19/01/2023 - 12:39

الجسد الفلسطينيّ المستعمَر

الجسد الفلسطينيّ المستعمَر

جدار الفصل العنصريّ

 

الجسد ظاهرة ثقافيّة

الجسد مادّة للرمز وموضوعًا للمتخيَّل والتمثّلات، وهو ظاهرة ثقافيّة واجتماعيّة، ناسج لخيوط الحياة اليوميّة الإدراكيّة وغير الإدراكيّة، مصنوع من جلبة السياقات الاجتماعيّة وفاعل فيها؛ إنّه الجسد وتجلّياته الجسديّة[1].

الجسد ملهمنا في هذه المقالة، بعلاقته الشائكة بمختلف السياقات الّتي تحيط به، والّتي تحاول صناعته أو إخضاعه وتصنع جسديّته، في ما يقودنا إلى ظاهرة ثقافيّة مشبعة بالدلالات الرمزيّة والتمثّلات، من خلال فاعلها ’الجسد- الإنسان‘، فردًا وجماعات.

يقول الفيلسوف نيتشه: إنّ الجسد نصّ ثقافيّ قائم في حدّ ذاته، وترى سسيولوجيا الجسد إضافة أخرى على هذه الرؤية النظريّة له، أنّ الجسد شبكة معقّدة من العلاقات والأنساق الّتي لا تكفّ عن إنتاج الخطاب التواصليّ، وذلك ضمن الظاهرة الثقافيّة، والنسق الاجتماعيّ الّذي يتحرّك من خلاله الجسد، فيتحوّل من ملكيّة خاصّة إلى ملكيّة مشتركة في المخيال الاجتماعيّ، من خلال عوامل الضبط والتغيير والتحييد الّتي تفرضها الأنساق الاجتماعيّة والثقافيّة على الممارسات الجسديّة للإنسان[2].

إنّ الجسد موضوع شائك التناول، فهو يشكّل النصّ التاريخيّ للمجتمع، ويحمل سجلًّا حافلًا من التجارب اليوميّة والحياتيّة المرتبطة بالزمان والمكان له، يتأثّر بخطاب السلطة الثقافيّة ورقابتها، وبما هو مجتمعيّ وخارج المجتمع، بالرغبات والعقاب، بالمقبول والسائد والمفروض والمستحيل، بالممكن وغير الممكن، بالقدرة على التفكير خارج إطار الممكن أو عدمها، بأن يكون الجسد الشاهد على السياق الاجتماعيّ وفاعلًا فيه.

يشكّل الجسد الفلسطينيّ حالة خاصّة، نسعى في هذه المقالة إلى محاولة قراءة تمثّلاته في سياقه الاستعماريّ، من خلال تأثير الممارسات الجيو- سياسيّة من الحواجز الإسرائيليّة، والحدود الإقليميّة المعقّدة الإجراءات، وجدار العزل، إضافة إلى انعكاسيّة هذا الواقع على السياقين الثقافيّ والاجتماعيّ.

 

الجسد المُسْتَعْمَر

للإحاطة بهذا التساؤل؛ علينا تناول أشكال التمييز والفصل العنصريّ، الّذي تمارسه مؤسّسات الاستعمار الإسرائيليّ تجاه الفلسطينيّين، ومن بينها: جدار العزل الأمنيّ الّذي يفصل الضفّة الغربيّة عن مناطق الشمال والجنوب والساحل الفلسطينيّ وغزّة، فضلًا على الحواجز العسكريّة الإسرائيليّة، الّتي تتمفصل في الطرق الرئيسيّة المؤدّية إلى المدن والبلدات الفلسطينيّة، من شمال الضفّة الغربيّة إلى جنوبها، وتقطع أوصال الجغرافيا الفلسطينيّة، وكذلك إصدار قرارات الهدم الفوريّة وتجريف الأراضي، وتحديد هيكليّة التمدّد العمرانيّ والزراعيّ بمختلف أماكن إقامة الفلسطينيّ، أو الفلسطينيّ الّذي وُطِّن داخل أراضٍ احتُلَّت في عام 1948، وإساءة معاملة الأسرى وعدم تقديم الرعاية الطبّيّة الكافية لهم، والتملّص من أيّ مسؤوليّة للدولة من خلال قانون سُنَّ عام 2005، يجرّد المشتكي الفلسطينيّ، بالأراضي المحتلّة في عام 1967، من حقّه في طلب التعويض عن أيّ ضرر ألحقته الدولة المحتلّة به، ومنعه من رفع أيّ دعاوى مدنيّة ضدّها، حتّى لو كان الموضوع متعلّقًا بهدم المنزل، أو قصفه، أو القتل العمد[3]، إضافة إلى احتجاز جثامين الشهداء ورفض إعادتهم لأسرهم وهم أموات.

 

جسر الملك حسين | تصوير: حمد غرابلي/ فرانس برس. 

 

من خلال هذه الإشارة المجتزِئة لأشكال الأبارتهايد الاستيطانيّ في البلاد الفلسطينيّة، نطرح تساؤلاتنا عن تأثير هذه الممارسات في السياقين الثقافيّ والاجتماعيّ لدى الفلسطينيّين، وعن الدلالات الرمزيّة للجسد الفلسطينيّ موضوع هذه الممارسات القهريّة.

إنّ الممارسات الاستعماريّة، والتحوّلات في المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ من منظّمة نضاليّة إلى سلطة مفاوضة على حلّ الدولتين[4]، من العوامل المباشرة الّتي عملت على فرض سلطة قاهرة ومستبدّة على الجسد الفلسطينيّ، ساهمت في تغيير النمط المعيشيّ والحياة اليوميّة عنده، وذلك من خلال سياسة ممنهجة ومستمرّة للحدّ من القدرة على النفاذ والوصول والسيطرة على الحيّز، وذلك بواسطة هندسة المكان والهيمنة على الجسد.

من أبرز هذه السياسات، كما ذكرنا، جدار العزل الّذي شكّل علاقة جديدة بين الفلسطينيّ على طرفيه، والأرض في حدّ ذاتها؛ إذ يقدّم المستعمِر نفسه بصفة الدولة، عبر هيكلة أشكال الدخول إليها مثل تصاريح العمل، وتصاريح الزيارة السياحيّة أو الطبّيّة، والتصاريح الدبلوماسيّة، والتجاريّة؛ إذ إنّ الهدف الأساسيّ لإقامة جدار العزل يتولّد من رسم ملامح الدولة خارج التجمّعات السكّانيّة الفلسطينيّة المدينيّة، والقدرة على الفصل بين الإسرائيليّين والفلسطينيّين؛ وبهذا تصبح ملامح الدولة أكثر اتّضاحًا، مقابل فرصة قيام دولة فلسطينيّة ضمن حدود 1967[5].

ينتهج المستعمِر سياسة الحواجز العسكريّة في الضفّة الغربيّة، فهي محكومة بهندسة عسكريّة تفصل جنوبها عن شمالها وعن وسطها[6]، مثل ’حاجز الكونتينر‘ في مدخل بيت لحم والخليل، و’حاجز زعترة‘ الفاصل بين الشمال والوسط على مفترق نابلس وأريحا ورام الله.

إنّ هذا الواقع الهندسيّ الجديد والمتّفق عليه في عام 1993 بعنوان ’المنافذ‘، دفع إلى ظهور الدولة الفلسطينيّة بمنطق ترقيعيّ يمكّن نظام الحكم الذاتيّ من إدارة شؤون المجتمع الفلسطينيّ إداريًّا ومدنيًّا داخل هذه الأطواق، وتحتفظ ’إسرائيل‘ بشؤون إدارة ضبط حركة الجسد الفلسطينيّ خارج هذه الأطواق (المدن والقرى والبلدات)، عبر حواجزها العسكريّة[7].

لزيادة الطين بلّة، نهج المستعمِر هندسة على حركة المعابر والحدود مثل جسر ’ألنبي‘، الّذي يتشكّل من ثلاث محطّات رئيسيّة، أوّلها فلسطينيّ وآخرها أردنيّ ووسطها إسرائيليّ، وعلى الجسد الفلسطينيّ العابر المرور بها جميعًا، إلّا أنّ هدف السياسة الإسرائيليّة منه هو إرغام ممثّل السلطة الفلسطينيّة وليس الجسد العابر فقط، عبر إعلان وجود سلطة واحدة فاعلة بوضوح، وهي سلطة الإسرائيليّ[8].

 

جسد بين دولتين

لتعقيد الواقع المعيش أكثر، يمارس الإسرائيليّ هندسة عمرانيّة متشابكة ومتداخلة بين ‘دولة‘ الاستعمار و‘دولة‘ الحكم الذاتيّ، تضع الجسد الفلسطينيّ في دوّامة الانحلال منه أو الانقياد له، بين أزمة الحياة في كنف ‘دولة‘ الحكم الذاتيّ بامتداداتها المدينيّة والمؤسّساتيّة الّتي ينتهي ’استقلالها‘ على صعيد المشهد العمرانيّ - على الأقلّ - فور الخروج منها نحو الطرق الرئيسيّة، الّتي تبدأ بمعسكر للاستعمار أو حاجز عسكريّ متمترس.

بهذا، فإنّ الجسد الفلسطينيّ يتعرّض لازدواجيّة - غير متكافئة طبعًا - بأنظمة الهيمنة والسيطرة، لجعله موضوعًا للرمز ومادّة للإخضاع، فمثلًا، إنّ فعل الحركة مرهون بالهندسة الاستعماريّة؛ وهو ما يعني أنّ الجسد الفلسطينيّ لا يواجه مستعمره من خلال اقتحاماته فحسب، بل إنّه يواجهه خلال حركته اليوميّة عند التنقّل من مكان إلى آخر.

إنّ اقتحامات المستعمِر تقع في حيّز الحكم الذاتيّ للفلسطينيّ، وبالإشارة إليه وعلى الرغم من اختلاف ظروف نشأته، إلّا أنّه يعاني ما تعانيه الدول العربيّة الأخرى من انسداد في الأفق السياسيّ والاقتصاديّ، ومن أزمة المأسسة المكبّلة بالنظريّات الأمنيّة والعسكريّة لأسباب عدّة تطول، من بينها عقد الهيمنة عند النخب السياسيّة العربيّة وعقد السيطرة، واحتكار هذه النخب لرأس المال العامّ، وللسلطة وتوريثها للآخرين[9].

 

جدار الفصل العنصريّ 

 

من الأزمات الأخرى الّتي تشكّل استلابًا آخر للجسد، موضوع التمثيل والتهميش له، فإذا كان نظام الحكم يقتصر على النخبة المحتكرة، فإنّ الدولة بمجالها السياسيّ لن تنفصل عن الحيّز الاجتماعيّ لهذه النخب، في ما يطرح لنا بهذا السياق كتاب «الدولة والمجتمع» أزمة الدولة العربيّة، الّتي تنطلق من عسر قيام مجال سياسيّ موضوعيّ يدفع باستقلال حيّز الدولة عن الحيّز الاجتماعيّ، وحيّز منفصل عن تناقضات البنية الاجتماعيّة، لتصبح الدولة ذات شخصيّة تمثيليّة بشكل فعليّ[10]؛ ممّا يجعل من الاستلاب تحصيلًا طبيعيًّا لهذه الممارسة، وتكون عمليّة قولبة الأجساد لرموز ودلالات هذا المجال الرمزيّ والنخبويّ أساسيّة لاستمرار نخبويّة الدولة في حدّ ذاتها.

الجسد مادّة للرمز وموضوعًا للمتخيَّل والتمثّلات، تستوقفنا هذه الفكرة مرّة أخرى؛ لما يواجهه الجسد الفلسطينيّ من ممارسات اضطهاديّة داخليّة وأخرى استعماريّة، ولا يمكن للإنسان تحمّل كلّ هذه الممارسات والاستلابات من خلال الكبت وتبخيس الذات، بل يجب إيجاد قناة تصريف لهذا الكمّ من السوء مثل العدوانيّة أو الإسقاط، ما يضعنا أمام مناخ عامّ من العنف ينطوي على العلاقات الاجتماعيّة، وهذا الفعل بذاته ينجي الشعوب المستعمَرة والمضطهَدة من تفسيرات المستعمِر- المضطهِد العرقيّة، والمجحفة، وغير الحقيقيّة لتاريخ العنف والعدوانيّة في هذه المجتمعات، الّتي عانت طويلًا القهر والبطش، ولا يُلام المقهور على عنفه، ويطلب منه أن يكون مهذّبًا في ظلّ هذا السياق العنيف أساسًا[11].

 

تأرجح الهويّة الاجتماعيّة

بهذا الصدد، يطرح الكاتب محمّد أفاية في كتابه «في النقد الفلسفيّ المعاصر» (2014) موضوع النزعة النقديّة في الفكر العربيّ، وحال الهويّة الاجتماعيّة في لحظات الاهتزاز أو الشعور بالتهديد أو الغزو؛ إذ يُدْخِل تحوّلات عليها تنطلق من الذات المعذّبة والمجروحة، واختزالات تفرض ضياع بعض تفاصيلها ومكوّناتها؛ فيدفع بنهوض الميتافيزيقا والخطابات الأيديولوجيّة والدراميّة الّتي تسوّغ المعاني، وتعطي هذه الاختلالات فرصة مثاليّة للسلطات الحاكمة بتبنّي خطاب تراجيديّ يصهر بسياقه السياسيّ مختلف الهويّات في البنية الاجتماعيّة المتعدّدة[12].

إنّ عامل الاستعمار والحداثة بشكل أساسيّ، دفع بظهور سلطة مطلقة، تُعْزى إلى النخب السياسيّة الحاكمة في ظلّ الأزمة الّتي تعانيها الهويّة الاجتماعيّة، والّتي أصبحت في حال دفاع عن بنيتها عبر الانحصار في الماضي والتراث والآخر الأجنبيّ واللغة والدين، وحوّل الوجود العربيّ إلى وجود أيديولوجيّ متضخّم[13].

 

حاجز الكونتينر | تصوير: الجزيرة نت.

 

الجسد الفلسطينيّ أمام تحدٍّ وجوديّ مستمرّ ويوميّ، وهذا ما يبقينا دائمًا في حالة تأهّب للبحث عن البدائل الّتي تخرجنا من متاهة العزل والضبط، ومحاولاتنا المستمرّة بالهروب من قيود المستعمِر، سواء بالقفز عن الجدار، أو حفر نفق داخل السجن، أو اتّخاذ طرق التفافيّة.

تمرّ الهويّة الاجتماعيّة للفلسطينيّ بأرجحة، بين الماضي المتخيَّل الّذي يهرب إليه لمواجهة الآخر المستعمِر بحداثيّته، وبين الحاضر المستلَب الّذي يتطلّب إجابات حول كيفيّة مواجهة النخب المضطهدة، والتخلّص من العنف الإسقاطيّ نحو القاهر وحده، وإخراج الفئات السلطويّة من هالة المطلق، وإحاطة الميتافيزيقا بالعقلانيّة والنقديّة، ذلك للخروج من ظنون التكلّم بالبديهات، وهي في الحقيقة غرق في المبهمات، حتّى يخلق الجسد الفلسطينيّ هامشًا من الحرّيّة له وللفكر، كي يتمكّن من التخلّص ولو للحظات من أعباء الأتمتة والهندسة الداخليّة والخارجيّة، وأن يتوقّف بصفته موضوعًا للرمز، ويصبح فاعلًا به وفي الزمن، لإعادة التفكير في مضامين سياقه الثقافيّ والاجتماعيّ، للنهوض بالهويّة الاجتماعيّة بعيدًا عن هواجس الحداثة والآخر وتراجيديا الماضي.

 


إحالات

[1] ديفد لوبروتون، سوسيولوجيا الجسد، عياد بلال، ط1 (القاهرة: دار النشر للتوزيع، 2014) ص 17.

[2] محمّد الحامدي، "مقدّمة في سسيولوجيا الجسد: تقاطع الثقافات وتنازع الهويّات"، مركز دراسات الوحدة العربيّة، عدد 40 (2017)، ص 4.

[3] عبد الغني سلامة، "مظاهر الأبارتهايد في السياسات الإسرائيليّة"، منظّمة التحرير مركز الأبحاث، عدد 266 (2016) ص 17.

[4] معين الطاهر، "مواجهة الدولة اليهوديّة ذات النظامين وتفكيك نظام الأبارتهايد الصهيونيّ"، مجلّة الدراسات الفلسطينيّة، عدد 115 (2018)، ص 7.

[5] غانية ملحيس، "جدار الفصل العنصريّ الإسرائيليّ"، مجلّة الدراسات الفلسطينيّة، عدد 55 (2003)، ص 3.

[6] المرجع السابق، ص 9.

[7] إيال وايزمان، أرض جوفاء الهندسة المعماريّة للاحتلال الإسرائيليّ، باسل وطفة، ط1 (بيروت: الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، 2017) ص 216.

[8] المرجع السابق، ص 219.

[9] عيساوة آمنة، "جينالوجيا الدولة في الشرق الأوسط: بنية السلطة والمجتمع"، مجلّة الواحات للبحوث والدراسات، عدد 2 (2015) ص 8.

[10] عبد الإله بلقزيز، "الدولة والمجتمع: جدليّات التوحيد والانقسام في الاجتماع العربيّ المعاصر"، الجمعية العربيّة لعلم الاجتماع، عدد11 (2010) ص 6.

[11] مصطفى حجازي، التخلّف الاجتماعيّ مدخل إلى سيكولوجيّة الإنسان المقهور، ط 9 (المغرب: المركز الثقافيّ العربيّ، 2005) ص 53.

[12] محمّد نور الدين أفاية، في النقد الفلسفيّ المعاصر مصادره الغربيّة وتجلّياته العربيّة، ط1 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2014) ص 150.

[13] المرجع السابق، ص 155.

 


 

إيهاب بزاري

 

 

 

خرّيج علم نفس وعلم اجتماع في «جامعة بيرزيت». يعمل في مؤسّسة «تامر للتعليم المحتمعيّ» منسّقًا للشباب والحملات، يهتمّ بحقل العلوم الاجتماعيّة.

 

 

التعليقات