05/07/2023 - 11:01

وصفة خليل صويلح السحريّة للرشاقة السرديّة

وصفة خليل صويلح السحريّة للرشاقة السرديّة

الروائيّ خليل صويلح

 

في كتاب «حفرة الأعمى» (المتوسّط، 2022)، يحاول خليل صويلح أن يجمع مستخلص تجربته السرديّة قارئًا أوّلًا وروائيًّا ثانيًا، عبر مجموعة من المقالات الّتي تحاور وتحاوط الموضوع من جوانب مختلفة، مبتدئًا سقوطه في هذه الحفرة العميقة، من تعريفها المعجميّ، حيث يخبرنا صويلح عن الفعل سَرَدَ، ويقول: "سوف أتوقّف بإعجاب عند تفسير كلمة سَرَدَ في أقدم مرجعيّاتها العربيّة (سرد الجلد إذا ثقبه بالمخرز ثقوبًا متتابعة). هكذا يتّخذ الجلد هيئة رقعة الكتابة، ويتكفّل المخرز بمهمّة القلم أو أحرف الكيبورد، بالانتباه المركّز إلى موقع الثقب، فإفلات مكان أحد الثقوب أو نسيانه، ينطوي على ثغرة أكيدة في تتابع السرد".

يعمل صويلح عبر مقالاته عن السرد وفق خطّ سرديّ يُظْهِر اهتمامًا عاليًا بالفعل التخييليّ المبدع في الكتابة، فينسج بذلك أطراسًا سرديّة تبدأ بنصائح الآخرين ممَّنْ قرأ وتنتهي بمقولته الإرشاديّة. لكنّه يفعل ذلك من خلال السرد، فيحدّثنا عن جدّته، وأبيه، وأصدقائه، والنادل في المقهى، والمرشد السياحيّ، وغيرهم، طارحًا في كتابه مجموعة من الإرشادات المتعلّقة بمطبخ السرد (على حدّ تعبيره)، فيكتب عن ضرورة تنقية ماء الحكي من الشوائب، وعن فضائل الاختزال، والاستناد إلى الخلائط السرديّة غير المتجانسة؛ للوصول إلى البنية الجماليّة القادرة على حمل السرد، دون الوقوع في فخّ التأريخ والمخطوطة الواقعيّة، فإنّ ما يريد صويلح التنبيه بشأنه هو تجنّب ’حفرة الأعمى‘ في السرد؛ أي التفاصيل الهامشيّة الّتي تعيق عمل المركز.

يعمل صويلح عبر مقالاته عن السرد وفق خطّ سرديّ يُظهر اهتمامًا عاليًا بالفعل التخييليّ المبدع في الكتابة، فينسج بذلك أطراسًا سرديّة...

من مقالات الكتاب، استوقفني ما قام به صويلح في مقالة «على ارتفاع شاهق»، حيث يخبرنا عن عمل المرشد السياحيّ، في قلعة بُصْرى الأثريّة في سوريا، في سرد حكاية «سرير بنت الملك» في تلك القلعة، وهو سرير محمول على عمودين حجريّين شاهقين، يُحْكَى أنّ الملك قد بناه على هذه الشاكلة؛ كي يحمي ابنته من الموت الّذي تنبّأت به العرافة، لكنّ عنقود عنب قد اشتهته الأميرة ورُفِع لها، سيقتلها بلدغة عقرب مختبئ بين العنب. يستغلّ صويلح هذه القصّة ليقدّم لنا مصطلح الرافعة التخييليّة الضروريّة لتقديم لدغة العقارب السرديّة الّتي توقظ حواسّ القارئ؛ فما هذه الرافعة التخييليّة؟ وما التخييل؟

 

التخييل في جذوره اللغويّة

ليست مفردة التخييل نتيجة صرفيّة لاستخدام الفعل الثلاثيّ ’خَيَلَ‘، ولا مصدرًا لفعل مزيد منه فقط، بل تشكّل مفهومًا من مفاهيم التفكير الأدبيّ باللغة العربيّة. وقد ترسّخ المفهوم عبر استثمار الفلاسفة المسلمين الأوائل للمفهوم، وكيفيّة وروده في النصوص السابقة، وربطه بالقول الشعريّ، ودراسة التحوّلات الدلاليّة والوظيفيّة المختلفة الّتي طرأت عليه في سبيل فهم العمليّة الإبداعيّة في إنتاج الشعر أو الأدب.

يمكن النظر إلى ظهور المصطلح وتوظيفه في النصوص الفلسفيّة العربيّة الأولى، وفقًا لمستويين دلاليّين متباينين[1]، يقوم الأوّل منهما على ورود الكلمة بمعناها اللغويّ، وتداخلها مع مشتقّات أخرى مماثلة لها. أمّا في المستوى الثاني فتتّضح معاني الكلمة بشكل أكثر دقّة، ناجم عن تفكير دقيق، قادر على الإحاطة بالمصطلح وتحويله إلى أداة لدراسة الظواهر الإبداعيّة؛ فالبداية كانت من نصّ «قسطا بن لوقا»، وهو النصّ الأوّل والوحيد في القرن الثالث الهجريّ، الّذي عُنِي في عرض المعاني الممكنة لكلمات الخيال والتخيّل والتخييل والمخيّل.

كان ما قام به قسطا بن لوقا في تفنيد المفردة ومحاولة شرحها، قائمًا على ارتباط عمليّة التخييل ومشتقّاتها بالانفعال النفسيّ[2]، والانسياق الذهنيّ والعاطفيّ بما يقتضي هذا الفعل التخييليّ وكيفيّة تأثيره في المستمع. ويقول: "والتخيّل هو تأثير واقع في النفس، بيّن في ذاته". ومن هنا نبدأ مع فهم ربط التخيّل بلدغة العقرب الّتي توقظ الحواسّ.

 

«حفرة الأعمى»، «منشورات المتوسّط» (2022)

 

أمّا الفارابيّ فقد ربط الاستجابة الذهنيّة عند المتلقّي للتخييل بالجودة؛ ليصبح مقياسًا يترجم جودة التخييل وقدرته، وقال: "جودة التخييل (...) أن تنهض نفس السامع إلى طلب الشيء المُخَيَّل، والهرب منه أو النزاع إليه أو الكراهة له، وإن لم يقع به تصديق (...)، ويُقْصَد بجودة التخييل أن يتحرّك الإنسان لقبول الشيء، وينهض نحوه، وإن كان علمه بالشيء يوجب خلافَ ما يخيّل له فيه".

من هذا يتّضح أنّ التخييل عند الفارابيّ هو الانفعال الناجم في نفس متلقّيه، بشكل واعٍ أو غير واعٍ. وقد أضاف ابن سينا إلى هذا الانفعال أشكالًا أخرى، منها التعجّب أو التعظيم والتهوين، موضّحًا أنّ أيّ نشاط ناجم عن التخييل لا يكون الغرض منه تصديقه أو الاعتقاد به[3]. وعليه، انتبه الفلاسفة الأوائل في اللغة العربيّة ومنجزها الإبداعيّ من سرد وشعر إلى أهمّيّة التخييل في الفعل الجماليّ، التخييل الّذي يستنهض القارئ، أي يرفعه كما أشار صويلح باستخدامه للرافعة التخييليّة.

 

بورخيس وابن رشد

لقد استخدم خليل صويلح الرافعة ذاتها في هذه المقالة، حيث استعان بالتخييل في سرده؛ كي يستنهض نفس القارئ نحو فهم ما يريد قوله، وفي هذه المحاولة يذكّرني صويلح بالكاتب الأرجنتينيّ خورخي بورخيس في قصّته «بحث ابن رشد»، الّتي تعيننا هنا على فهم هذه الرافعة التخييليّة.

يكتب بورخيس قصّته «بحث ابن رشد»، في محاولة لنقل تجربة ابن رشد مع ترجمة كتاب «الشعر» لأرسطو، وفشله في ذلك، أو عدم فهمه الكامل له. تمتدّ هذه اللحظة الترجمانيّة من ابن رشد نفسه (مع مفردتَي تراجيديا وكوميديا) إلى العالم الّذي كان يعيش فيه وفقًا لمخيّلة بورخيس؛ فيحاول بورخيس أن يقدّم قصّة فشل الفيلسوف الكبير، في قصّة قصيرة يتخيّل ابن رشد فيها، ويتخيّل عالمه، ويتخيّل فشله في تلك اللحظة التاريخيّة؛ ليعترف في نهاية القصّة بفشله هو أيضًا في رصد هذه اللحظة العبثيّة، من تاريخ فهم ابن رشد لفلسفة اليونان وترجمتها.

يكتب بورخيس قصّته «بحث ابن رشد»، في محاولة لنقل تجربة ابن رشد مع ترجمة كتاب «الشعر» لأرسطو، وفشله في ذلك...

فما الرافعة التخييليّة الّتي استخدمها بورخيس في قصّته؟ عمد بورخيس إلى إظهارها بوضوح، فقد تخيّل ابنَ رشد متعبًا من البحث عن معنى كلمتَي التراجيديا والكوميديا، قائلًا في نفسه الّتي تسلّل التعب واليأس إليها: "إنّ ما نبحث عنه يكون قريبًا منّا عادة"؛ لينظر من الشبّاك ويرى أطفالًا يلعبون:  "كان أحدهم يقف منتصبًا فوق كتفَي آخر، ويبدو واضحًا أنّه يحاكي المؤذّن؛ فهو يطبق عينيه بإحكام مرتّلًا (مناديًا): "لا إله إلّا الله"، بينما يقف الّذي يحمله دون حراك ممثّلًا المئذنة. وكان صبيّ آخر يجثو بتذلّل على التراب، كما تفعل جماعة المؤمنين. لم يستمرّ لعبهما إلّا قليلًا؛ لأنّ كلّ واحد منهما يريد أن يكون المؤذّن، ولا يريد أحد أن يكون جماعة المصلّين أو المئذنة".

وعلى الرغم من هذا المشهد، لم تَلُحْ لابن رشد معاني المفهومَين اليونانيَّيْن؛ لتنتهي القصّة بعد ذلك بخيبة ابن رشد في الوصول إلى المعنى، وخيبة بورخيس في كتابة تلك اللحظة (كما يقول بنفسه).

 

المعاني مطروحة في الطريق

لم تتطلّب القصّة من بورخيس ليكتبها، سوى الإيمان بابن رشد، أو تصديق ما يخبره به الخيال الّذي دفعه إلى الكتابة. وكذلك فإنّ قصّة بورخيس تدفع قارئها إلى الإيمان بلحظة بورخيس مع قصّة ابن رشد؛ فتدفعه إلى تخيّل خيبة بورخيس في ترجمة عالَم ابن رشد، وخيبة عدم القدرة على ترجمة لحظة بورخيس نفسها عند القارئ، الّتي لا تتحقّق إلّا بالإيمان ببورخيس؛ أي بالإيمان بقصّته، بقراءتها. هذا الفعل الدائريّ التأثير ينشأ في نَفْس السامع، وكأنّه ما يمكن اللغة أن تفعل؛ أي ما يمكن الرافعة التخييليّة أن تفعل.

كانت قصّة ابن رشد مع مفهومَي التراجيديا والكوميديا رافعة تخييليّة لبورخيس الّذي سيكتب لنا قصّة عن هذه القصّة، وسيستخدم فيها عددًا من العناصر الرافعة الّتي يمكن للقارئ ملاحظتها بسهولة. لتتحوّل بذلك إلى رافعة مؤثّرة في نفس القارئ، وتلدغه فتوقظ فيه الرغبة والحواسّ. هذا ما قام به خليل صويلح أيضًا في قصّته عن المرشد السياحيّ، متمّمًا دوره على أكمل وجه، مرشدًا سرديًّا.

يختتم صويلح كتابه باقتباس للجاحظ، أختم به مقالي، من كتاب «البيان والتبيين»، حيث يقول: "المعاني مطروحة في الطريق، وإنّما الشأن في تخيّر اللفظ، وصحّة الطبع، وكثرة الماء، وجودة السبك".

 


إحالات

[1] يوسف الإدريسيّ، التخييل والشعر حفريّات في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة، (بيروت: منشورات ضفاف، ط1، 2012) 158.

[2] مرجع سابق، ص 89.

[3] مرجع سابق، ص 165.

 


 

موفّق الحجّار

 

 

 

شاعر وكاتب سوريّ، حاصل على ماجستير في الأدب المقارن من «معهد الدوحة للدراسات العليا».

 

 

 

التعليقات