنى. يسير هذا المسعى المتعدّد جنبًا إلى جنب مع عمليّة المسرحة الّتي تجسّد الجانب التمثيليّ والدراميّ للنظام الروائيّ. دراستنا تحاول أن توضّح كيف تظهر هذه المواضيع في كلا الكتابتين، وتسلّط الضوء على طرائق هذا الاجتماع". وقد صدرت هذه الدراسة لاحقًا في كتاب بعنوان آخر «مسرح السفر، عشر روايات لمحمّد ديب وغسّان كنفاني»، عن دار النشر «لارماتان»، عام 2005. ثمّة أطروحة أخرى يجدر الإشارة إليها، وإن لم تكن مقدّمة باللغة الفرنسيّة، بل بالإنجليزيّة، للباحثة الفلسطينيّة هديل كركر، عن سرد المأساة الاستعماريّة لدى كنفاني وحبيبي، مع الإشارة إلى جون ملتون.

تقول نادر في مقالها مقارِنةً بين أعمال كنفاني وفولكنر: "يكشف وليام فولكنر وغسّان كنفاني في كتاباتهما عن أرض من نار ومن رماد، وعن كائنات في بحثٍ دائم، معلّقة بقسوة عالمها الغريب...".

أمّا على صعيد حضور كنفاني في المقالات المنشورة في مجلّات أكاديميّة فرنسيّة متخصّصة بالأدب، فنجد أنّه يُذْكَر في أكثر من ثلاثين مجلّة أدبيّة محكّمة، إمّا بالإشارة السريعة إليه في بعض المقالات الّتي تتناول قضايا في الأدب العربيّ بشكل عامّ، أو من خلال تخصيص مقال كامل عنه، أو من خلال مقال يقارنه بكاتب آخر، مثل مقال الباحثة ندى نادر، الّذي صدر في مجلّة الأدب المقارن «Trans»، وجاء بعنوان «مقاييس وفائض الحاضر لدى وليام فولكنر وغسّان كنفاني».

تقول نادر في مقالها مقارِنةً بين أعمال كنفاني وفولكنر: "يكشف وليام فولكنر وغسّان كنفاني في كتاباتهما عن أرض من نار ومن رماد، وعن كائنات في بحثٍ دائم، معلّقة بقسوة عالمها الغريب. في اللحظات الصعبة، تتجمّد الساعات، أو على الأقلّ تُكْبَح لحركة أبطأ. يُعَبَّر عن الأفعال أحيانًا في الماضي، ولكن تأتي بشكل خاصّ في الحاضر. والمؤشّرات الزمنيّة وإلحاح السرد يقودان السرد الروائيّ إلى فوريّة الإدراك. الحدث آخذ في الازدياد باستمرار، ويُولد الحاضر في قلق من التحقّق الوشيك. إنّ هذا يعكس الأزمة، حيث إنّ الوقت حان للمغامرات العاجلة والمستبدّة. وبقدر ما يكون رهين محور زمنيّ غير منظّم، فإنّ هذا الحاضر نفسه في خطر. تكشف القصص الّتي دُرِسَتْ عن تحدّيات الحاضر في أزمة الشخصيّات: ’الساعة والصحراء‘، و’رجال في الشمس‘، قصّتان طويلتان لغسّان كنفاني، يواجهان روايتين لوليام فولكنر: ’دخيل في الغبار‘ و’الضوء في أغسطس‘. ركّزت القراءة أحيانًا على المقتطفات الّتي تكثّف حالة الطوارئ، وتعيد إنتاج حتميّة الحاضر الّذي يتخلّل جميع الأعمال. إنّه موجود أوّلًا ومحفور في الصفحات، مقيس بدقّة، وأحيانًا موصوم بالأحكام. ولكن عندما تطول اللحظة، فإنّ الحاضر يبدو مصابًا بوقت عالق لم يَعُدْ يمرّ. ثمّ يصبح كلّ قياس وكلّ نظام عديم الفائدة: يعوم الحاضر في فوضى زمنيّة".

وفي حقيقة الأمر، إنّ جزءًا من هذه المقالات يدور بشكل خاصّ عن أعمال كنفاني، وليس كلّها. لذا، يبقى حضوره بالمجمل محدودًا في الساحة الأكاديميّة أيضًا، بالنسبة إلى مكانته في الأدب الفلسطينيّ والعربيّ. ويعلّق الباحث وأستاذ الأدب العربيّ في «جامعة باريس الثامنة»، الهواري غزالي، "إنّنا للأسف الشديد لا نجد على مستوى الدراسات الأكاديميّة للرواية العربيّة في فرنسا ذلك الاهتمام بأدب غسّان كنفاني، فمجمل ما قُدِّم من أطروحات دكتوراه عن هذه الشخصيّة وإرثها الثقافيّ لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة".

 

"في فرنسا، سعيد كاتب منبوذ"

إنّ ضآلة حضور كنفاني في الثقافة واللغة في فرنسا أمر يثير التساؤل، لكثرة المهتمّين بالأدب العربيّ والفلسطينيّ في هذا البلد، سواء كانوا من أصول عربيّة أو فرنسيّين.

إنّ ضآلة حضور كنفاني في الثقافة واللغة في فرنسا أمر يثير التساؤل، لكثرة المهتمّين بالأدب العربيّ والفلسطينيّ في هذا البلد، سواء كانوا من أصول عربيّة أو فرنسيّين.

حتّى إدوارد سعيد، ذو الحضور العالميّ الواسع، رغم أنّه حاضر في الحقل الأكاديميّ الفرنسيّ، يبقى حضوره هامشيًّا في الساحة الثقافيّة الفرنسيّة؛ فتشير صحيفة «ليبارسيون» في أحد مقالاتها، بكتابة سونيا فور وكاترين كالفيه، بهذا الشأن قائلة: "رغم أنّ سعيدًا، فرنكفونيّ، ومعجب بالأدب الفرنسيّ، إلّا أنّه لم يحظَ قطّ بالاهتمام الّذي حظي به في العالم الأنجلوساكسونيّ وفي البلاد العربيّة". وتذهب الباحثة الاجتماعيّة والفيلسوفة سونيا دايان- هيرزبرون، الّتي حاولت كثيرًا إخراج الّذي تعتبره أحد أكبر العقول في القرن العشرين، خارج الدائرة الأكاديميّة الفرنسيّة إلى القول: "في فرنسا، سعيد كاتب منبوذ". لكنّ الصحيفة الّتي تقرّ بأنّ هناك "استقبالًا باردًا لسعيد في فرنسا"، تحيل ذلك إلى أسباب موضوعيّة، منها وجود فانون الّذي نقد الكولونياليّة الفرنسيّة، بالتالي كانت الحاجة أقلّ إلى سعيد، وهذا بالتأكيد لا يقدّم تفسيرًا كافيًا لهذا النقص في الاهتمام.

 

* تُنْشَر هذه المقالة ضمن ملفّ خاصّ يتزامن مع مرور خمسين عامًا على اغتيال الشهيد غسّان كنفاني على يد الاستعمار الإسرائيليّ، تُنْشَر موادّه على مدار شهر تّموز (يوليو) 2022.

 


 

أنس العيلة

 

 

 

شاعر وكاتب فلسطينيّ مقيم في باريس، أصدر عدّة مجموعات شعريّة تُرجمت إلى الفرنسيّة، آخرها "عناقات متأخّرة". ينشر مقالاته في مجلّات ثقافيّة وأكاديميّة.

 

 

خمسون عامًا على اغتيال كنفاني | ملفّ

خمسون عامًا على اغتيال كنفاني | ملفّ

23/08/2022
مقاومة الانتظار الفلسطينيّ... «الباب» نموذجًا

مقاومة الانتظار الفلسطينيّ... «الباب» نموذجًا

11/07/2022
غسّان كنفاني... الفنّان التشكيليّ

غسّان كنفاني... الفنّان التشكيليّ

01/08/2022
قراءة دون رمزيّة في غرائبيّة «القبّعة والنبيّ»

قراءة دون رمزيّة في غرائبيّة «القبّعة والنبيّ»

25/07/2022
قنديل كنفاني الصغير... النور بين كانط وأفلاطون ونيتشه

قنديل كنفاني الصغير... النور بين كانط وأفلاطون ونيتشه

25/07/2022
أن تكون مثقّفًا مزعجًا

أن تكون مثقّفًا مزعجًا

05/07/2022
شعر الأرض المحتلّة... حوار مع غسّان كنفاني | أرشيف

شعر الأرض المحتلّة... حوار مع غسّان كنفاني | أرشيف

19/07/2022
مأزق الزمن عند كنفاني... إلغاء المستقبل الفلسطينيّ

مأزق الزمن عند كنفاني... إلغاء المستقبل الفلسطينيّ

08/08/2022
"رجال في الشمس" لغسّان كنفاني | ترجمة

"رجال في الشمس" لغسّان كنفاني | ترجمة

19/07/2022
عن الأقلام أكتب... وليس عن الكتب | أرشيف

عن الأقلام أكتب... وليس عن الكتب | أرشيف

24/07/2022
أفكار التغيير واللغة العمياء... مَنْ يقتل كنفاني مرّة أخرى؟

أفكار التغيير واللغة العمياء... مَنْ يقتل كنفاني مرّة أخرى؟

01/08/2022
بين شنق سيّد قُطب واغتيال كنفاني

بين شنق سيّد قُطب واغتيال كنفاني

03/08/2022
أدب غسّان كنفاني... حديث في الوعي الثوريّ

أدب غسّان كنفاني... حديث في الوعي الثوريّ

18/07/2022
بين الإعجاب وسهام النقد... كنفاني متخفّيًّا وراء ’فارس فارس‘

بين الإعجاب وسهام النقد... كنفاني متخفّيًّا وراء ’فارس فارس‘

07/08/2022
«أمّ سعد»... الشجرة الإنسان | ترجمة

«أمّ سعد»... الشجرة الإنسان | ترجمة

14/07/2022
المنهج التركيبيّ وولادة الشخصيّة الأدبيّة الفلسطينيّة

المنهج التركيبيّ وولادة الشخصيّة الأدبيّة الفلسطينيّة

22/08/2022
شمس فلسطين الّتي لا تغيب

شمس فلسطين الّتي لا تغيب

04/07/2022
«عائد إلى حيفا»... زيارة مناطق الصدمة

«عائد إلى حيفا»... زيارة مناطق الصدمة

13/07/2022
صورة أبديّة على حائط عالم ليس لنا

صورة أبديّة على حائط عالم ليس لنا

07/07/2022

التعليقات