27/04/2023 - 12:05

أطفال جائعون... الطعام والأمان في أدب الأطفال (3/2)

أطفال جائعون... الطعام والأمان في أدب الأطفال (3/2)

علاء سلامة - فُسْحَة | ذكاء اصطناعيّ.

 

لطالما شكّل أدب الأطفال المصوَّر أداة تربويّة لتعليم المهارات والقيم للقرّاء الصغار بطريقة جذّابة. من كلاسيكيّات موريس سنداك وحتّى أحدث كتابات رانيا زغير وتغريد النجّار، شكّلت قصّة الأطفال أداة تربويّة غير مباشرة لنقل الحكمة والفكر النقديّ الأخلاقيّ. وفي أدب الأطفال الحديث، نجد ثيمة متكرّرة تتمثّل في توظيف أدب الأطفال للطعام وتناوله، في رمزيّة للعلاقة الصحّيّة بين الأطفال والأهالي والمجتمع، خاصّة لمنحهم الأمان الأسريّ والمجتمعيّ بأنّ الجوع لن يكون أبدًا مهدّدًا لحياتهم. مقارنة بالأدب الشعبيّ، الّذي يتعامل مع الأكل من خلال سياقات الجوع والمجاعة، يسعى أدب الأطفال المصوَّر إلى عرض الأكل من خلال صياغة عكسيّة، تتمثّل في التعلّق الآمن بالعائلة والمجتمع. ومن خلال تصوير علاقات الشخصيّات بالطعام وتوفّره لهم، يتمكّن المؤلّفون من استكشاف الديناميكيّات الأسريّة والمجتمعيّة المعقّدة، وتقديم رؤًى قيّمة حول الطرق الّتي يمكن من خلالها تعزيز العلاقات الصحّيّة، والثقة بحضورها.

تسعى هذه المادّة إلى استكشاف طرق توظيف الطعام والأكل، بوصفها مجازًا للعلاقات الصحّيّة، في أدب الأطفال الحديث. وذلك بالاعتماد على أمثلة من أدب الأطفال الحديث لتقصّي التمثيلات الأدبيّة الّتي استخدمها المؤلّفون الطعام لاستكشاف عدّة موضوعات، منها الثقة والتواصل العاطفيّ. وسننظر في كيفيّة التعبير عن هذه الموضوعات من خلال مواقف الشخصيّات تجاه الطعام، والطرق الّتي يتفاعلون بها مع الشخصيّات الراعية لهم حول تقديم الوجبات وتوفيرها، وطبعًا من خلال رمزيّة أنواع معيّنة من الطعام.

 

الكائنات البرّيّة والدودة الجائعة جدًّا

أحد أبرز تمثيلات أهمّيّة الطعام في سياق العلاقة بالعائلة في أدب الأطفال الحديث، يظهر في كتاب موريس سنداك «إلى أرض الكائنات البرّيّة» (1963)، الّذي يبدو كأنّه لا يضع الطعام في مركزه، لكنّ مشهدًا واحدًا يكفي لجعل الكتاب مركزيًّا في هذا السياق. المشهد الأخير في «إلى أرض الكائنات البرّيّة» يعرض الطفل ماكس الّذي يعود إلى المنزل من رحلته ليجد عشاءه لا يزال ساخنًا: "حتّى وصل إلى الليل في غرفته، حيث وجد طعام العشاء بانتظاره. وكان لا يزال ساخنًا". تحمل هذه التفاصيل الّتي تبدو بسيطة وزنًا رمزيًّا كبيرًا؛ لأنّها تمثّل إعادة اتّصال ماكس باستقرار حياته المنزليّة وأمنها. في جميع أنحاء الكتاب، كان الطعام بمنزلة استعارة لهذا الاستقرار والأمن، وكذلك للحبّ الّذي يتلقّاه ماكس من والدته. فحقيقة أنّ عشاءه لم يبرد تشير إلى أنّه، على الرغم من مشاكسته وإرهاقه لوالدته الّتي أرسلته "إلى سريره بدون عشاء" في بداية الكتاب، سيعود دائمًا بعد كلّ مغامرة في أرض الكائنات البرّيّة ليجد الطعام بانتظاره؛ أي ليجد أمان العائلة والبيت، بانتظاره.

سعى أدب الأطفال المصوَّر إلى عرض الأكل من خلال صياغة عكسيّة، تتمثّل في التعلّق الآمن بالعائلة والمجتمع من خلال تصوير علاقات الشخصيّات بالطعام وتوفّره لهم...

بشكل عامّ، يعزّز المشهد الأخير في «إلى أرض الكائنات البرّيّة» الفكرة القائلة بأنّه في حين أنّ المغامرة والاستكشاف مهمّان للنموّ الشخصيّ واكتشاف الذات، يجب دائمًا موازنتهما مع الاستقرار المريح والآمن في المنزل، والحبّ والأمان اللذين يوفّرهما. يؤكّد الكتاب، من خلال استخدامه للطعام بوصفه استعارة، على أهمّيّة هذه الاحتياجات الإنسانيّة الأساسيّة في تنمية فرد يتمتّع بصحّة نفسيّة كبيرة، متأكّدًا أنّه عند عودته إلى البيت سيجد دئمًا صحن طعام ساخن ينتظره.

لكنّ الطعام لا يقتصر على مفهوم الأمان والثقة بالعائلة، بل أيضًا على الثقة بقدرة الذات على التطوّر. كتاب «الدودة الشديدة الجوع» (1969) للكاتب والرسّام إريك كارل، يعبّر عن هذه الفكرة بوضوح؛ فالشخصيّة الرئيسيّة في الكتاب - أي الدودة - تنطلق في رحلة لاكتشاف ذاتها، ويكون هذا من خلال تذوّق أنواع أطعمة مختلفة ومتعدّدة. كلّما أكلت الدودة أكثر فأكثر، نمَت لتصبح أكبر وقادرة على الأكل أكثر. حتّى تتحوّل في النهاية إلى شرنقة، ثمّ إلى فراشة جميلة. يُعَدّ الطعام المذكور في الكتاب استعارة للنموّ والتحوّل الشخصيّ؛ فمن خلال رحلتها بين الأطعمة المختلفة، تتعلّم اليرقة عن نفسها، وتكتشف إمكاناتها الحقيقيّة، أوّلًا في أكل تفّاحة واحدة، ثمّ إجاصتين، ثمّ ثلاث برقوقات، وما إلى ذلك. ويمكن التفكير بتحوّل الدودة في الكتاب إلى فراشة جميلة في النهاية، بوصفه رمزًا مباشرًا للقوّة التحويليّة للنموّ الشخصيّ.

 

خُبزًا من السماء

بين الأكل العائليّ الدافئ والأكل التنمويّ الفردانيّ، نجد تنوّعًا كبيرًا جدًّا من التطرّقات إلى الطعام الّتي تعرض مجازيّات مختلفة، يتمحور معظمها حول النموّ النفسيّ الصحّيّ. لكن، لعرض النموّ النفسيّ الصحّيّ، ثمّة حاجة أحيانًا لتضخيمه وعرض تضادّه. يظهر هذا التضادّ عادة في أدب الأطفال المصوَّر، من خلال وفرة طعام كبيرة جدًّا تؤدّي إلى تهديد الفرد، والعائلة والبيت. مثلًا، في كتاب «غائم مع احتمال مطر من كرات الكفتة» (1978)، نتعرّف إلى قرية تُدْعى «Chewandswallow»، فيها تُمطر السماء وجبات سريعة وحاضرة للأكل. يستعدّ أهل القرية للحصول على الطعام من السماء كلّ يوم، ولا يقلقهم غير أن يأخذوا معهم صحونًا إلى كلّ مكان ليتلقّوا عليها الطعام من السماء. في أحد الأيّام تبدأ السماء بزيادة حجم الوجبات، حتّى تبدأ هذه بتهديد السكّان، فيختارون ترك القرية والهجرة إلى قرية أكثر أمنًا. في القرية الجديدة يخترعون فكرة ’السوبرماركت‘؛ لتصبح المكان الّذي يحصلون منه على الطعام بدل انتظاره من السماء. 

تعالج هذه القصّة قضايا عدّة، مثل التغييرات المناخيّة والهجرة والرأسماليّة الأمريكيّة وغيرها، لكنّه بالأساس كتاب عن الأكل، وعن الكثير من الأكل. في بداية القصّة توفّر السماء الخير والطعام للناس، لكنّ هذه الوفرة الكريمة سرعان ما تتحوّل إلى مصيدة ونقمة، دون تقديم سبب مقنع أو مبرّر في القصّة، كتحذير من الاعتماد المفرط على الحظّ في التعامل مع الطقس أو مع السوق.

الخروج من مصر يُشَبَّه بالولادة، والرحلة في الصحراء بالمرحلة الّتي يعتمد فيها الطفل على والديه، ودخول أرض الميعاد إلى مرحلة الاستقلال...

تذكّرنا هذه القصّة بالرواية الدينيّة لسقوط المَنّ على بني إسرائيل كما جاء في التوراة والقرآن، حيث فسّر علماء الدين المقولة: "هَا أَنَا أُمْطِرُ لَكُمْ خُبْزًا مِنَ السَّمَاءِ"، بطريقة حرفيّة. إذ يُعْتبَر المَنّ جزءًا من المعجزات الّتي شهدها بنو إسرائيل أثناء رحلتهم في الصحراء، وهو يرمز إلى الاعتماد والتوكّل التامّ على الله؛ إذ تحكي القصّة أنّ الله أنزل المَنّ من السماء لينقذ شعبه المختار من الجوع في الصحراء. إحدى القراءات التأويليّة للنصّ، تقارن رحلة بني إسرائيل في الصحراء بسيرورة تربية الأطفال: حيث إنّ الخروج من مصر يُشَبَّه بالولادة، والرحلة في الصحراء بالمرحلة الّتي يعتمد فيها الطفل على والديه، ودخول أرض الميعاد إلى مرحلة الاستقلال. في حين أنّ إمطار الخبز من السماء، هو استعارة لاعتناء الله بشعبه كما يعتني الأهل بأطفالهم.

 

تنوّع الطعام رمزًا للتنوّع الثقافيّ 

قصّة شبيهة تذكرها لنا رانيا زغير في كتابها «لماذا أمطرت السماء كوسا وورق عنب؟» (2008)، فيها تعرض حدثًا عجائبيًّا تمطر فيه السماء صحن كوسا وورق عنب في «شارع الحمراء»، وأناناس في الأشرفيّة، وبصلًا في بينو، وتفّاحًا في ترشيش، وغير ذلك. هكذا تعرض لنا زغير مأكولات وخضراوات مختلفة، إلى جانب عرض معالم وقرًى مركزيّة في لبنان. في نهاية القصّة، يجتمع الأصدقاء، ويجمعون الخضراوات والفواكه من شوارع لبنان، ويصنعون منها طنجرة حساء غنيّة بتعدّد غذائيّ كبير وغنيّ. في هذا السياق، مركزيّة خلط المكان بالمحصول تخلق رمزيّة للتعدّديّة الثقافيّة الّتي تبني المجتمع اللبنانيّ على مختلف طوائفه. خلطها جميعًا في طنجرة واحدة، يرمز إلى رؤيا سياسيّة تعدّديّة تعرض هدفًا أسمى في القصّة من أجل الحصول على خير المطر في نهاية الكتاب. ذات الحلّ نجده في قصّة «ملك الفواكه» (1995) لمحمّد علي طه، الّتي فيها تتعارك الفواكه على أفضليّة إحداها على الأخرى لتحديد ملك الفواكه، حتّى يقترح الكرفوت تحويل الصراع إلى سلطة فواكه: "إذا تبرّعت كلّ فاكهة من جسمها بقطعة رائعة، ملأنا القدر الكبير بالثمر والعصير".

تُسلّط قصص زغير وطه الضوء على التعدّديّة وتقبّل الآخر المختلف، إلى جانب فكرة الوحدويّة في مواجهة الاختلافات. تعالج القصص تحويل الطعام والفواكه إلى رمزيّات للثقافة والهويّة، وتجمّع الناس معًا على الرغم من خلفيّاتهم ووجهات نظرهم المختلفة. إذ تصبح القصص استعارات لأهمّيّة احتضان التنوّع، وإيجاد أرضيّة مشتركة في مجتمع يتكوّن من أعراق وديانات ومعتقدات مختلفة، حيث يُحْتفَل بالاختلافات بدلًا من تقسيمها.

 

قصص الوفرة... تحضيرًا للـ ’اليوم الأسود‘

إضافة إلى ما سبق، ثمّة نوع إضافيّ من قصص الأكل الشبيهة المصوَّرة للأطفال، هي قصص الوفرة، أو جمع الكمّيّات من الموادّ الغذائيّة؛ خوفًا من ’اليوم الأسود‘، نجد نموذجًا عنها في قصّة «جزر كثير» (2016) لكيتي هدسون. في هذه القصّة نتعرّف إلى الأرنب الّذي يملأ بيته بالجزر حتّى أنّه لا يجد مكانًا للنوم؛ فيلجأ إلى بيوت أصدقائه، وفي كلّ بيت يبدأ كذلك بجلب الجزر، حتّى يمتلئ فينتقل مع صديقه إلى بيت صديق آخر. في النهاية، يفهم الأرنب أنّ جمع الجزر أصبح غير مُجدٍ، وأنّ أمانه في الأصدقاء أكثر منه في وفرة الطعام.

في هذه القصص نجد رمزيّة إلى الحاجة إلى دعم الأهل والمجتمع والاعتناء بهم، لكن كذلك إلى التضحية الشخصيّة بالفردانيّة؛ من أجل بناء أسريّ ومجتمعيّ صحّيّ أكثر...

قصّة أخرى من هذا النوع هي قصّة تغريد النجّار «البطّيخة» (1993) الّتي تحكي عن طفلة تعشق البطّيخ، حتّى أنّها تحلم بأنّها تعيش في داخل بطّيخة، وتأكل بطّيخًا طيلة اليوم. في هذه القصّة يكون البطّيخ بديلًا للبيت، لكن سرعان ما تفهم الطفلة أنّ حبّها للبطّيخ ليس بديلًا للعائلة، ولا لمأكولات أخرى توفّرها لها عائلتها. هذا النموذج القصصيّ يعرض قراءة مختلفة للمنتوج الغذائيّ الوفير، جزرًا كان أو بطّيخًا؛ ففيها الصداقة والعلاقات الاجتماعيّة والأسريّة توفّر الأمان البديل. رغم اختلاف استعارة الغذاء هنا، نجد الهدف ذاته، وهو التكاتف المجتمعيّ والأسريّ.

في هذه القصص كلّها، نجد رمزيّة إلى الحاجة إلى دعم الأهل والمجتمع والاعتناء بهم، لكن كذلك إلى التضحية الشخصيّة بالفردانيّة؛ من أجل بناء أسريّ ومجتمعيّ صحّيّ أكثر. يُعْتبَر الطعام في أدب الأطفال استعارة واضحة لنقل مواضيع مهمّة، مثل الاستقرار والأمن والحبّ والنموّ الشخصيّ، إلى جانب النموّ المجتمعيّ. وبذلك فهو يسلّط الضوء على أهمّيّة الاحتياجات الإنسانيّة الأساسيّة في تشكيل الرفاه العاطفيّ والنفسيّ للأطفال، إلى جانب التأكيد على أهمّيّة اكتشاف الذات والنموّ الشخصيّ.

 


 

لؤي وتد

 

 

 

باحث ومحاضر في ثقافة الأطفال والشباب، طالب دكتوراه في «جامعة تل أبيب»، في أدب الأطفال العالميّ والفلسطينيّ، ومحرّر موقع «حكايا».

التعليقات