11/01/2023 - 10:19

الحرّيّة المتخيّلة: غزّة وجدليّة الحدود والمنافي

الحرّيّة المتخيّلة: غزّة وجدليّة الحدود والمنافي

شاطئ مدينة غزّة

 

كيف يمكن للإنسان أن يصبر على ألم المنافي، أن يتحوّل إلى شخص تائه، يسرقه الزمن بلا حساب؟ بعد ستّة عشر عامًا ممزوجة بالمنفى الاختياريّ والمنفى الإجباريّ أحيانًا، بحسب الوضع السياسيّ الفلسطينيّ والوضع الأمنيّ المحيط بقطاع غزّة، قرّرت أن أزور غزّة لأوّل مرّة. لم أرد أن أبني حسرة ووجعًا أكبر ينمو يومًا بعد يوم ممّا عايشته قبل ثلاثة أعوام، عندما توفّي والدي بعد أعوام طويلة في المنافي، بلا قدرة على لقائه أو وداعه. في كانون الثاني (يناير) الماضي، قرّرت أن أعود وأزور والدتي المريضة وأخواتي، وإخواني، وعائلاتهنّ، وعائلاتهم. كنت أعرف أنّ زيارة غزّة تعني المقامرة بمستقبلي، لكنّ رؤية والدتي وزيارة قبر والدي، كانتا أهمّ عندي من مستقبل بلا طعم. لم أعرف ماذا ينتظرني.

بدأت التحضيرات بدوّامة الأسئلة الّتي تبدأ دومًا بـ "ماذا لو؟". لكن ما القوانين؟ كيف يمكن الدخول إلى غزّة؟ وما قوانين دخول حاملي الجنسيّات الأجنبيّة إلى غزّة (فلم يَعُد لديّ جواز سفر فلسطينيّ)؟ كيف يمكن الحصول على التصاريح المطلوبة؟

 عندما غادرت غزّة، لم يكن أتوقّع أن أعود لبيتي غريبًا أجنبيًّا. كانت الخطوة الثانية التأكّد من أنّه ليس لديّ قضايا جنائيّة أو أمنيّة، عبر بعض الأصدقاء المحامين وأخي لدى حكومة « حركة حماس»، لكوني كتبت في قضايا يمكن أن تثير أفرادًا من الحركة الّتي تحكم غزّة. أمّا ثالثًا؛ فكان دخولي إلى مصر وعبوري إلى سيناء، فكيف سيكون ذلك؟ ما المبالغ المطلوبة لو حاول بعض الضبّاط المصريّون منعي من دخول سيناء، وما إذا كان لديّ قضايا منع دخول مصر بسبب عملي في مشروع أكاديميّ سويديّ ناقد للنظام المصريّ؟

لكنّ السؤال الأصعب كان: كيف سأشعر في المكان الّذي وُلِدْتُ وترعرعت فيه، ودرست في مدارسه، ومشيت في حاراته؟ هل سيكون نفس الشعور بالانتماء إليه؟ بعد العيش والتنقّل بين سبع دول ومجتمعات، كان السؤال الأصعب: هل سأكون ذلك الشخص الّذي كَبُرَ في غزّة؟ وكيف سأشعر تجاه الحيّ والمدينة والناس؟ كيف ستكون المدينة بعد حروب عديدة واختفاء كلّ الأماكن الّتي عايشتها في طفولتي، واحتفظت بها ذكريات؟

 

جواز السفر الغربيّ قوّةً

أن يولد الإنسان بجواز حاملًا جنسيّة ليست غربيّة، يعني أنّ حركته محدودة، وحرّيّة حركته مقيّدة. تنعكس قوّة الدول في قوّة جوازات سفرها، وإمكانيّة أفرادها تخطّي الحدود بدون صعوبات. والفلسطينيّون لا يملكون هذه القوّة، بل محكومون لقوّة احتلاليّة استعماريّة تمنعهم من التحرّك بين مدنهم. لكنّ الفلسطينيّ الّذي يحمل الجواز الغربيّ القويّ يعاني أيضًا، بشكل أو بآخر، العنصريّة والنظريّة الأمنيّة، خاصّة في المطارات العربيّة.

ينظر ضابط الجوازات العربيّ إلى الاسم ولون البشرة، أكثر منه إلى الجواز في أغلب الأحيان، ليعرف كيف يوجّه السؤال إلى المسافر. بالنسبة إلى ضابط الجوازات الأمنيّ، الاسم العربيّ على جواز غربيّ هو ما أُطلق عليه: «متلازمة أريكسون في غير محلّه»؛ إذ يكون امتلاك محمّد الجواز الأمريكيّ تناقضيًّا، وعبد الهادي الّذي يحمل الجواز السويديّ مواطنًا سويديًّا متخيّلًا، حيث تسيطر التخيّلات المسبقة. على الرغم من معاناة الفلسطينيّ الحامل الجواز الغربيّ، إلّا أنّ الجواز يبقى قوّة؛ حيث لا يمكن الاعتقال ولا يمكن التحقيق بطريقة مهينة.

 

معبر رفح | تصوير: جيجي إبراهيم

 

عندما حطّت طائرتي في «مطار القاهرة الدوليّ»، تذكّرت العديد من صدمات المطارات العربيّة. يمكن أن يحمي الجواز السويديّ شخصًا عاديًّا، ولكنْ باحثًا ومنخرطًا في الأبحاث السياسيّة، كان له معنًى آخر من الممكن أن يكون له تأثيرات؛ إذ عانى في السنوات الأخيرة عشرات الباحثين المصريّين والغربيّين الاعتقال والتحريض والطرد، وأحيانًا القتل كما مع الباحث الإيطاليّ ريجني. كان لديّ شكوك في أنْ يكون اسمي على القائمة السوداء، لكن لا يمكن معرفة ذلك دون خوض  التجربة، وهذا ما فعلته.

ما أسوأ السيناريوهات؟ الترحيل إلى دولة أخرى. فكّرت: ماذا لو كنت مصريًّا؟ لذهبت خلف الجدران بلا أثر. لدخول غزّة بجواز أجنبيّ عبر «معبر رفح»، كان يجب أن أثبت أنّ لديّ عائلة في غزّة من الدرجة الأولى؛ فكانت صورة بطاقة والدتي وأخي معي، ممّا سهّل عليّ الدخول إلى قطاع غزّة.

 كان من المستحيل دخول غزّة عبر الأردنّ، ومن ثَمّ «جسر اللنبي»، حيث يحتاج الدخول إلى قطاع غزّة إلى تصريح خاصّ من الجيش الإسرائيليّ، الّذي يصعب الحصول عليه. فلسطينيًّا، الجنسيّة السويديّة لفلسطينيّ مولود في غزّة، تصبح غير مفيدة عندما يتعلّق الأمر بالدخول إلى فلسطين، رغم أنّها توفّر نوعًا من الحماية بشكل أو بآخر.

 

الحرّيّة المتخيّلة: ادفع أو عانِ

إذا كان دخول غزّة صعبًا فإنّ الخروج منها كابوس. الطريقان الوحيدان للخروج من غزّة هما «معبر رفح» مع الجانب المصريّ، و«حاجز إيرز» في الشمال الّذي تسيطر عليه القوّات الإسرائيليّة. يُعْتبَر الخروج من «حاجز إيرز» معضلة كبيرة، ويحتاج إلى معجزة وواسطات أحيانًا من قِبَل السلطة الفلسطينيّة؛ فإسرائيل تُواصل حصارًا مستمرًّا على قطاع غزّة، حيث إنّ الغالبيّة العظمى من الفلسطينيّين غير مؤهّلين لتقديم تصريح خروج من غزّة عبر «حاجز إيرز». على الرغم من أنّ «معبر رفح» مفتوح أغلب أيّام الأسبوع، فإنّه يعمل ساعات قليلة على الجانب المصريّ، إذ يفتح أبوابه الساعة العاشرة ويغلق الساعة الخامسة مساء، ويعمل بضعة ضبّاط على الشبابيك، ويسمح فقط لما بين ثلاثمئة - أو أربعمئة - مسافر بالخروج يوميًّا من غزّة.

وللخروج من غزّة، هناك العديد من العمليّات والركض البيروقراطيّ المُجدي وغير المُجدي؛ فعلى المسافر التسجيل في «وزارة الداخليّة» التابعة لـ «حماس» قبل شهرين أو ثلاثة على الأقلّ، مع وضع سبب السفر والتواريخ الّتي ينوي السفر فيها، ويجب على المسافر توضيح الأسباب للسفر، طالبًا، أو مسافرًا لأمر صحّيّ، أو عملًا في الخارج، وهكذا. وقبل أسبوع من موعد السفر، يتحتّم على المسافرين تأكيد موعد سفرهم المُقترح؛ إذ تُعْلَن أسماء المسافرين قبل موعد السفر بثمانٍ وأربعين ساعة أو أربعٍ وعشرين ساعة. وفي بعض الأحيان لا يتمكّن المسافرون من المغادرة، وعليهم المحاولة مرّة أخرى.

منذ إحكام الحصار على قطاع غزّة منذ عام 2006، والإغلاق الكامل بعد سيطرة «حركة حماس» على القطاع، أصبح معبر رفح المكان الوحيد للخروج من القطاع، ولكنّه تحوّل إلى تجارة مربحة في يد الجهاز الأمنيّ والعسكريّ المصريّ، وبعض رجال الأعمال. حتّى الانسحاب الإسرائيليّ من مستوطناته في غزّة، ومن «معبر رفح»، وفرض حصار وإغلاق خارجيّ، كانت الفيزا المصريّة تحت مُسمّى ’تنسيق‘ تكلّف ما بين 40 و50 دولارًا. بعد أن أُغْلِقَتْ الحدود والمعابر، وفرضت إسرائيل حصارًا خانقًا، وسيطرت «حماس» على قطاع غزّة، وأصبح النظام المصريّ إبّان حسني مبارك معاديًا لوجود كيان تقوده حركة «حماس»، الّتي صُنِّفَتْ أحد فروع «الإخوان المسلمون»، أصبح التنسيق للخروج عبر معبر رفح، بين 2007 و2014، يكلّف ما بين 1500 و3000 دولار أمريكيّ لكلّ شخص. وقد كانت السلطات المصريّة تفتح معبر رفح لمغادرة المسافرين، بين 20 و30 يومًا سنويًّا؛ ما جعل من غزّة سجنًا كبيرًا بمعنى الكلمة.

قبل أعوام، تشكّلت شركة خدمات سفر جديدة تحت مُسمّى «يا هلا» لتقديم خدمات VIP للمسافرين الفلسطينيّين. الشركة الّتي يتّهمها البعض بعلاقات مع أجهزة الأمن المصريّة، وبعض التسريبات بأنّ مَنْ يمتلكها ضبّاط أمن سابقون في الجيش والمخابرات المصريّة. تُقدّم الشركة خدمات التوصيل للمسافرين الفلسطينيّين بين «معبر رفح» والقاهرة، ولكن بتسهيلات مزعومة تتلخّص في عدم المكوث والانتظار على الحواجز الأمنيّة المصريّة. ورغم أنّ المسافة بين القاهرة وغزّة 400 كيلومتر، إلّا أنّ العمليّات العسكريّة المصريّة في شمال سيناء جعلت عبور تلك المسافة ضربًا من جهنّم لسنوات عدّة؛ إذ أُجْبِر المسافرون الفلسطينيّون على النوم أيّامًا عديدة على حواجز الجيش المصريّ في صحراء سيناء، تحت حرارة الشمس الحارقة، وبرد الصحراء القارس. في الوقت الحاليّ، معدّل الوقت بين القاهرة وغزّة هو ثماني عشرة ساعة، تشمل التفتيش على الحواجز الأمنيّة العديدة المنتشرة طوال الطريق، وتشمل النوم في الصحراء أو مدينة العريش، بلا أيّ حمّامات عامّة، أو غطاء، أو أماكن تصلح للاستخدام الآدميّ.

 

حاجز إيرز الإسرائيليّ 

 

لكنّ شركة «يا هلا»، وبالتعاون مع المخابرات والجيش والأجهزة الأمنيّة، تُمكّن المسافر الفلسطينيّ من أن يقطع تلك المسافة بين القاهرة وغزّة في ستّ ساعات فقط. تكلفة تلك الخدمة تتراوح بين 750 و950 دولارًا. لكن مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ معدّل دخل الفرد في قطاع غزّة هو 207 دولارات شهريًّا، تصبح الاستفادة من تلك الخدمة للغزّيّين ضربًا من الخيال، وأنّ تلك الخدمة أُنْشِئت لتكون أداة لمصّ دماء المسافرين الفلسطينيّين من المقيمين في الخارج، ممّن لا يستطيعون زيارة غزّة بطريقة عاديّة أو من أصحاب رؤوس الأموال.

في طريق عودتي لغزّة، كانت إجازة عيد الأضحى المبارك قد بدأت، وأُغْلِق «معبر رفح» لعشرة أيّام، ممّا أجبرني على البقاء في القاهرة أيّامًا حتّى يُعاد فتح المعبر. ومع قرب يوم إعادة «معبر رفح» إلى العمل، وصلت الأخبار بأنّ ثمّة عشرات الآلاف من المسافرين العائدين لغزّة متجمّعون حول ’المعدية‘، وهي منطقة قرب «قناة السويس» للعبور إلى شبه جزيرة سيناء؛ فكان القرار إمّا أن أنتظر يومًا أو يومين على قناة السويس، وبالتالي أن أضيّع يومين من إجازتي السنويّة في الطريق، أو أن أدفع لأشتري يومين مع عائلتي؛ فكان المبلغ 750 دولارًا مقابل العودة في نفس اليوم.

في الطريق إلى غزّة، وصلنا «معبر رفح» الساعة التاسعة صباحًا، بعد ستّ ساعات في الصحراء، وأكثر من عشرة حواجز، وتفتيش على حاجزين. جلسنا في صالة كبار الزوّار، وكنّا أكثر من ثلاثمئة شخص  في مكان يتّسع فقط خمسين، بوجود مكيّف هوائيّ مُعطَّل، وحمّامات عاديّة جدًّا، وصياح الأطفال، وفوضى الشنط، وصراخ الضبّاط والمواطنين أحيانًا. هربت إلى الصالة العاديّة فكانت جهنّم هناك؛ فالمئات من المسافرين والنساء في عدم وجود أماكن صحّيّة للجلوس، وجوّ حارّ جدًّا.

في ظلّ وقوفي في الصالة العاديّة، جاء رجل فلسطينيّ يحمل جواز السفر الروسيّ مع زوجته وابنه برفقته. بعد ثلاث ساعات من الانتظار والشعور بالإحباط الشديد، انفجر غاضبًا منبّهًا إلى أنّه دفع أكثر من ألفَي دولار لخدمة أفضل من ذلك. حسب أقوال الضابط هناك، فإنّ الجوازات الأجنبيّة يجب أن تمرّ على أقسام المخابرات الحربيّة، وأمن الدولة والمخابرات العامّة، قبل أن يسمحوا للشخص بالمرور إلى غزّة. لكنّ أحد الضبّاط انفجر فيه بصوت عالٍ قائلًا: "يا روح أمّك، ما تضحكش على نفسك. لتكون صدّقت نفسك إنّه VIP بالفلوس بتاعتك. دول الفلوس علشان مراتك ما تنامش في الليل تحت الشجر، وتروح في الليل في الصحراء علشان تعمل الحمّام. روح هناك واقعد واستنّا اسمك". بعد ثلاث ساعات من الانتظار، استلمنا الجوازات، وبدأت رحلة التنقّل من باص صغير إلى باص أكبر ثمّ إلى غزّة. كانت الرحلة ذات الساعات الستّ، والوصول إلى غزّة في تسع ساعات، هي رحلة فاخرة مقارنة بعذابات الآلاف ممّن ناموا لياليهم في القاهرة.

في استقبالنا في الجانب الفلسطينيّ عدد من رجال الأمن بأجهزتهم الخلويّة، ولكنّهم أكثر احترامًا وحرفيّة، ووصلنا معبرًا فيه مكيّف هوائيّ واسع، وكراسيّ نظيفة، وبدأت بعدها رحلة التحقيق حول خروجي من غزّة، وكيف خرجت، ومتى، ولماذا أعود، إذ لم يكن لديّ اسم في السجلّ المدنيّ الفلسطينيّ ولا سجلّ المسافرين، وهو ما كنت أخافه. بعد نصف ساعة، كنت أحضن أخي الأصغر في رفح الفلسطينيّة.

تسمح الأجهزة الأمنيّة المصريّة بالخروج من غزّة بين خمسة باصات وستّة يوميًّا، النصف يكون من ’التنسيقات‘. ’التنسيقات‘ هو مصطلح يُطْلَق على عمليّة إدراج اسم المسافر مقابل مبلغ ماليّ يُدْفَع لعميل محلّيّ يتعاون مع الجهات الأمنيّة المصريّة، ويكون المبلغ متغيّرًا حسب العرض والطلب وعدد المسافرين والضغط على المعابر؛ فكلّما زاد الضغط على معبر رفح ارتفع السعر. وسعر التنسيق يختلف حسب قوّة التنسيق والجهة المنسّقة، حيث إنّ أقوى تنسيق هو تنسيق المخابرات الحربيّة، بينما تنسيقات الأمن العامّ (أمن الدولة سابقًا) يأتي لاحقًا. مبلغ تنسيقات الشخصيّات المهمّة يبلغ 950 دولارًا، بينما الأخرى تتراوح بين 200 و450 دولارًا. هذه التنسيقات ربّما تضمن الخروج من غزّة، لكن لا تضمن المعاملة الإنسانيّة على المعبر المصريّ، حيث يعاني المسافرون ساعات طويلة في الانتظار، بدون مياه صالحة للشرب، أو حمّامات للاستخدام الآدميّ، وبدون مكيّفات.

 

حلم شباب غزّة بسماء جديدة

منذ الحصار الكامل على قطاع غزّة، وخاصّة الحصار المشدّد منذ أكثر من خمسة عشر عامًا، وُلد وترعرع جيل كامل بدون حقّ في حرّيّة الحركة والسفر، من أجل الاستمتاع في السفر دون الحاجة إلى سبب مقنع أو طارئ كالدراسة أو العلاج. مجرّد الحديث عن السفر لأجل السياحة يُعْتَبَر ’نكتة‘ أو ’فانتازيا‘ لا يمكن تحقيقها.

 منذ عام 1992، تحوّل قطاع غزّة تدريجيًّا إلى سجن كبير ذي بابين، إيرز شمالًا ورفح جنوبًا. في الحقيقة، قد يكون أغلب جيلي سجناء. كيف أنّ شابًّا يبلغ من العمر 35 عامًا لم يغادر غزّة بتاتًا أو مدينته، بل يرى العالم عبر شاشات هواتفهم الذكيّة. كما تقول الصحافيّة مرح الوادية في إحدى كتاباتها: "كنت أتساءل ما لون السماء خارج غزّة. أخيرًا: بعد 31 عامًا، استطعت أن أرى سماء جديدة بعيدًا عن النار والسلاح". حسب تقرير «قناة العربي» فإنّ ما يقارب مئتَي ألف من سكّان غزّة قد هاجروا بلا عودة منذ عام 2007، وهو ما يمثّل عشرة في المئة من سكّان قطاع غزّة.

 

مدينة غزّة | تصوير: معاذ حميد

 

سكّان قطاع غزّة، وبسبب الحصار وغياب حرّيّة الحركة منذ زمن، يطلقون على غزّة "أكبر سجن مفتوح في العالم". وبسبب الحروب الإسرائيليّة والهجمات المتكرّرة منذ 2008 (2008، 2012، 2014، 2021، 2022)، الّتي أدّت إلى آلاف الضحايا، وهدم مئات الآلاف من البيوت، نتجت تأثيرات اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة ونفسيّة عزّزت فصلهم عن العالم الخارجيّ، حتّى في وجود تواصل إلكترونيّ.

بعد دفع مبلغ ماليّ كبير، يمكن أن تعيش عليه عائلات لمدّة شهر في غزّة، لشراء حرّيّة متخيّلة  للوصول إلى «معبر رفح» في زمن معقول، لكنّ هذه الحرّيّة المشتراة هي أداة من أدوات السيطرة الجديدة، واستنزاف المال من الفلسطينيّين المشتاقين إلى عائلاتهم، وممّن يعدّون الأيّام والساعات ضمن إجازاتهم. هذه الأداة الجديدة باسم التنسيق هي تعزيز هيكليّة الريع والاستفادة الماليّة من الفلسطينيّين، لصالح بعض الشخصيّات والمؤسّسات الأمنيّة، حيث يصبح المسافر الفلسطينيّ مجرّد حفنة من الدولارات.

 

ذكريات وأماكن ممحيّة

في الطريق من «معبر رفح» إلى بيتنا في حيّ الشجاعيّة، ما لاحظته هو تغيّر في غزّة إلى حدّ كبير. الأماكن اختلفت، الأسماء اختلفت، والميادين لها أسماء جديدة وشوارع جديدة بأسماء جديدة. المباني الّتي عرفتها في طفولتي ومراهقتي اختفت، مدارسي الّتي درست فيها مُحِيَت ولم تعُد قائمة. كلّ مكان في غزّة له قصّة مع القصف والهدم والضرب والدمار. "هل تذكر هذه؟"، أصبحت الجملة الّتي يسألني إيّاها أخي وأقربائي في طرق غزّة. لكنّ الحقيقة أنّني لم أعد أعرفها، فقد تغيّرت.

كنت أرى الدمار على شاشات الحاسوب أو التلفاز، لكنّ رؤيتها على أرض الواقع في غياب ذكرياتها شيء مختلف. منذ عام 2007، شنّت إسرائيل الحرب على غزّة خمس مرّات، وفي كلّ مرّة كانت تُصعّد وتيرة الهجمات والأسلحة المستخدمة، حتّى أصبح كلّ مكان في غزّة غير آمن؛ من شوارع ومشافٍ وعيادات ومدارس ومؤسّسات. في شوارع غزّة يمكن أن نرى بيوتًا ومباني لم يُعَدْ بناؤها منذ عام 2014 وقبله. أكثر ما آلمني هو تدمير مدرستي الابتدائيّة في عام 2014، الّتي كانت مركز ذكرياتي وبداية الطفولة، بالقرب من بيتنا.

رغم ذلك، وجدت الطرق الحديثة المدعومة دوليًّا مكانها في غزّة، وظهرت طبقة متوسّطة جديدة من حكّام غزّة ودوائرهم. فوجِئْتُ بحجم المطاعم الثريّة ذات الخمسة نجوم، والأسعار المرتفعة، خاصّة تلك الّتي على شاطئ البحر؛ فبعض المطاعم والمقاهي من الممكن أن يكلّف فنجان القهوة فيها دولارًا واحدًا، وعلى بُعد خمسين مترًا يكلّف نفس الفنجان ستّة دولارات على نفس المنظر ونفس الهواء؛ وهو ما يدلّل على حجم الفجوة والطبقيّة المتفشّية في قطاع غزّة. في شوارع غزّة، كنت أحيانًا أسير وأحبس الدمعة على بعض صور الشهداء، ممّن كنت أعرفهم زملاء دراسة، أو سرنا معًا إلى المدرسة زمن المراهقة.

 

غزّة بين عالمين

كنت أحاجّ دومًا في أنّ استمرار الاستعمار الصهيونيّ يعتمد دعم الدول الغربيّة العالميّ. تاريخيًّا، ولعقود عدّة، دعمت دول العالم الجنوبيّ، وهي الدول غير الغربيّة، وخاصّة البلدان الّتي كانت تحت الاستعمار، دعمت النضال من أجل تحرير فلسطين. وعلى الرغم من أنّ العديد من الدول الأوروبّيّة ساعدت على إقامة السلطة الفلسطينيّة، إلّا أنّها استمرّت في دعم إسرائيل سياسيًّا واقتصاديًّا، حتّى أنّ نقد تلك الدول لإسرائيل في قضايا مثل المستوطنات، وقتل المدنيّين الفلسطينيّين، يتسامح مع إسرائيل، ويُوصي بعدم استخدام القوّة غير المتناسبة، كما لو أنّ أيّ نوع من القوّة ليس متناسبًا.

في الآونة الأخيرة، طبّقت إسرائيل قواعد جديدة تحدّ من قدرة الأجانب على البقاء في الضفّة الغربيّة، أو العمل في المنظّمات غير الحكوميّة الدوليّة، أو حتّى التدريس أو البحث في أيّة مؤسّسة فلسطينيّة. ليس من المستغرب أن تأمر إسرائيل الزائرين بتسجيل العلاقات الرومانسيّة مع الفلسطينيّين. لم تتفاعل الدول الأوروبّيّة مع هذا الخرق الفاضح لحقوق الإنسان، وصدر القليل من البيانات أو المقلقة دون أيّ إجراءات موثوقة أو واعدة، على الرغم من قدرتها على القيام بذلك، واشتراط التبادل العلميّ بحرّيّة الوصول إلى المؤسّسات الفلسطينيّة.

 

شاطئ مدينة غزّة

 

غزّة هي حالة فريدة من نوعها، لأنّ القرّاء يتوقّعون أنّ الدولة العربيّة المجاورة؛ مصر، ستتعامل مع غزّة بشكل مختلف. ومع ذلك، ومنذ «اتّفاقيّة الترسيم» بين مصر وإسرائيل بعد إنشاء إسرائيل، تتعامل مصر مع غزّة عبر إطار أمنيّ. فُرِضَت تلك الإجراءات الأمنيّة والعسكريّة على قطاع غزّة بشكل غير رسميّ، من قِبَل الدول الغربيّة و«الأمم المتّحدة».

إنّ الحصار والسياسات المشابهة للحصار على غزّة، موجودة على أشكال ومستويات مختلفة ومتنوّعة في دول العالم الجنوبيّ: من فلسطين إلى كوبا وفنزويلا وإيران وغيرها من الدول. على الرغم من اختلافها، إلّا أنّ إنشاء الحدود والحصار الاقتصاديّ والسياسيّ يدفع الكثيرين من جنوب الكرة الأرضيّة إلى النفي الذاتيّ أو النفي القسريّ، أو خليط منهما.

لذلك، ثمّة حاجة إلى نظريّة جديدة عن المنفى في دول العالم الجنوبيّ؛ لأنّ هذه النظريّة من الممكن أن تُظهر أنّ الدول الغربيّة يمكن أن تكون متواطئًة بطرق عدّة في فرض أشكال مختلفة من المنفى، سواء في الغرب أو دول العالم الجنوبيّ، وهو ما يساهم في تجريد الملايين من إنسانيّتهم.

 


 

عبد الهادي عجلة

 

 

 

باحث وأكاديميّ فلسطينيّ حاصل على الدكتوراه في العلوم السياسيّة من «جامعة ميلانو»، ومؤسّس مشارك في «أكاديميّة الشباب الفلسطينيّة»، وزميل في «معهد دراسات ما بعد الحروب» في البوسنة والهرسك، وباحث مشارك في «معهد أنواع الديمقراطيّة» في «جامعة جوثينبرغ».

 

 

التعليقات