19/09/2022 - 13:05

فلسطين واستعمارها ’ المبنيّ للمجهول‘ في الأكاديميا الغربيّة

فلسطين واستعمارها ’ المبنيّ للمجهول‘ في الأكاديميا الغربيّة

من مخيم الوحدات، عمّان | تصوير: نماء القضاة

 

في طريقنا إلى غرفة 23 لحضور الجلسة رقم 3-أ، مررنا على القاعة الرئيسيّة ذات القبّة الذهبيّة، الّتي توسّطها باحث غربيّ يتحدّث بالإنجليزيّة أمام شاشة توسّطها العنوان التالي: «الخلاف الإسرائيليّ - الفلسطينيّ». "ألا يملكون غير فلسطين للحديث عنها؟". سألتُ صديقتي الغزّيّة الجديدة من المؤتمر، فأجابتني بنبرة ساخرة: "ليتركوا فلسطين بحالها، وستُحل جميع الأمور لوحدها".

بعد أربع سنوات من دراسة فلسطين والبحث في مخيّمات شتاتها وبنائها، موضوعًا لرسالة الدكتوراة في إحدى جامعات أوروبّا وأذرع استعمارها الغربيّ، بتناقض صارخ لم يغب عن ذهني قطّ، أدركت أنّ لفلسطين أوجهًا كثيرة تختلف باختلاف مقصد الباحث فيها، وباختلاف توجّهاته وخلفيّته.

في المؤتمرات الأكاديميّة، تتّسع الدوائر المعرفيّة وتتعدّد نقاط التماسّ، فأجد نفسي أمام الكثيرين ممّن يدرسون فلسطين، أو مَنْ يدرسون ما يسمّونه ’إسرائيل‘، أو مَنْ يدرسون المساحة الواقعة بين الاثنتين، أو مَنْ يحاولون أن يوجدوا تلك المساحة الّتي ستتّسع لنا جميعًا.

بوصفي باحثة فلسطينيّة وأردنيّة، كانت سابقة لقاء أكاديميّين ’إسرائيليّين‘ للمرّة الأولى تجربة جديدة لم أكن قد استعددت لها. في الأردنّ، حيث أتممت دراستي الجامعيّة، وعملت في السلك الأكاديميّ لعدد من السنوات قبل البدء برحلة الدكتوراة، كانت تفصلني عن أرض فلسطين مسافة تزيد وتنقص مع كلّ زيارة لعائلة والدتي، القادمة إلى عمّان عبر «جسر الملك حسين»، كما كانت تفصلني عن ’الإسرائيليّ‘ مسافة كافية كفيلة لطمس ملامحه؛ ليصير فكرة لا شخصًا. العدوّ، الآخر، خبر على شريط إخباريّ، أنظر إليه وأمقته من خلف الشاشة، دون الاقتراب منه أو الحديث معه.

 

السنة الأولى

في سنتي الأولى في دراسة الدكتوراة، التقيت بثلاثة منهم في أوّل المؤتمرات الّتي شاركت فيها. لسبب ما؛ اعتقدت أنّهم سيتجنّبون الحديث معي، أو بأنّ كلًّا منّا سيتظاهر بأنّه لا يرى الآخر. صدّقت للحظة، بسذاجة طالبة دكتوراة في سنتها الأولى، بأنّ شعورًا بالذنب أو الخجل قد يمنعهم من الحديث مع أيّ باحث فلسطينيّ أو عربيّ جاء للحديث عن فلسطين، خاصّة لأنّ اللاجئين الّذين يسكنون المخيّم في عمّان، الّذين أتيت إلى هذا المؤتمر لأشارك جانبًا من مساحات حياتهم اليوميّة، صاروا لاجئين لأنّ الإنسان الإسرائيليّ حلّ محلّهم بعد أن دمّر قراهم؛ إحلال واستبدال.

في المؤتمرات الأكاديميّة، تتّسع الدوائر المعرفيّة وتتعدّد نقاط التماسّ، فأجد نفسي أمام الكثيرين ممّن يدرسون فلسطين، أو مَنْ يدرسون ما يسمّونه ’إسرائيل‘، أو المساحة الواقعة بين الاثنتين...

مع الوقت والتجربة والمزيد من اللقاءات المقيتة الّتي حاولت تجنّبها، أدركت أنّ غالبيّتهم تتصرّف بنفس الطريقة في هذه المحافل الأكاديميّة. تعتبر هذه اللقاءات فرصة ممتازة ليظهر الباحث ’الإسرائيليّ‘ فيها بمظهر الإنسان الراغب في فتح جسور تواصل مع الطرف الآخر، فيبادر بالتحيّة والحديث بلطف مبالغٍ فيه، مركّزًا بحواره على نقاط تشابه وهميّة تهدف إلى إذابة الفروقات بين الطرفين.

لم أكن أدرك أسلوب التعامل في بادئ الأمر، لكنّني مع الوقت فهمته أكثر. تعرّفت إلى ما يسمّى باليسار الإسرائيليّ، وتعمّقت أكثر في فهم ’تعدّديّة‘ المجتمع الإسرائيليّ، بطريقة لم تغيّر إيماني بأنّ اليسار واليمين، وكلّ ما يقع بينهما، ما هي إلّا أوجه متعدّدة للاستعمار الإحلاليّ الاستبداليّ ذاته، قد يبدو بعضها أكثر لطافة وتسامحًا، بطريقة تحاول، في رأيي، أن تعفيهم من المساءلة والمسؤوليّة، وتجعلهم أقدرعلى التغلغل بين الأوساط الفلسطينيّة المتعدّدة.

لن أنسى شعور الذهول المطلق الّذي أحسست به، عندما وقفت باحثة إسرائيليّة في أحد المؤتمرات أمام قاعة ممتلئة؛ لتقول:  "أنا ناجية ’هولوكوست‘ من الجيل الثالث، بعد النكبة سكن جدّي وجدّتي في دار عائلة فلسطينيّة جنوب حيفا. تذكر جدّتي أنّ ممتلكات العائلة ظلّت في الدار بعد رحيلهم، فقرّرت العائلة إبقاء كلّ شيء مكانه. سكنا تلك الدار، الّتي كانا يدركان تمامًا أنّها كانت ملك عائلة فلسطينيّة من دار ’أبو هوّاش‘". ثمّ شاركت صورة قوشان الأرض والعقار على الشاشة: "ندرك تمامًا مَنْ مالكو الدار، وهذه أوراق الملكيّة."

أخذتُ نفسًا طويلًا قبل أن أسأل: "ما الّذي تحاولين قوله؟ شعرت بأنّ طرحك يعتريه الكثير من التناقض". ابتسمتْ وأجابتْ: "أنا سعيدة بأنّ هذا الشعور وصلك، هذا كان مقصدي من العرض، لم أرد أن آخذ جانبًا أو أحدّد موقفًا، أردت فقط أن أقول بأنّ الذكريات تتراكب، وبأنّ الوقت كفيل بصنع تجربة متعدّدة في نفس البيت والمكان، لعائلات مهجَّرة من بقاع الأرض شتّى".

فقدت قدرتي على الكلام، موجة غضب عارمة انطلقت في جوفي كقطار سريع خرج من المحطّة وسحق معه كلّ ما كنت أريد قوله. كنت ما زلت مبتدئة، لمّا أكن قد تعلّمت بعد كيف أضبط أعصابي، ولا كيف أسبح باتّجاه مركز العاصفة، حيث أستطيع الحديث بهدوء واتّزان على الرغم من كلّ المشاعر القويّة الّتي ثارت بداخلي.

أردت أن أقول لها: "وماذا عن العائلة الّتي اقتُلعت من دارها؟ هل تَراكب الذكريات هذا كفيل بوضع سقف فوق رؤوسهم؟ لماذا على عائلة ’أبو هوّاش‘ أن تدفع ثمن جريمة ’الهولوكوست‘ الّتي ارتكبها النازيّون بحقّ عائلتك؟ هل تعتقدين أنّ عدم اتّخاذك موقفًا واعترافك بالحقائق كافٍ لإعفائك وعائلتك من المسؤوليّة؟"

لم أقل شيئًا، وأضيفت هذه اللحظة إلى سجلّ اللحظات الّتي تشعرني بالغضب وخيبة الأمل تجاه نفسي؛ لأنّي لم أقل ما أردت قوله.

في نفس ذلك المؤتمر، تحدثت باحثة فلسطينيّة عن قريتها مسافر يطّا وممارسات أهلها المستمرّة لمقاومة المحتلّ. كان هذا في 2019، قبل أن ينتشر اسم القرية على منصّات التواصل الاجتماعيّ، ويعرفها الناس بشكل أوسع. في خضمّ حديثها، ذكرت أنّ ’الصراع‘ الفلسطينيّ ـ الإسرائيليّ أدّى دورًا كبيرًا في تدمير قريتها.

"أنت إنسانة فلسطينيّة، ومن المعيب أن تصفي ما يحصل بالصراع، من باب الاحترام لنفسك وعائلتك وتاريخ بلدك. سَمّي الأمور بأسمائها، إنّه تطهير عرقيّ". التفت كلّ من في القاعة لينظر إلى مصدر الصوت، في مشهد دراميّ حاسم. عرّف على نفسه على أنّه بروفيسور أوروبّيّ يعمل في تلك الجامعة، وأنّه داعم كبير للقضيّة الفلسطينيّة.

"علينا ألّا نستهين بهذه العبارة ونستعملها بهذه السهولة ... التطهير العرقيّ، هذا ليس ما يحدث". التفت الجميع مرّة أخرى، الباحثة الإسرائيليّة ذاتها صاحبة الذكريات المتطابقة. لم ينظر البروفيسور إليها، بل قال على عجل، "ألين بابيه كتب كتابًا كاملًا عن هذا الأمر، أنصحك بقراءته".

لماذا يشعر الباحث الغربيّ بهذا القدر من الثقة والثبات عند الحديث عن فلسطين؛ ليصل به الأمر بأن يعلّم الإنسانة الفلسطينيّة نفسها عن فلسطين؟ كيف تصبح فلسطينيّة أفضل؟ كيف تمتلك القدر الكافي من الاحترام لذاتها ولأهلها لتختار الكلمات الصحيحة عند الحديث عن معاناتها اليوميّة؟

لماذا يشعر الباحث الغربيّ بهذا القدر من الثقة والثبات عند الحديث عن فلسطين؛ ليصل به الأمر بأن يُعلّم الإنسانة الفلسطينيّة نفسها عن فلسطين؟ (...) كيف تمتلك القدر الكافي من الاحترام لذاتها ولأهلها لتختار الكلمات الصحيحة عند الحديث عن معاناتها اليوميّة؟

اعترى ذلك المشهد الكثير من التناقض؛ لأنّي وافقت ما قاله عن استخدام كلمة ’الصراع‘ وضرورة تسمية الأشياء بمسمّياتها، وأحببت الطريقة الّتي اختار فيها ألّا ينجرّ لنقاش محسوم حين ذكر كتاب بابيه، لكنّي رفضت الاستحقاق الّذي تحدّث به مع الباحثة الفلسطينيّة؛ ليضع نفسه موضع الخبير الّذي يمتلك ما يكفي من الخبرة والمعرفة ليعلّمها عن حياتها ومعاناتها وتاريخها الشخصيّ. وشعرت، بطريقة ما، أنّه كان يؤدّي دور المنقذ الأبيض، في سياق قد يبدو مساندًا للقضيّة الفلسطينيّة، لكنّه لا يختلف في جوهره عن الإيمان بفوقيّة عرقه وموقعيّته.

 

السنتان الثانية والثالثة

سنتي الثانية في الدكتوراة، وسنة كورونا الأولى. عُلّقت المؤتمرات الوجاهيّة، وتحوّلت معظم اللقاءات الأكاديميّة إلى الانعقاد عبر تطبيق «زوم». في هذا العام، شعرت بأنّي صرت أكثر دراية بطبيعة الحوارات الّتي سأخوضها في ما يخصّ رسالتي، ونقاط الاشتباك الّتي سأخوضها مع الباحثين ’الإسرائيليّين‘ الّذين لم ينفكّوا يظهرون في كلّ مكان.

في إحدى المحاضرات عبر ’زوم‘، طلب منسّق المساق منّا أن نعرّف على أنفسنا ومواضيعنا البحثيّة. بعد أن عرّفت على نفسي، عرّفت طالبة أخرى على نفسها، وذكرت أنّها طالبة إسبانيّة تدرس بين جامعتنا في أوروبّا وجامعة إسرائيليّة في القدس، وتبحث في الإرث المعماريّ لمدينة عكّا.

أدركتُ أن منسق المساق رأى في تلك اللحظة فرصة ممتازة لخلق مساحة حوار بسبب الابتسامة البلهاء الّتي ظهرت على وجهه. كنت على حقّ؛ فاقترح علينا اللقاء والحديث. كنت أريد أن أقول: للحديث عن ماذا؟ كما قال غسّان في تلك المقابلة الشهيرة الّتي ما زلت أعود إليها كلّ فترة؛ لأستمدّ منها القوّة، وأتعلّم منها الأسلوب والطريقة في النقاش.

بعد التفكير، قرّرت الحديث معها من باب الفضول. من أيّ منظور يمكن لباحثة أوروبّيّة أن تنظر إلى إرث عكّا المعماريّ في سياق دراستها في جامعة إسرائيليّة؟ راسلتها، اقترحتُ اللقاء لشرب القهوة والحديث. جاء الردّ: "أنا حاليًّا على سفر، سأكون في القدس الشهر القادم. ربّما يمكن أن نلتقي وقتها هناك لشرب القهوة؟".

هل يمكن أن تكون جاهلة إلى هذا الحدّ؟ مضت لي أيّام لأردّ عليها. تاريخ العائلة، قرية سلبيت المهجَّرة، جدّي وجدّتي لأمّي، لاجئون في الأردنّ، لم يتسنّ لهم العودة، الاحتلال، فلسطين. بعد نحو الشهر، تلقّيت ردًّا منها، مرفقًا بصورة من أمام السور المطلّ على المسجد الأقصى، حيث توسّطت الصورة مع والدتها. "أنا في القدس مع والدتي، تذكّرتك اليوم وفكّرت في كلّ الظلم الواقع على الفلسطينيّين في كلّ مكان. عليّ أن أخبرك بأنّي على دراية بتعقيدات الخلاف وتاريخه، لكن، أنت أوّل فلسطينيّة أقابلها تعيش خارج فلسطين، هل أنت مهتمّة بمشاركة صوتك لنقل تجربة فلسطينيّي الشتات؟".

أنا؟ أنقل صوت فلسطينيّي الشتات؟ جميعهم؟ لا أقدر على الحديث بالنيابة عن عائلتي، ناهيك التحدّث بالنيابة عن الكلّ. لا، شكرًا عزيزتي.

سنتي الثالثة في الدكتوراة، وسنة كورونا الثانية. في أحد المساقات الّتي شاركت في تدريسها، أدركت أنّ أحد مدرّسي المساق من ’إسرائيل‘، وقد رأى إنّ من الحكمة أن يشاركني همومه، بالرغم من من درايته بموقعيّتي، فيقول: "أنا منزعج كثيرًا، هذا الصيف لن أتمكّن من الاستلقاء على شاطئ تلّ أبيب. تطلب إسرائيل من القادمين شهادة تطعيم، وأنا لمّا أتلقّ المطعوم بعد. هل يعقل أن أقضي الصيف هنا؟".

قضيت ذلك المساق أحدّق بوجهه ببلاهة. أدركت أنّ من المقبول ألّا أقول شيئًا، وأنّه ليس من المطلوب منّي أن أجهّز ردًّا في كلّ مرّة وأن أدافع عن فلسطين وأحكي عن اللاجئين في كلّ مرّة يظهر شخص إسرائيليّ بوجهي، ويحاول استفزازي؛ فقرار لحظة الاشتباك يخصّني لوحدي.  

السنة الرابعة

سنتي الأخيرة، أو هكذا يُفترض. عدنا للحياة تدريجيًّا بعد الاختفاء التدريجيّ لتشديدات كورونا الاحترازيّة. سافرت إلى أوّل المؤتمرات بعد الكورونا. في أوّل يوم بعد الوصول، أدركت أنّ نائب رئيس المؤسّسة الّتي عقدَت المؤتمر المعنيّ بـ ’مناهضة الاستعمار‘، هو جنديّ سابق في جيش الاحتلال، ذو رتبة عالية وإصابة حرب. درّس في إحدى أكبر جامعات ’إسرائيل‘ نحو عقدين، قبل أن يعلن تبنّيه لمنهج حركة المقاطعة، وانتقاله إلى أوروبّا لتدريس ’أخلاق العنف‘ للمجتمع الأكاديميّ الغربيّ.

لو تعمّد أحدهم كتابة مسرحيّة كوميديا سوداء، قاحلة السواد في الواقع، لما استطاع أن ينتج مشهدًا كهذا. لمت نفسي كثيرًا لأنّي لم أبحث بشكل كافٍ عن الكوادر العاملة في المؤسّسة. أثقلني شعور هائل بالذنب.

في ذلك المؤتمر، كان ثَمّ عدد هائل من الباحثين ’الإسرائيليّين‘ الّذين أتوا للحديث عن مناهضة الاستعمار، بينما تغيّب عدد كبير من الباحثين العرب عن نفس المؤتمر بسبب عدم حصولهم على تأشيرة السفر من الإمبراطوريّة البريطانيّة العظمى. رُفضت طلبات تأشيرات نسبة منهم؛ بسبب تخوّف من أن يكون المؤتمر ذريعة للاستقرار في بريطانيا، بينما تأخّرت تأشيرات النسبة الأخرى بسبب تعقيدات مرحلة الكورونا وما بعد الكورونا.

بعد إحدى الجلسات، قابلتني باحثة أوروبية وقالت"مرحبًا، نماء، أنا مهتمّة جدًّا ببحثك، أنا أبحث أيضًا في المخيّمات الفلسطينيّة، لكن تلك في الضفّة الغربيّة. هل سبق أن زرتها؟". "لا، لا أستطيع الدخول ... فأنا لا أحمل جوازًا أوروبّيًّا مثلك". "كم هذا محزن! أتعلمين؟ لقد كنت أنوي أن أركّز في بحثي على مخيّمات غزّة، حاولت كثيرًا أن أحصل على تصريح للدخول إلى غزّة. لم أنجح في ذلك. أولئك الإسرائيليّون! الطريقة الّتي يمنعوننا من الدخول إلى غزّة! لا نستطيع الدخول ولا تغطية ما يحدث على أرض الواقع. هذا أمر مؤسف، أنا غاضبة جداً".

ذكّرتني تلك الباحثة الأوروبّيّة بذلك البروفيسور الّذي قابلته في السنة الأولى، ذلك الشعور بالاستحقاق الّذي أخذ بُعدًا آخر هذه المرّة؛ حيث الإيمان المطلق بأنّ البحث العلميّ والذهاب إلى فلسطين، أو بالأحرى توظيف الجواز الأوروبّيّ للذهاب إلى فلسطين لإجراء البحث، فيه نوع من إنقاذ الشعب الفلسطينيّ من وطأة ’إسرائيل‘.

نظرت مليًّا إلى تلك الباحثة، لم يكن لديّ أيّة مشكلة شخصيّة معها، بدت لطيفة جدًّا وجادّة في رغبتها في المساعدة، لكن من قال إنّ هناك مَنْ يحتاج إلى المساعدة؟ هذا المنظور بالضرورة يضع الشعب الفلسطينيّ في مرتبة أقلّ من الباحث في شأنه. أما ملّ الأكاديميّون الغربيّون من دراسة فلسطين؟

في اليوم الأخير من المؤتمر، في الجلسة الختاميّة، جلسنا في نفس القاعة الّتي مررت بها في بداية هذا المقال، ذات القبّة الذهبيّة. أتت مجموعة منّا للسؤال عن جدّيّة المؤسّسة في تبنّي أسس المقاطعة. رفعت يدي وبدأت بالكلام: "أشعر بأنّ المؤسّسة لم تتمتّع بالشفافيّة المطلوبة في هذا المؤتمر. لقد جرى التصويت لقرار يتبنّى مساعي حركة المقاطعة العام الماضي، لكنّنا نرى اليوم عددًا هائلًا من الباحثين الإسرائيليّين القادمين من أكبر المؤسّسات الأكاديميّة الإسرائيليّة؟ كيف يعقل هذا؟".

وقف الجنديّ السابق، نائب رئيس المؤسّسة أمام المنصّة، ونظر إليّ ببلاهة مطلقة قائلًا: "أنا لا أفهم السؤال". اعترى القاعة صمت مطبق، والتفت عدد من الحضور إليّ بذهول خالطه الاشمئزاز. يبدو أنّني زعزعت مساعي التواصل والبحث عن حلّ الآن. هل كان سؤالي صعبًا إلى هذه الدرجة؟ ما الّذي كنت أتوقّعه مثلًا؟ لكنّني شعرت بالكثير من الفخر بعد ذلك الموقف، فقد تعلّمت ونضجت كثيرًا خلال هذه السنوات الأربع.

 

لحظة وعي

إنّ المؤسّسة الأكاديميّة الغربيّة، في رأيي، صاحبة أذكى مشروع استثماريّ استعماريّ في العالم. بعد استعمار أجزاء كبيرة من العالم واستنزافها، استمرّت اليوم بمدّ أذرعها في بقايا ما استعمرته من دول؛ لاستقطاب العقول النيّرة الّتي ستمكّنها من الوصول إلى المعلومات والمعرفة، الّتي لم يكن بإمكان الباحث الغربيّ الوصول إليها مهما حاول؛ بسبب الاعتبارات الأمنيّة، والحواجز الاجتماعيّة وحاجز اللغة، وغيرها.

في تلك الأثناء، يطمح الإنسان العربيّ ذو العقل النيّر بمستقبل مبهر في تلك الجامعات؛ فيحمل في كيسه كلّ ما لديه من معرفة وتفوّق وأدوات لغويّة مهمّة، وميرميّة وبهارات وسمّاق وجميد، ويطرق أبواب تلك المؤسّسات، مقدّمًا كلّ ما لديه من مال أو سنين والتزام، مترجّيًا إياهم بقبوله.

استمرّت المؤسّسة الأكاديميّة الغربيّة بمدّ أذرعها في بقايا المستعمَرات السابقة؛ لاستقطاب العقول النيّرة الّتي ستمكّنها من الوصول إلى المعلومات والمعرفة، الّتي لم يكن بإمكان الباحث الغربيّ الوصول (...) بسبب الاعتبارات الأمنيّة، والحواجز الاجتماعيّة وحاجز اللغة...

كمؤسّسات أكاديميّة غربيّة؛ فلنظهر للعالم أنّنا دول عالم أوّل، تهتمّ بـ ’الشرق الأوسط‘ من خلال عقد مؤتمر أكاديميّ عن ’مناهضة الاستعمار‘. في نفس ذلك المؤتمر، فلنشرّع الأبواب للجميع، مستقبلين الوفود الأوروبّيّة و’الإسرائيليّة‘، وكذلك العربيّة والفلسطينيّة الّتي لن تتمكّن من القدوم بسبب عدم قدرتها على التنقّل. لكن، لا داعي إلى القلق؛ فهناك ما يكفي من الإسرائيليّين للحديث عن فلسطين، ليبدي القاتل رأيه بضحيّته.

سنذكر فلسطين، أكثر ممّا يجب ربّما، ونتحدّث عن الاستعمار ’المبنيّ للمجهول‘ بحقّ الفلسطينيّين ونتحدّث عن الاجحاف بحقّ الطبيعة والعمارة والإنسان، ونطالب بمحاربة نظام الأبارتهايد من أجل حقوق أفضل، دون التطرّق إلى الإطار السياسيّ الأشمل الّذي سبّب هذا كلّه من الأساس.

لن نستخدم كلمات مثل ’الاستعمار‘، إلّا عند المطالبة بالتحرّر من استعمار العقول والغرف الصفّيّة، ولن نتحدّث عن ’الاحتلال‘، إلّا عند التحدّث عن الضفّة الغربيّة والقدس الشرقيّة. سنذكر حزننا لكلّ ما يحدث في غزّة، وحيّ الشيخ جرّاح، وضرورة منح فلسطينيّي الداخل حقوقًا متساوية داخل ’إسرائيل‘، لتصير فلسطين أجزاءً متناثرة على الخريطة وفي وعي الفلسطينيّين الجمعيّ، وتذوب المساحات بينها وتتقطّع سبل التواصل. لن نتحدّث عن اللاجئين الفلسطينيّين ومن أين أتوا، لكنّنا سنتحدّث بالتأكيد عن المخيّمات بوصفها نقطة وصول فقط؛ فنبحث في بنائها ورسومات الجرافيتي فيها، دون التطرّق إلى أسباب تشكّلها ولا علاقتها بفلسطين أو النكبة؛ فالماضي مضى ولا حاجة إلى العودة إليه.

لن أنسى البروفيسور الّذي قال لي يومًا: "أنت معماريّة، كفاكِ تطرُّقًا للجوانب السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة في المخيّم. ادرُسي المخيّم كما لو كان خاليًا من السكّان، ركّزي على البناء، كما لو كانت سفينة فضائيّة قد اختطفت جميع السكّان وجئت أنت ووجدتِه فارغًا".

كم مرّة على الإنسان الفلسطينيّ أن يتهجّر؟ حتّى وهم جالسون في المخيّم يريد أن يرسلهم إلى القمر؟ أيصبح الإنسان لاجئًا أكثر، بعد كلّ مرّة يهجَّر فيها، أم أنّها صفة يحملها الإنسان معه بعد أوّل تهجير، ويطوف بها الأرض – والفضاء - إلى أن يعود إلى داره؟ تساؤل مثل هذا كيف يمكن لي أن ترجمته إلى اللغة الإنجليزيّة لأضمّه إلى بحثي؟

 


 

نماء القضاة

 

 

 

باحثة أكاديميّة نسويّة تركّز على دراسة المخيّمات الفلسطينيّة وعمارة اللاجئين. تعمل حاليًّا على إنهاء رسالة الدكتوراة من «جامعة دلفت»، هولندا، حول تطوّر مخيّم الوحدات في عمّان، الأردنّ. تتركّز اهتمامتها البحثيّة على تقاطعات العمارة والأنثروبوجيا والتصوير الفوتوغرافيّ والصحافة الاستقصائيّة.

 

 

التعليقات