15/05/2023 - 12:24

أسبوع في فلسطين… قبل عشر سنوات من النكبة

أسبوع في فلسطين… قبل عشر سنوات من النكبة

فرقة موسيقيّة في «إذاعة فلسطين» في القدس، 1936.

 

صدرت مجلّة «الرسالة» الثقافيّة في مصر في الفترة بين 1933 و1953، برئاسة تحرير الأديب المصريّ أحمد حسن الزيّات. شكّلت المجلّة نقطة فارقة في الإنتاج الثقافيّ المصريّ والعربيّ، إذ احتوت على مقالات تسبق زمانها وتسابقه، وعلى نصوص أدبيّة، وترجمات تقنيّة وعلميّة، ومقالات رأي سياسيّة وثقافيّة ودينيّة. كما كتب فيها أدباء المرحلة ونقّادها ومفكّروها. ومن المقالات الّتي تستحقّ التوقّف فيها، مقال على جزأين في عددين متتاليين (255 و256) للكاتب محمّد سعيد العريان، الّذي عنون المقال بـ «أسبوع في فلسطين». دفعني هذا العنوان اليوتيوبيّ إلى الدخول في عالمه، وقد انتبهت قبل القراءة إلى أنّني أقرأ مقالًا كُتِب في أيّار (مايو) 1938؛ أي قبل النكبة بعشر سنوات كاملة.

لم يكن المقال غريبًا في اللحظة والمكانِ الراهنين؛ فأنا من جمهور المشاهدين المنتشرين عبر العالم؛ المشاهدين الّذين يلتهمون الموادّ البصريّة على الإنترنت بشكل يوميّ، والّذين صارت لهم كتب من المصطلحات الّتي تتعلّق بصنعة ’المحتوى‘ وفنّه، ولم يكن العنوان غريبًا بل كان نافرًا عن عناوين مقالات «الرسالة»، وغريبًا عنها، ربّما، أمّا بالنسبة إليّ فقد كان مثل عناوين تدوينات المسافرين، أو فيديوهات المؤثّرين.

 

في القطار من القاهرة إلى القدس

ستبدأ رحلة الكاتب كما تبدأ رحلات المؤثّرين الاجتماعيّين اليوم؛ فقد تلقّى الكاتب دعوة من «مصلحة الإذاعة الفلسطينيّة» في القدس؛ ليذيع حديثًا عن الأديب الراحل مصطفى صادق الرافعي، في ذكراه السنويّة الأولى، وقد تلقّى العريان الدعوة، إضافة إلى الدكتور محمّد حسين هيكل، والشاعر المصريّ إبراهيم المازني. انطلقت الرحلة مساء السبت 7 أيّار (مايو) من ذاك العام، وعنها يقول العريان: "ستّ عشرة ساعة بين القاهرة والقدس، في قطار يدبّ على رمال الصحراء دبيب السلحفاة، بطيئًا وانيًا، ويقف في الطريق أكثر من أربع ساعات".

تبدأ رحلة الكاتب كما تبدأ رحلات المؤثّرين الاجتماعيّين اليوم؛ فقد تلقّى الكاتب دعوة من «مصلحة الإذاعة الفلسطينيّة» في القدس؛ ليذيع حديثًا عن الأديب الراحل مصطفى صادق الرافع...

يصل العريان إلى أولى محطّات فلسطين في الخامسة صباحًا، وفي محطّة غزّة تحديدًا "أولى مدائن فلسطين"، ستنبّهه أصوات الباعة إلى أنّه اجتاز الحدود المصريّة، وقد دخل إلى البلاد الّتي "تحمل أريجًا من أنفاس أهل الجنّة". يصف العريان لنا مشاهداته الأولى، من محطّته الأولى، والثانية كما سيقدّم في مقالته بعض المشاهد النصّيّة الّتي يمكن تخيّلها لفهم الرحلة الحلم، بين القاهرة والقدس، ويقول:

"بيوت مبعثرة على رؤوس التلال، وفي سفوح الجبل، وسهول رمليّة فيحاء قد نبتت فيها شجيرات القمح والشعير، وحدائق خضر ناضرة قد ملأتها أشجار البرتقال والنارنج والمشمش، ونخلة قائمة هنا، وخيمة مضروبة هناك، وكروم زاحفة على الأرض، وأعشاب نامية على الصخر، وأخاديد حدّدتها الأمطار في خدود الجبال؛ والقطار يسير في طريق ملتوية بين منحنيات الجبال، صاعدًا منحدرًا، ومشرّقًا مغرّبًا؛ كأنّما اتّخذوا له هذا الطريق؛ ليجلوا على المسافر كلّ ما يمكن أن تجتليه العين من رواء الطبيعة في فلسطين؛ فما مللت النظر إلى هذه المشاهد الفاتنة واقفًا في نافذة القطار ثلاث ساعات، حتّى وصلت إلى محطّة اللدّ في الساعة الثامنة صباحًا؛ ومحطّة اللدّ هي المحطّة المركزيّة في فلسطين، ومنها تتفرّع سكّة الحديد، فروعها إلى مختلف أنحاء البلاد، أو يستمرّ القطار سائرًا في طريقه إلى دمشق...".

 

في ضيافة طوقان

بعد انتظار قليل في محطّة اللدّ، يتحوّل القطار بالعريان في رحلته نحو القدس؛ ليصل إلى صديقه "شيخ أدباء العروبة" الأستاذ محمّد إسعاف النشاشيبي، حيث سيقضي إجازته أو مهمّته في داره، وينام عنده. وقد صاحبَه في هذه الرحلة مجموعة من الأسماء الفلسطينيّة المهمّة، وزار خلالها عددًا من المعالم السياحيّة والثقافيّة والدينيّة:

"صحبتني طائفة كريمة من الأدباء في غدوّي ورواحي؛ لتُهيّئ لي أسباب التمتّع في الرحلة بين المشاهد المقدّسة والبيوت الأثريّة؛ فزرت المسجد الأقصى، وقبّة الصخرة، ومصلّى عمر، وكنيسة القيامة، ومصعد المسيح، وبيت لحم، و«المتحف الإسلاميّ»، و«كلّيّة الروضة»، و«النادي المصريّ»؛ وتمتّعت برحلات عدّة، كان رفيقي في أكثرها الأستاذ الأديب إبراهيم طوقان، وكيل القسم العربيّ في محطّة الإذاعة. ولن أنسى ما حييت فضله، وفضل الأصدقاء الكرام: الدكتور إسحاق الحسيني، والشيخ يعقوب البخاري أفندي، والأستاذين داوود حمدان، وعبد الحميد يس، وغيرهم من أدباء فلسطين وأهل الرأي والجميل".

 

كشافة وهيئة تدريس «كلّيّة روضة المعارف» الوطنيّة، القدس، 1921 | المتحف الفلسطينيّ 

 

يتابع الكاتب تدوينته بالانتقال إلى الحديث عن أحد المواقع الّتي زارها، وهي «كلّيّة روضة المعارف» في القدس، ويصفها بأنّها "مدرسة حرّة يشرف على شؤونها «المجلس الإسلاميّ الأعلى»، بإدارة الأستاذ عبد اللطيف الحسيني، ووجود نخبة من المدرّسين، مثل عبد الفتاح لاشين من مصر، والأستاذ عبد الرحمن الكيّالي من فلسطين، ويُذْكَر أنّ كليهما من خرّيجي «مدرسة دار العلوم» في مصر". وبهذا الوصف، سينتهي الجزء الأوّل من التدوينة، وسينتظر القارئ المصريّ، والعربيّ، في عام 1938 حتّى العدد المقبل؛ ليعرف أكثر ويقرأ أكثر عن فلسطين.

 

التدوين السياحيّ العربيّ

يفتح هذا المقال بجزأيه عددًا من الأسئلة المهمّة، في الحال الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة في مصر وفلسطين؛ من خلال دراسة مقارنة يقوم بها محمّد سعيد العريان بعد الزيارة القصيرة، الّتي نجم عنها - كما يبدو - صدمة ثقافيّة، يكتب عنها العريان بشكل موسّع في هذه المقالة. في الجزء الثاني، ينتقل العريان إلى البُعد القوميّ للعلاقات العربيّة، ويحاول أن يفكّك الهويّة المصريّة في ضوء الهويّة الإسلاميّة وعلاقتها بفلسطين؛ فيقدّم عددًا من التساؤلات الّتي تُشكّك في النداءات الوطنيّة الّتي انتشرت في ذلك الوقت في مصر، مؤكّدًا وجود روابط أكبر وأهمّ من رابطة المكان الّذي وُلِد فيه المواطن العربيّ.

تأتي مقالة العريان من فكرة التدوين السياحيّ، أو تدوين مشاهدات جديدة في بلاد جديدة، لكنّها بالطبع لم تخلُ من بعض التلميحات السياسيّة والأيديولوجيّة، الّتي يبدو أنّ المقال قد كُتِب من أجلها. حيث يقدّم العريان انتقادات عديدة لسياسة مصر في التعامل مع الشرق العربيّ؛ بصفتها زعيمة هذا الشرق، غير أنّها لا تأخذ على نفسها عاتق المشقّات الّتي عليها بسبب الزعامة. وينتقد الثقافة المصريّة ومؤسّساتها، مبتدئًا بالمدارس الّتي ’تزعم‘ أنّ المصريّين من سلالة الفراعنة. وينتقد مجالس الأدب المصريّ، والقارئ المصريّ؛ لينتقل بعدها إلى توصيف وضع المرأة المسلمة العربيّة في فلسطين، ومقارنتها بالمرأة المصريّة. يُذْكَر كذلك دور المحطّة الإذاعيّة في فلسطين، وأهمّيّتها وأهمّيّة وجود الرجل المختصّ في المكان المناسب، وهذا ما يعيب على «محطّة القاهرة»، الّتي تغفل الأدب والأدباء، ولا تساعد في توجيه الرأي العامّ.

التفاصيل الجانبيّة الّتي ذكرها المقال كي يثبت وجهة نظره السياسيّة، هي خير المقال المستخرَج منه؛ لأنّها تمنحنا صورة عن واقع يوميّ في فلسطين 1938...

يشعر قارئ المقال أنّ الحال في فلسطين أفضل وأكثر ازدهارًا منه في مصر، كما يعطي المقال إحساسًا وصورة لا يمكننا تخيّلها اليوم؛ فالسفر إلى فلسطين بالقطار، والدعوات الثقافيّة بين إذاعة فلسطين وأدباء مصر، وكلّ تلك التفاصيل، هي تفاصيل متخيّلة اليوم لا أكثر. لكنّ أهمّيّة هذه التدوينة، تكمن فيها تمامًا؛ فمن الممكن أن نختلف مع طرح العريان حول فهمه للقوميّة العربيّة، في إطار البُعد الإسلاميّ لها، أو أن نتّفق معه في ذلك، وفي نقده للمؤسّسات المصريّة، لكنّ ذلك ليس ما يهمّ في هذه المقالة، بل إنّ هذه التفاصيل الجانبيّة الّتي ذكرها المقال كي يثبت وجهة نظره السياسيّة، هي خير المقال المستخرَج منه؛ لأنّها تمنحنا صورة عن واقع يوميّ في فلسطين 1938، وتساعدنا على التفكير في فلسطين وفلسطينيّي النكبة، خارج مخيال الفلّاحين المغلوب على أمرهم، أو المجاهدين المهزومين.

من جهة أخرى، فإنّنا اليوم نغلق 75 عامًا على ذكرى النكبة، وهذا يستدعي التفكير في ندرة وجود الرواة، الّذين شهدوا النكبة؛ فما احتمال أن نجد مَنْ قد كان واعيًا للنكبة حينذاك ليرويها اليوم؟ ولهذا يستدعي ذلك التفكير في أنّ الأعوام القليلة المقبلة ستخلو من رواة النكبة الشاهدين عليها، وستكون للعودة - سواء اليوم أو في الغد - إلى كلّ ما كُتِب عن فلسطين أهمّيّة كبيرة، وكذلك سيكون النظر إلى الأرشيف الكتابيّ والبصريّ والصوتيّ؛ بصفته مصدرًا للمعرفة، وللقصص غير المرويّة، الّتي غاب أصحابها ومضوا.

 


 

موفق الحجّار

 

 

 

شاعر وكاتب سوريّ، حاصل على ماجستير في الأدب المقارن من «معهد الدوحة للدراسات العليا».

التعليقات