29/05/2023 - 14:35

اقتصاد يستعمِر: تفكيك حالة الاستثناء المحيطة بفلسطين

اقتصاد يستعمِر: تفكيك حالة الاستثناء المحيطة بفلسطين

Issam Rimawi - Anadolu Agency via Getty Images

 

أكّد أنتوني كينج في عمله التأسيسيّ أنّ الفضاء الحضريّ الأصلانيّ ونظيره الاستعماريّ ليسا فضاءَي عمليّات مختلفين، بل فضاء واحد، وأنّه لا يمكن فهم التغيّرات الناتجة في البنية العمرانيّة للأوّل دون الإشارة إلى التطوّرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والحضريّة في الثاني[1]. ذلك أنّ الأشكال الحضريّة والبيئات المخطّطة تختلف بشكل واضح اعتمادًا على العوامل والسياقات السياسيّة والاقتصاديّة والقيم الثقافيّة والتاريخيّة والمعتقدات الأيديولوجيّة للمجموعات الممسكة بزمام السلطة، والنخب المهنيّة المسؤولة عن تنظيم وتنفيذ القرارات المتعلّقة بالتخطيط العمرانيّ والشكل العامّ للمدن.

يُضاف إلى ذلك إلى أنّ التخطيط العمرانيّ، في المجتمع الديمقراطيّ، يتعلّق بتنظيم وإيجاد فضاءات مخطّطة وتعديل المناطق القائمة، وذلك عن طريق التشريعات القانونيّة والضوابط البلديّة، بما يتماشى مع الإرادة الجمعيّة والقيم المجتمعيّة، إلّا أنّ الوضع في ظلّ الحالة الاستعماريّة مختلف، حيث أثّرت الأنماط المختلفة من الاستعمار في الهويّات المكانيّة والطبقيّة للبلدان المستعمَرة؛ الأمر الّذي ساهم في التغيير والتعديل لما هو أكثر من مجرّد البيئة الفيزيائيّة لمدن المحيط، وامتدّ إلى النظام الثقافيّ والاقتصاديّ والسياسيّ والاجتماعيّ.

 

«أوسلو»... بدايات تشكّل السوق الحرّ 

ولمّا كان قيام «السلطة الفلسطينيّة» في عام 1994، في نظر الكثيرين، حدثًا مهمًّا في تاريخ المنطقة، ولا يقلّ في أهمّيّته ومساهمته في تشكيل وجه المنطقة الحضريّ، وانعكاساته الاجتماعيّة-الاقتصاديّة عن أحداث نكبة 1948 ونكسة 1967، وبالنظر إلى أنّ مشروع «أوسلو»، من الناحية الاقتصاديّة، يقوم ويرتكز على السياسات النيوليبراليّة وعقيدة السوق الحرّ المنبثقة عن إجماع واشنطن[2]، فإنّه، وعلى النقيض من التحليلات النقديّة الّتي تميل إلى التركيز فقط على الجوانب السياسيّة للنضال ضدّ الاستعمار، يجب أن يفهم التحوّل السياسيّ الّذي قاد إلى «اتّفاقيّات أوسلو» وقيام «السلطة الفلسطينيّة» - وما تمخّض عنه من تغيّرات متعلّقة بترتيب الحيّز، وتكريس مختلف مظاهر اللامساواة الاجتماعيّة- الاقتصاديّة وأنماطها، ضمن النطاق العالميّ الأوسع، المتعلّق بالتزامن مع تحرير الأسواق وإعادة الهيكلة النيوليبراليّة للبنى الاقتصاديّة العالميّة والإقليميّة، ومن ضمنها الاقتصاد الإسرائيليّ، في تسعينات القرن الماضي.

يجب أن يُفْهَم التحوّل السياسيّ الّذي قاد إلى «اتّفاقيّات أوسلو» وقيام «السلطة الفلسطينيّة» وما تمخّض عنه (...) ضمن النطاق العالميّ الأوسع...

يشير الخالدي وسمور في هذا السياق، إلى ارتباط فكرة السلام الاقتصاديّ، وإنشاء «السلطة الفلسطينيّة»، في تسعينات القرن العشرين، بالهندسة الدقيقة لوصفات النيوليبراليّة وإصلاحات تحرير الأسواق، منوّهين إلى عدم وجود تباين كبير بين الحالتين الفلسطينيّة والجنوب إفريقيّة[3]، وهذا ينسجم مع ما ذهب إليه كلارنو، من القول بتمفصل المشروع الاستعماريّ الإسرائيليّ وارتباطه بالمشروع الاقتصاديّ للرأسماليّة النيوليبراليّة العالميّة، مشيرًا إلى أنّ إنهاء حالة الفصل العنصريّ في جنوب أفريقيا، وانبعاث فواعل النيوليبراليّة فيها، جاء تزامنًا مع قيام «السلطة الفلسطينيّة»[4].

وفي سياق النقد الّذي وجّهه هنيّة، فقد اعتبر أنّ معظم الدراسات الّتي تعالج الاقتصاد السياسيّ للشرق الأوسط، ودراسة مظاهر الفقر وفهمها، وغياب العدالة الاجتماعيّة في المنطقة، تفتقر إلى العمق في التحليل، ولا تتناول المدّ الإمبرياليّ لسياسات النيوليبراليّة التوسّعيّة، مؤكّدًا أنّ دراسة الحالة الفلسطينيّة يجب ألّا تكون من خلال مسألة الاضطهاد الإسرائيليّ فحسب، بل من خلال عدسة الرأسماليّة المعاصرة، ومدى ارتباطها بالمدّ الإمبرياليّ في منطقة الشرق الأوسط[5].

 

فلسطين ليست استثناءً

بالتالي؛ فإنّ دراسة التفاوت الجغرافيّ والاجتماعيّ وتحليله، الّذي بدأت ملامحه تتبلور في الحيّز الحضريّ الفلسطينيّ خلال العقود الثلاثة الأخيرة، تستدعي إعادة قراءته في سياق المنظومة العالميّة. ذلك أنّه، ورغم فرادة حالة المدينة الفلسطينيّة المتعلّقة باستمراريّة خضوعها للاستعمار الاستيطانيّ حتّى هذه اللحظة، إلّا أنّه لا يُفْتَرَض أن تشكّل حالتها استثناء بهذا الخصوص؛ فهي تشكّل جزءًا لا يتجزّأ من كينونة رأس المال والاقتصاد السياسيّ العالميّ. والاستعمار الاستيطانيّ الّذي تخضع له فلسطين عمومًا، ليس سوى جزء من منظومة الاستعمار والإمبرياليّة العالميّة، وعلاقات القوّة غير المتكافئة بين المستعمِر والمستعمَر، شأنها في ذلك شأن الاستعمار الفرنسيّ للجزائر كما يرى إيليا زريق[6].

بالتالي؛ فإنّ تفكيك حالة الاستثناء المحيطة بفلسطين يؤكّد أنّ الاستعمار الاستيطانيّ الإسرائيليّ ليس منفصلًا عن الهياكل الاقتصاديّة والسياسيّة العالميّة للسلطة والرأسماليّة العالميّة. كما يتيح إنهاء كلّ الافتراضات والاستثناءات المتعلّقة بالحالة المحلّيّة، ويفتح المجال أمام قراءة واقع فلسطين اليوم، وفهم القيود الّتي يفرضها الاستعمار الاستيطانيّ الإسرائيليّ على الزمان والمكان في السياق الاستعماريّ، وارتباطاته الاقتصاديّة والاجتماعيّة الأوسع.

تفكيك حالة الاستثناء المحيطة بفلسطين يؤكّد أنّ الاستعمار الاستيطانيّ الإسرائيليّ ليس منفصلًا عن الهياكل الاقتصاديّة والسياسيّة العالميّة للسلطة والرأسماليّة العالميّة...

واستنادًا إلى ما أورده هارفي، حول الكيفيّة الّتي تتدفّق بها العمليّات الجزئيّة للرأسماليّة؛ لتساهم في بناء مجالات مكانيّة جديدة، وتركيزات جغرافيّة مختلفة، ضمن إطار الدولة الواحدة[7]؛ يبدو جليًّا أنّ الممارسات والتفاعلات الاجتماعيّة الاقتصاديّة الّتي لحقت بمجتمع المدينة الفلسطينيّة في ظلّ هذه الظروف والمعطيات، باتت تُلامس علاقة الفرد بالمكان بأنماط المعيشة الحضريّة ومدلولات الحياة اليوميّة. إضافة إلى مساهمتها في صناعة المكان واستهلاكه، وفي توجيه الخيارات والذائقة والاعتبارات المكانيّة، والسلوكيّات الفرديّة للأشخاص العاديّين، وتأثيرها في طريقة تفاعلهم وتقييمهم للبيئة العمرانيّة، وتحديد مكان إقامتهم، أو الأماكن الّتي يرتادونها ضمن حراكهم وما يرتبط به من ممارسات يوميّة.

ذلك يعني أنّ المكان أصبح يشكّل مؤشّرًا على توزيع الثروة والمكانة، وانعكاسًا للوعي الطبقيّ أو المتخيّل الاجتماعيّ لشاغلي المكان وروّاده، وتصوّرهم لذواتهم أو رؤية الآخرين لهم. كما يؤسّس لإعادة تشكيل الحيّز الحضريّ وتقسيمه مكانيًّا، وإضفاء هويّات تراتبيّة على فضاءاته المختلفة، وإبرازها بوصفها إطارًا فيزيائيًّا ترتسم فيه الحدود والمسافات الاجتماعيّة الاقتصاديّة المرافقة لترتيب الحيّز محلّيًّا وعالميًّا. كما يدعم الخلق والإنشاء لفئة من المستهلكين الّذين يتّسمون بذائقة مكانيّة تدفعهم إلى التهافت على اللحاق بركب أنماط الحياة، والممارسات اليوميّة المعولمة المتموضعة في حيّز كثير من المدن الفلسطينيّة، الّتي صُبِغت بطابع مدينيّ حداثويّ، وأُعيد تشكيل وجهها الحضريّ بطريقة أضفت عليها صفة العالميّة، على غرار ما يحدث في كثير من المدن العربيّة والعالميّة.

 

الاستهلاك الاستعراضيّ 

في حين اعتبرت بوستريل أنّ الاستهلاك الاستعراضيّ سلوك نفسيّ اجتماعيّ اقتصاديّ، شائع بين من يسعون إلى تفادي التصوّرات السلبيّة المتعلّقة بدونيّة طبقتهم الاجتماعيّة، وانحدار مستوى انتمائهم الاقتصاديّ[8]. يُذْكَر أنّ فيبلن كان قد وجّه نقدًا قاسيًا للسلوك الاستهلاكيّ، لدى أفراد الطبقة العليا الأمريكيّة في القرن التاسع عشر[9]، الّذين كان لديهم ميل لشراء سلع أو خدمات معيّنة؛ من أجل إظهار الثروة والمكانة والهيبة الاجتماعيّة، فضلًا على إثبات واقع انتماء حقيقيّ أو متخيّل لمجموعة معيّنة.

تذهب تراكي في هذا السياق، إلى القول بتبلور متخيّل اجتماعيّ جديد في فلسطين، وحدوث تحوّلات في البنى الطبقيّة والوعي المرافق لها بعد «أوسلو»[10]. يحدث ذلك بالتزامن مع تشكيل نخب جديدة وتبلور كتلة من الفاعلين الاجتماعيّين الجدد، الّذين تبنّوا القيم النيوليبراليّة وأنماط الحياة المعولمة، وتشكّلت لديهم نزعة إلى الاستهلاك الرمزيّ، واتّباع إستراتيجيّات فردانيّة تتمثّل في السعي إلى تمييز أنفسهم من الشرائح الطبقيّة الأدنى، ووضع مسافة بينهم؛ الأمر الّذي تجسّده ممارساتهم اليوميّة في الفضاءات المختلفة، مثل الجامعات والمسارح والمدارس الخاصّة وغيرها.

 

رام الله والبيرة... ظهور الحيّز الطبقيّ 

بالنظر إلى حالة مدينتَي رام الله والبيرة بوصفهما نموذجًا يشهد حضورًا قويًّا لمركّبات التصوّر السابق، والممارسات المرتبطة به؛ فقد ذهبت سلمي إلى أنّه صار ممكنًا في الأعوام الأخيرة ملاحظة وجود تقسيمات مكانيّة واجتماعيّة، في حيّز مدينتَي رام الله والبيرة، ووجود أماكن مخصّصة لطبقات وشرائح سكّانيّة معيّنة؛ الأمر الّذي تزامن مع ما شهدته المدينتان من استقطاب طبقيّ، ناشئ من تنوّع الأصول والأوضاع الاجتماعيّة لسكّانهما[11].

صار ممكنًا في الأعوام الأخيرة ملاحظة وجود تقسيمات مكانيّة واجتماعيّة، في حيّز مدينتَي رام الله والبيرة، ووجود أماكن مخصّصة لطبقات وشرائح سكّانيّة معيّنة....

 

وفي ظلّ ما أورده جابر والصيرفي، من القول بتركيز البنوك في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1967 على القروض الاستهلاكيّة؛ إذ بلغت نسبة هذه القروض أكثر من 68% من مجمل القروض الصادرة عن «بنك فلسطين»[12]، يُشار إلى أنّ رام الله سجّلت نسبًا مرتفعة من القروض، وغرقت نسبة كبيرة من سكّانها في بحر القروض السكنيّة والاستهلاكيّة، وشهدت تبلور فكر النيوليبراليّة الفردانيّ لدى عدد من السكّان، الّتي من شأنها أن تشجّع النزعة إلى الاستهلاك الاستعراضيّ.

تشير تجلّيات الواقع الماثلة أمامنا إلى حدوث تغييرات ملموسة في أنماط استخدامات الأراضي، والخصائص التنظيميّة للقطاعات السكنيّة المختلفة؛ إذ تحوّلت المدينة إلى سلعة يمكن المتاجرة بكلّ مقوّماتها، وباتت أهمّيّة الأرض وقيمتها تُقاسان فقط بمقدار السعر الّذي تكتسبه في الأسواق العقاريّة، وتحوّلت الأحياء والحارات إلى مجرّد حفنة من البنايات والمحالّ التجاريّة الّتي تُشَيَّد للربح السريع.

 


إحالات

[1] King, Anthony D. Urbanism, Colonialism, and the World Economy. (London: Routledge, 1990).

[2] Khalidi, Raja, & Samour, Sobhi. Neoliberalism as Liberation: The Statehood Program and the Remaking of the Palestinian National Movement. Journal of Palestine Studies, (2011) XL(2), 6-25. Retrieved from https://mpra.ub.uni-muenchen.de/29642/

[3] Ibid.

[4] Clarno, Andy. Settler-Colonialism and Neoliberal Capitalism. Fifty Years of Occupation: A Forum (Part 2), (2017). Retrieved from https://merip.org/2017/06/fifty-years-of-occupation-2/

[5] Hanieh, Adam The Oslo Illusion. Jacobin. (2013). Retrieved from https://www.jacobinmag.com/2013/04/the-oslo-illusion/

[6] Zureik, Elia. Israel’s Colonial Project in Palestine: Brutal pursuit. (London: Routledge, 2016).

[7] ديفيد هارفي. فهم الإمبرياليّة الجديدة: مقابلة مع الجغرافيّ ديفيد هارفي. قابله هاري كرايسلر (دياري صالح مجيد، مترجم). الحوار المتمدّن، (2010، 19 آذار)، 2949. استُرْجِعت من http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=208235

[8] Postrel, Virginia. Inconspicuous Consumption: A new theory of the leisure class. The Atlantic. (2008, July/August). Retrieved from https://www.theatlantic.com/magazine/archive/2008/07/inconspicuous consumption/306845/.

[9] Veblen, Thorstein. The Theory of the Leisure Class. New York: Random House Modern Library Edition. Originally published as The Theory of the Leisure Class: An Economic Study of Institutions, (New York: Macmillan, 2001).

[10] ليزا تراكي. المتخيّل الاجتماعيّ الجديد في فلسطين بعد أوسلو. إضافات، (2014، ربيع-صيف) 26-27، 48-59.

[11] أميرة سلمي. المصيون: بين تغيّرات البنية العمرانيّة والخوف من فقدان المكان الاجتماعيّة. في رلى أبو دحو، لميس أبو نحلة، ليزا تراكي، بني جونسون، أميرة سلمي، وجميل هلال، أمكنة صغيرة وقضايا كبيرة (ص 201-234). (بيروت: مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، 2010).

[12] جابر، فراس، والصيرفي، عماد. الإقراض والسياسات التنمويّة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة. (بير زيت: مركز دراسات التنمية - جامعة بير زيت، 2014).

 


 

سليم أبو ظاهر

 

 

 

كاتب فلسطينيّ، حاصل على الدكتوراه في «العلوم الاجتماعيّة» من «جامعة بير زيت»، ويهتمّ بدراسات السكّان الأصلانيّين والتاريخ الاجتماعيّ الاقتصاديّ الحديث، والتفاعلات اليوميّة الزمانيّة المكانيّة.

 

 

التعليقات