10/04/2023 - 14:49

باسم يوسف… رئيس غير ثوريّ لعصابة الثورة

باسم يوسف… رئيس غير ثوريّ لعصابة الثورة

الإعلاميّ المصريّ باسم يوسف

 

إحدى الحالات المثيرة للاهتمام في تاريخ صعود وسائل التواصل الاجتماعيّ هي قصّة ’راسل براند‘، وهو ممثّل بريطانيّ أدّى دور شخصيّات رئيسيّة في عدد من الأفلام الكوميديّة في هوليوود، قبل أن ينتقل إلى الظهور عبر الإنترنت للحديث عن الشؤون السياسيّة والاقتصاديّة، على إثر صعود حراك «احتلّوا وول ستريت».

بالمفارقة، تزامنت تحوّلات ’راسل براند‘ مع التحوّلات الّتي مرّ بها الإعلاميّ المصريّ باسم يوسف، الّذي انتقل بعد النجاح الهائل إلى قناته السياسيّة الساخرة «برنامج البرنامج»، من العمل المستقلّ عبر الإنترنت إلى إعلام القطاع الخاصّ الشبه الرسميّ القريب من السلطة، وهو ما أدّى في النهاية إلى أفول إمبراطوريّته الإعلاميّة. قد يقول البعض إنّ السياسة قد نُزِعت قسرًا عن باسم يوسف، وهو جزئيًّا صحيح، إلّا أنّ الّذي يرى الفرق الآن في عام 2023 بين براند ويوسف، سيذهب إلى استنتاجات مختلفة.

 

عندما يستثقل الرجل الأبيض عبء الرجل الأبيض

في هذه الأيّام، بات راسل براند معاديًا للمؤسّسة الرسميّة الأمريكيّة بشكل صريح، وبات معاديًا لليبراليّة المزيّفة والسياسات الاقتصاديّة النيوليبراليّة، ومناهضًا لاستمراريّة الحرب في أوكرانيا وتأجيجها، بشكل أحرج يسار «الحزب الديمقراطيّ» في الولايات المتّحدة، الّذي دائمًا يدّعي أنّ أعداءه دائمًا هم من معاتيه اليمين المحافظين المناقضين في مهجتهم وهيئتهم لبراند، الّذي يبدو هيبّيًّا تحرّريًّا من حقبة الستّينات.

أمّا باسم يوسف فعندما لقّبه مقدّم البودكاست اللبنانيّ معين جبر، في مقابلة معه، بأنّه ’رئيس عصابة الثورة الأصيل‘، نفى يوسف مثل هذا اللقب قائلًا: "أنا أحبّ أسجّل اعتراضي على هذا الكلام... أنا كنت بقول طول عمري يا جدعان أنا واحد مش ثوري، أنا واحد بعمل كوميدي، إنتوا إللي بتحطّوا البرنامج ده في صورة خياليّة إنّي أنا واحد ثورجي".

 

 

قبل عام تقريبًا، وصل هذا الجدال إلى مرحلة غير لائقة، عندما ظهر باسم يوسف على الإنترنت ليردّ على منتقديه الّذين قالوا له "إنت مشيت وسبتنا"؛ إذ ذهب إلى وصف منتقديه بالصورة النمطيّة الاستشراقيّة الجاهزة، على نحو دلّل أنّه لا يزال يحيا حقبة الاستقطاب الاجتماعيّ والثقافيّ، بين العلمانيّين والإسلاميّين، المنتهية قبل عقد، حين وصف منتقديه بأنّهم هؤلاء الّذين يمنعون الآخرين من الفرح بالحياة؛ لأنّ "غزّة بتتضرب، وحلب تحترق، والعراق يتمزّق، والسودان يتمطح". قبل أن ينتقل إلى سلسلة من الردود القائمة على الأفكار الليبراليّة الجاهزة المستهلكة والتعميميّة، مدّعيًا أنّ هؤلاء المنتقدين هم ذاتهم الّذين لا يتضامنون مع البلدان غير الإسلاميّة، إذا وقعت فيها كارثة، وهم ذاتهم الّذين إذا تعرّضت فتاة للتحرّش يلقون اللوم عليها.

من ثَمّ ذهب ليشرح ظاهرة الخروج الفرديّ من المجتمعات المشرقيّة، وانتقاد هذا الخروج بوصفه هروبًا. وقد سخر من المنتقدين ووصفهم بأنّهم في الحقيقة يقولون: "إنت ليه مش معانا في الكاكا؟"، قائلًا إنّهم يشبهون ظاهرة السلطعونات في الدلو، ما إن يخرج سلطعون ليحرّر نفسه حتّى يسحبه باقي السلطعونات لإعادته إلى داخل الدلو.

 

أسطورة الجدار العازل بين الرسميّ والبديل

إذا كان ثمّة فرق جذريّ كبير بين الحيّز الإعلاميّ البديل العربيّ، والحيّز الإعلاميّ البديل الأمريكيّ المعارض، فهو بالكمّ الهائل لقنوات البودكاست واليوتيوب اليساريّة العمّاليّة والمعادية للمؤسّسة في الحيّز الأمريكيّ. أمّا الحيّز البديل العربيّ فهو مهما تظاهر بأنّه ثوريّ وجذريّ ومعادٍ للأبويّة، فهو لا يزال عالقًا في مرحلة رجعيّة؛ بمعنى أنّه لم يصل إلى مرحلة ما بعد الليبراليّة، وهي مرحلة القناعة بأنّ الليبراليّة الاجتماعيّة والنيوليبراليّة الاقتصاديّة باتت عاجزة عن حلّ أزماتنا المستفحلة ذات الأسباب الجذريّة التاريخيّة والمعقّدة.

إذا كانت انتفاضات عام 2011 قد اندلعت بسبب فقدان الثقة بالمؤسّسة الرسميّة، فإنّ الحنق الشعبويّ على باسم يوسف يجب فهمه من منطلق فقدان الثقة بالمؤسّسة البديلة. هنا؛ يصبح الوعي الطبقيّ ضروريًّا لتفكيك أسطورة المؤسّسة البديلة؛ فالموظّفون في المؤسّسات البديلة، تمامًا مثل الموظّفين والمسؤولين في المستوى الرسميّ، المتحدّثين باللغات الأجنبيّة، ويتعاملون مع مؤسّسات المجتمع الدوليّ، كلّهم ينتمون إلى ما يُسَمّى في علم الاجتماع ’الطبقة المهنيّة الإداريّة‘، وهي الطبقة العابرة للمجالات الحكوميّة وغير الحكوميّة والخاصّة، ولا تنتمي حصرًا إلى أيٍّ من الطبقتين العمّاليّة والبرجوازيّة، الّتي تتعامل بالأساس مع المموّل الأوروبّيّ والأمريكيّ، والشركات التكنولوجيّة الغربيّة، بحيث تصبح هذه الطبقة الجديدة كوزموبوليتيّة الطبع بالأساس.

’الطبقة المهنيّة الإداريّة‘، هي الطبقة العابرة للمجالات الحكوميّة وغير الحكوميّة والخاصّة، ولا تنتمي حصرًا إلى أيٍّ من الطبقتين العمّاليّة والبرجوازيّة...

ليس هدفي هنا الطهرانيّة الّتي تؤدّي إلى إدانة هذه الطبقة بشكل مطلق؛ فأنا من هذه الطبقة؛ لذا أعرفها جيّدًا، وهي أقرب إلى واقع مفروض علينا لا يمكن تجنّبه، خاصّة بالنسبة إلى خياراتنا بصفتنا خرّيجي العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة والصحافة والقانون في سوق العمل المعولم، ولا أدين الخروج الفرديّ من المجتمع والهجرة، ولا أرى في مثل هذا القرار أيّة قيمة سلبيّة أو إيجابيّة، بل هي واقع قسريّ أيضًا. إلّا أنّ الإشكال هنا يكمن في التظاهر بأنّ المؤسّسة البديلة هي مؤسّسة طهرانيّة، ما زالت قادرة على إحداث التغيير الاجتماعيّ؛ لأنّها مختلفة جذريًّا عن المؤسّسة الرسميّة. هنا؛ يصبح الوعي الطبقيّ مهمًّا لتبديد مثل هذه الأساطير، فليس كلّ موظّف منظّمة غير حكوميّة يقبض بالدولار يُعْتبَر تقدّميًّا نبيلًا، وليس كلّ موظّف حكوميّ يقبض بالليرة اللبنانيّة يُعْتبَر طائفيًّا ورجعيًّا. 

بناء على هذا الوعي؛ يصبح كلٌّ من جبران باسيل الّذي حضر «مؤتمر دافوس»، والمذيعة الأمريكيّة هادلي غامبل، الّتي باتت ’أيقونة الثورة‘ بعدما حاكمت باسيل خلال ذاك المؤتمر، يصبح كلٌّ منهما جزءًا من طبقة دافوس. وبناء على هذا الوعي؛ يصبح باسم يوسف الّذي يصف الخارجين عن طبقته بـ ’السلطعونات في الدلو‘، ووزير العدل السابق في مصر محفوظ صابر، الّذي اعترض على أن يكون ابن عامل النظافة قاضيًا، يصبح كلٌّ منهما منتميًا إلى ذات الطبقة.

 

بين الرياديّ والطليعيّ 

بناء على هذا الوعي، تنكشف مجموعة الأفكار والآراء الجاهزة داخل هذه الطبقة، الّتي تعمل على تضليل ذات الوعي الطبقيّ: الثقافة المحلّيّة الأبويّة هي العامل الأساسيّ وراء تأخّر المجتمعات العربيّة، ومسألة الهوّة الطبقيّة الاقتصاديّة السحيقة في المجتمعين العربيّ والمصريّ، هي مسألة ثانويّة أمام مسألة الثقافة. تكمن مشكلة السلطة الرسميّة المحلّيّة في أبوّيّتها، وحلّ هذه المشكلة إصلاحيّ، يتمثّل في أن تقوم السلطة الرسميّة على تقليد السلطة البديلة ’المتحرّرة‘ ومحاكاتها، بحيث يتعيّن على كلّ مجتمع عربيّ أن يحلّ مشاكله بذاته وفق الأطر الوطنيّة، أمّا الفكر الوحدويّ العربيّ، والتعاون والتكامل العربيّ، فهو فكر ساذج لا يقلّ خطورة عن الفكر الإسلاميّ والأفكار الفاشيّة. كما أنّ لا داعي إلى الخروج من الإطار الليبراليّ الاجتماعيّ والنيوليبراليّ الاقتصاديّ؛ من أجل حلّ مشاكلنا، وأيّ شخص ينتقد البقاء في مثل هذا الإطار هو شعبويّ ورجعيّ، فشل بأن يكون رياديًّا معاصرًا، وألقى اللوم على ’الناجحين‘. هنا، يصبح الخروج الفرديّ من المجتمع ليس هروبًا وعمليّة انتقال طبقيّ، بل هو حلّ جذريّ يقوم على حقّ الفرد في تقرير مصيره. 

 

 

هذا الحيّز الاحترافيّ الإداريّ هو البيئة الّتي ينتقل ويعمل فيها الرياديّ، وليس المجتمع المدنيّ. ولأنّنا نخلط بين طبقة المهنيّين الإداريّين والمجتمع المدنيّ الأهليّ، فمن السهل الخلط بين الرياديّ والطليعيّ. أمّا الطليعيّ فهو فئة تبلور مفهومها في بدايات القرن السابق، ولم يعُد ظهورها في الحقبة الراهنة سهلًا أو شائعًا من منظور الواقعيّة السياسيّة، وذلك بسبب التذرير الّذي أحدثه النظام الاقتصاديّ والاجتماعيّ النيوليبراليّ، الّذي أنهى حقبة التسييس الجماهيريّ. الطليعيّ، إذن، هو فئة نادرة مجهولة لا تبتغي الشهرة، ولا ينتمي أيٌّ منّا إليها، هو التطوّعيّ الّذي يعمل خارج حيّز المؤسّستين الرسميّة والبديلة، ليقترب من مشاكل أغلبيّة الناس في الواقع، وهو بذلك الأقدر على قيادتهم وتنظيمهم في الميدان. أمّا باسم يوسف فهو ليس طليعيًّا، إلّا بكونه ناشطًا نباتيًّا، فهنيئًا لمحبّيه من النباتيّين والنباتيّات.

 


 

فخري الصرداوي

 

 

 

كاتب وقاصّ من رام الله. يعمل في مجال القانون الدوليّ والعلوم السياسيّة، حاصل على الماجستير في العمل الدوليّ الإنسانيّ من «جامعة ديوستو» في إقليم الباسك. يهتمّ بالكتابة الساخرة من المجتمع التقليديّ، ومن ثقافة الصوابيّة السياسيّة على حدّ سواء.

 

 

التعليقات