24/06/2023 - 15:47

تَحنين الحجّاج بين التقصّي والتوصّي

تَحنين الحجّاج بين التقصّي والتوصّي

قافلة حجّاج فلسطين في مقام النبيّ موسى (1890-1930) | صورة أرشيفيّة

 

لم يَعُد لأداء فريضة الحجّ  تلك الهالة الاجتماعيّة الّتي كانت عليها على مدار التاريخ، رغم قدسيّة الحجّ الباقية بوصفه فريضةً دينيّة وركنًا من أركان الإسلام. الفريضة ثابتة إلى يومنا لناحية مناسكها وشعائرها، غير أنّ المتحوّل فيها عبر التاريخ الإسلاميّ هو الرحلة. ورحلة الحجّ سواء عبر الصحراء أو البحر إلى الحجاز بنظم مختلفة من وسائل النقل، هي ما كان يمنح الحجّ هالته الاجتماعيّة والسياسيّة كذلك؛ ممّا أنتج شكلًا من الأدب الغنائيّ المحكيّ، في فلسطين وبرّ الشام وبلاد العرب عمومًا. أدب تضمّن نبرة عالية من سؤال التقصّي وابتهال التوصّي بالحجّاج، الّذي عُرِف في فلسطين بطقس ’التحنين‘.

 

التحنين

كان التحنين واحدًا من أبرز الطقوس الغنائيّة الشعبيّة المتّصلة بوداع الحجّاج قبل سفرهم لأداء الفريضة، ولا يُغَنّى في استقبالهم بعد عودتهم من أدائها؛ فهو تحنين لأنّه مشتقّ من الحنين أو التحنّن والتشوّق إلى قبر النبيّ محمّد وحجّاجه معًا. واتّصل طقس التحنين لدى فلّاحي فلسطين في بعض أرياف المدن بـ ’الحِنّاء‘، فكانوا يحنّون راحتَي كفَّي الحاجّ في ليلة سفره لأداء الفريضة، تمامًا مثلما يُحَنّى العريس في ليلة زفافه.

ظلّ التحنين طقسًا غنائيًّا نسائيًّا لا يغنّيه الرجال، مثل كثير من غناء الطقوس الاجتماعيّة الّذي كانت تهزج به نساء فلسطين، منه ختان الأولاد ’الطهور‘، إذ بقي الختان بشقّه الغنائيّ طقسًا نسائيًّا - جماعيًّا، وكذلك الطبخ في الأعراس. وقد ارتبط تحنين الحجّاج بالنساء؛ لأنّ الحجّ ظلّ في فلسطين حتّى مطلع القرن العشرين فريضة يؤدّيها الرجال أكثر من النساء، لأسباب متّصلة بمشاقّ رحلة الحجّ ونوائبها، ممّا يفسّر لنا لِمَ كان التحنين نسائيًّا.

اتّصل طقس التحنين لدى فلّاحي فلسطين في بعض أرياف المدن بـ ’الحنّاء‘، فكانوا يحنّون راحتَي كفَّي الحاجّ في ليلة سفره لأداء الفريضة...

بالتالي، فهو حمولة عالية من حنين النساء المسلمات أنفسهنّ وتشوّقهنّ إلى زيارة الكعبة في مكّة، وقبر النبيّ محمّد في مدينته، وتحديدًا زيارة النبيّ، المُنْيَة الأكثر شجنًا على ألسن المحنّنات، ومن هنا قولهنّ:

"يلّي رأيتوا النبي كيف وصفاته

وكيف علامة النبوّة بين كتافاته

وحقّ مَنْ أوجد علامة النبوّة فيه

أنا بروحي وجسمي للنبي بفديه".

 

من جهة أخرى، كان التحنين يتضمّن غناء وداعيًّا أيضًا؛ فالمسافر لأداء فريضة الحجّ كان يُوَدَّع وداع الميّت، وكان أهله وأهالي حيّه أو قريته يصلّون عليه صلاة الغائب؛ ومردّ ذلك إلى أنّ رحلة الحجّ كانت محفوفة بمخاطر الأوبئة والمرض، أو اللصوصيّة وقطع الطريق، أو الكوارث البيئيّة مثل الجرف والسيول، فضلًا على حالات الضياع والانقطاع، الّتي يُعْتَبَر غناء التحنين أرشيفًا لها يذكّر بكلّ مخاطرها المحتملة، وتحديدًا حين كان الحجّ على الرواحل من الجِمال والدوابّ. بالتالي، كانت النساء يتحنّنّ إلى رجالهنّ من الحجّاج، مودّعاتٍ إيّاهم على طريقة:

"ع وين رايح يا كبير عيلتك

ع وين رايح

 مِن يذبح الذبايح يا كبير عيلتك

مِن يذبح الذبايح...

ع وين بدّك يا كبير عيلتك

 ع وين بدّك

مِن يقعد بندّك يا كبير عيلتك

مِن يقعد بندّك...".

 

كان التحنين بمنزلة سرديّة غنائيّة، تقصّ سيرة الشوق والتوق إلى زيارة مكّة وحرم النبيّ، وتتقصّى معالمهما؛ وهذا ما نسمّيه ’أدب التقصّي‘ في التحنين، وتقصّ من جهة أخرى سيرة ذوي الحجّاج وهاجسهم وخوفهم على حجّاجهم من رحلة الحجّ، وهذا ما أطلقنا عليه ’أدب التوصّي‘.

 

التحنين تقصّيًا 

يتضمّن غناء التحنين حنينًا جيّاشًا لديار ’البيت الحرام‘؛ وهو ما يجعله غناء مترعًا بحسّ السؤال والاستفهام لدى النسوة المُحنّنات، عن أماكن مناسك الحجّ ومعالمها، ومن أشهرها تحنينة"«يا زايرين النبي»، الّتي يظلّ يتكرّر مطلعها بصيغة التقصّي والاستفهام، وبلغة محكيّة عامّيّة مسجوعة، مثلًا:

"يا زايرين النبي ويش وصفة حجاره

يا سعد مَنْ راح حَرم النبي وزاره

 

يا زايرين النبي ويش وصفة المفتاح

يا سعد مَنْ راح لقبر النبي سوّاح.

 

يا زايرين النبي ويش وصفة القبّة

 يا سعد مَنْ راح حرم النبي وحبّه.

 

يا زايرين النبي ويش وصفة العمدان

نيّال من زارك يا نبي يا ولد عدنان

 

يا رايحين ع النبي ياالله عليه ياالله

وأفضل سلامي على حجّاج بيت الله".

 

ظلّ ذكر النبيّ محمّد الأكثر حضورًا في أغاني التحنين، إلى الحدّ الّذي يجعل فيه التحنين زيارة حرم النبيّ شعيرة تفوق في حضورها الإحرام والطواف حول الكعبة، وباقي مناسك فريضة الحجّ. ولا نبالغ إذا قلنا إنّ أغاني التحنين كانت تتضمّن أدبًا نبويًّا شعبيًّا عن تلك الثيمة الفطريّة الشعبيّة، من الابتهال والهيام بشخص النبيّ في الوجدان والمخيٍال العربيّين الإسلاميّين، ما لم ينتجه كلّ أنماط التديّن في التاريخ الحديث في منطقتنا، تجاه مفهوم النبيّ والنبوّة.

ظلّ ذكر النبيّ محمّد الأكثر حضورًا في أغاني التحنين، إلى الحدّ الّذي يجعل فيه التحنين زيارة حرم النبيّ شعيرة تفوق في حضورها الإحرام والطواف حول الكعبة...

فضلًا على حسّ التشوّق الّذي يتضمّنه أدب التحنين تقصّيًا والتساؤل غناءً؛ فإنّه يتضمّن أيضًا، بُعدًا متّصلًا بإعادة إنتاج جغرافيا المكان ومعالمه، كما هو في أبيات التحنين السابقة الّتي يُشير عجز كلّ بيت فيها إلى واحد من معالم حرم النبيّ وقبره. الحجارة والقبّة والعمدان... وهكذا. وهذا ينسحب على كامل خريطة جغرافيا أداء فريضة الحجّ ومناسكها، الّتي داومت النساء المُحنّنات على إنتاجها في تحنينهنّ لحجّاجهنّ في الإشارة إلى ’البيت العتيق‘ وكعبته، وجبل عَرفة ومِنى وبير زمزم، وقد خُصّ هذا الأخير، بتحنين يُعْرَف بـ «على بير زمزم»، مثلًا:

"ناموا ناموا، ناموا عيني لا لا تنام

على بير زمزم نصبوا الخيام

على بير زمزم واتوضّا الرسول

بإبريق الفضّة والشمع والبخّور".

 

كما لا يتوقّف التقصّي في التحنين عند الاستفهام؛ فقد يحمل غناء التقصّي بعض الرسائل والإشارات الّتي كانت تبعث بها النسوة المُحنّنات إلى حجّاجهنّ قبل سفرهم لأداء الفريضة، يستبطنّ من خلالها حاجتهنّ وهداياهنّ المتوقّعة لهنّ من حجّاجهنّ بعد عودتهم سالمين، وممّا يهزجن به:

"وايش الهديّة يا حجّاج

 وايش الهديّة يا حجّاج

 حطّات وعقول للاولاد

 حطّات وعقول للاولاد

 

وايش الهديّة يا حجّاج

  وايش الهديّة يا حجّاج

  مناديل أويا للبنات

  مناديل أويا للبنات".

 

في التوعّد والتوصّي

"كونوا حناين يا نجوم السما... ولمّوا العمايم قبل ما يبوح الندا". كانت هذه أولى كلمات تحنين التوصّي بالحجّاج؛ إذ لم يترك التحنين شيئًا قد يعترض طريق الحجّاج في رحلتهم إلّا جاء على ذكره، موصيًا إيّاه غناء بالحجّاج وسلامتهم. كان طريق رحلة الحجّ أكثر مَنْ توصيه النساء المحنّنات بالحجّاج، الّتي أطلقن عليها ’طريق النبي‘، مثلًا: "كوني مِرية يا طريق النبي... وزبدة طريّة تحت خفّ الجمل".

يوصي التحنين طريق رحلة الحجّ أن تظلّ ’مِرية‘، أي سلطانيّة، مأمونة من كلّ خطر وويل يمكن أن يُلْحِق الأذى بقاصدي حجّ ’البيت الحرام‘، وهذا يوم أن كان قطع طريق رحلة الحجّ يكون ركوبًا على الرواحل والجِمال. ويوصي غناء التحنين الطريق مشيرًا إلى كلّ ما تعوّد المطوّفون (مرشدو قافلة الحجّ) الخوف منه على حجّاجهم في الطريق، مثلًا :

"صُفّي الكراسي...  يا طريق النبي

من البرد القاسي...  خوفي على الزوّار

صُفّي صجر ورد...  يا طريق النبي

من الشوب والبرد...  خوفي على الزوّار".

 

إنّ تنظيم الرحلة في قافلة الحجّ عبر الجِمال، تقليد إسلاميّ متعارف عليه منذ عصر العبّاسيّين. أعاد المماليك بعد انتصارهم على الصليبيّين تنظيم قوافل الحجّ في قافلتين رسميّتين: الأولى من مصر كانت تنطلق من القاهرة، والثانية هي قافلة الشام الّتي كانت تتحرّك من دمشق باتّجاه الحجاز. وسار العثمانيّون على هذا التقليد؛ فقد وضعوا أسسًا ونُظُمًا للقافلة إلى الحدّ الّذي صارت فيه أشبه بوزارة متحرّكة على مدار التاريخ العثمانيّ. هذا عدا قوافل جِمال الحجّ غير الرسميّة، الّتي كان ينظّمها بعض المطوّفين، بالتعاون مع شيوخ القبائل البدويّة المُقيمة على الطرق المؤدّية إلى الحجاز.

 وبالتالي، كان الجمل الدابّة الأكثر حضورًا في غناء تحنين الحجّاج، فكان الجمل يُحَنَّى ويُزَيَّن ويُحَمَّل بتحانين التوصّي والتوعّد معًا، مثلًا:

"لِنْ جِبِتْ لَاسْمَرْ...  بِالسلامِة يا جَمَلْ

عَ الْفولْ لِخْظَرْ...  لَارْبُطَكْ يا جَمَلْ

لِنْ جِبِتْ رْفيقَكْ...  بِالسَّلامِة يا جَمَلْ

لَزَوِّدْ عليقَك...  نِذِرٍ عَلَيّ يا جَمَلْ".

 

قوافل فلسطين 

كان مقام النبيّ موسى بين القدس وأريحا موقع تجمّع قافلة فرع حجّاج فلسطين، قبل انطلاقها وانضمامها إلى قافلة الشام الرسميّة في الأردنّ. وعند المقام كانت مراسيم وداع الحجّاج الأخير تجري عبر المدائح والأناشيد الدينيّة الصوفيّة، وأغاني الشوباش والزفّة الفلّاحيّة، حين كان الحاجّ يُزَفّ من قريته أو مدينته إلى النبيّ موسى برفقة أهله مثل زفّة العريس، بينما أغاني التحنين ظلّت طقسًا ليليًّا يُمارَس في بيت الشخص الناوي الحجّ، على مدار ليالي الأسبوع  الأخير قبل سفره.

كان الجمل الدابّة الأكثر حضورًا في غناء تحنين الحجّاج، فكان الجمل يُحَنّى ويُزَيَّن ويُحَمَّل بتحانين التوصّي والتوعّد معًا...

يرصد غناء تحنين الحجّاج التحوّلات الّتي طرأت على رحلة الحجّ، ووسائل نقلها منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ فبعد فتح قناة السويس في عام 1869، حين صار الحجّ من فلسطين تحديدًا يجري بحرًا من ميناء يافا إلى السويس، ثمّ عبر البحر الأحمر إلى ميناء جدّة في الحجاز. ومن أشهر أغاني تحنين الحجّاج بحرًا كانت تحنينة «والحاجّ طاح البحر»، منها أبيات تقول:

"والحاجّ طاح البحر وبيده كيلة 

يا ربّ تردّو سالم لهالعيلة

 

والحاجّ طاح البحر لابس عَباتو

يا ربّ تردّو سالم لَامُّه ولخيّاتو ...

 

والحاجّ طاح البحر وبيده سوارة

يا ربّ تردّو سالم لَاهل الحارة".

 

ولمّا مدّ العثمانيّون خطّ سكّة الحديد الحجاز مع مطلع القرن العشرين، بغرض تنظيم رحلة الحجّ عبر سكّة الحديد، صارت أغاني تحنين الحجّاج تشير إلى السكّة باسم ’البابور‘، وأغاني بابور السكّة اشتهرت في فلسطين أيّام الحرب العالميّة الأولى، لكنّه غناء ظلّ يحيل إلى علاقة البابور (القطار) بالحرب، وحمل الرجال فيه، وتجنيدهم إجباريًّا إلى جبهات الحرب؛ ممّا ولّد غناء متحاملًا على البابور. أمّا عن علاقته بالحجّ فقد أشارت المحنّنات إلى البابور في تحنينهنّ، بالقول: "لحدّ البابور...  ودّعنا لحباب/ ونوينا نزور...  وارجعوا يا حباب/ فرّ البابور...  وتودّعي يا عين/ يا سقا الله...  ع أيّام ما ظلّين".

 


 

علي حبيب الله

 

 

 

باحث في العلوم الاجتماعيّة، حاصل على ماجستير فلسفة التاريخ من «الجامعة الأردنيّة»، وماجستير في الدراسات العربيّة المعاصرة من «جامعة بير زيت». يعمل في مجال الاستكمال التربويّ في القدس.

 

 

التعليقات