27/09/2023 - 20:00

الكنز المدفون من مجلّات السجون... الشهيد موسى حنفي

الكنز المدفون من مجلّات السجون... الشهيد موسى حنفي

الشهيد موسى حنفي (1963 - 1987) إلى اليسار، من صفحة «جامعة بير زيت» على «فيسبوك».

 

في صفحة «مكتبة بلديّة نابلس» على «فيسبوك»، لفتني دفتر مدرسيّ قديم، ظهر في طرف إحدى الصور الّتي نشرتها المكتبة لزيارة وفد من فلسطينيّي الأراضي المحتلّة عام 1948 للمكتبة، وتعرُّف أقسامها ومحتوياتها. بدا الدفتر كأنّه من زمن آخر، قبل أن أقرّب الصورة ليظهر لي العنوان: «مجلّة الشهيد موسى حنفي».

هذه المجلّات الّتي دُوِّنَت في أواسط الثمانينات ونهاياتها، وما سبقها من كتابات في السبعينات، كُتِبَت في ظلّ محاربة المحتوى الثقافيّ المنتج في السجن؛ من منع إدخال كتب، إلى مصادرة كرّاسات ومذكّرات وأوراق شخصيّة، وصولًا حتّى إلى انعدام القلم والورقة. لذا؛ لم يكن من اليسير الكتابة في داخل السجون، والعمليّة الأصعب هي نقل ما وُثِّق وكُتِب إلى الخارج، سواء لطباعته أو الاحتفاظ به.

 

الكبسولة

في تلك الفترة، لجأ الأسرى إلى شبه المستحيل ليحصلوا على القلم؛ فكان أوّل ما هرّبوه أنبوبة القلم، عبر زيارات شحيحة ومقيّدة لـ «اللجنة الدوليّة للصليب الأحمر»، أو المحامي، أو الأهل؛ لتدور الأنبوبة الرفيعة بين الأقسام، في ما كان بديل الورق هو الأغلفة الفضّيّة الّتي تغلّف السجائر، وأغطية علب اللبن، وكراتين معجون الأسنان، وصابون الحلاقة، والخبز[1].

الكبسولة ورقة صغيرة مكتوبة بخطّ رفيع ودقيق، يكون تغليفها بنايلون وتُبْلَع، ثمّ إخراجها لحظة تنقّلات السجين بين السجون أو الأقسام أو تحرّره...

في كتاب «كباسيل» (2022)، يروي الصحافيّ والمحرّر عمر نزّال: "طورِدَت أنابيب الأقلام كما تُطارَد العبوّات الناسفة!". سيُرْوى الكثير من قصص تهريب القصاصات عبر أوّل وأهمّ وسيلة تهريب عرفتها سجون الاحتلال، أي الكبسولة، الّتي ما زالت قائمة حتّى اليوم؛ إذ لا غنى عنها لإخراج رسالة أو مخطوطة أو نشرة حزبيّة أو تعميم داخليّ، ولها مهمّتان: الأولى داخل أقسام السجن الواحد أو نقلها إلى سجون أخرى، في ما الثانية: نقلها إلى خارج حدود أسوار السجن، وتحرّرها من خلف القضبان.

والكبسولة ورقة صغيرة مكتوبة بخطّ رفيع ودقيق، يكون تغليفها بنايلون وتُبْلَع، ثمّ إخراجها لحظة تنقّلات السجين بين السجون أو الأقسام أو تحرّره، وخرجت بواسطتها إلى خارج حدود السجن عشرات الإصدارات وآلاف الرسائل[2].

 

بأسماء الشهداء

وُلِدت «مجلّة الشهيد موسى حنفي» في «سجن جنيد» شمال نابلس، في أعوام 1989-1991، دون وجود اسم أسير واحد ولو حركيًّا على صفحاتها؛ لخطورة العمل الثقافيّ وقتذاك.

في البدء، توجّهتُ إلى موظّف «الأرشيف» للاستفسار منه عن موقع المجلّة في رفوف المكتبة، فكان ردّه: "لم أسمع بها من قبل"؛ لأستخرج صورة الكرّاسات من هاتفي النقّال، وأُثبت وجودها، وأمام إلحاحي على تفقّدها، أخذني إلى غرفة صغيرة تُسْتخدَم مخزنًا، حيث عثرنا عليها في صندوق بلاستيكيّ أزرق، ودون إذن منه رحت أتناولها عددًا عددًا، أمام دهشة الموظّف الّذي اعتقد أنّ والدي – الّذي لم يجرّب السجون - ربّما يكون قد كتب فيها، أو أنّ لي شيئًا ضائعًا منذ زمن طويل، وها أنا قد عثرت عليه.

كانت المساهمات تُوَقَّع بأسماء شهداء قادة في العمل النضاليّ على الأرض، ومعظمهم من أولئك الّذين إمّا أن تكون معرفتنا بهم سطحيّة وإمّا أنّ الزمن يحاول محوهم، وذلك بفعل التغيّرات الكبيرة، الّتي حدثت في السنوات الأخيرة على خطّ الكتابات الثوريّة، والعناية بسير الشهداء. من تلك الأسماء الّتي وُجِدَت في «مجلّة الشهيد موسى حنفي»: خليّة الشهيد كمال عدوان، وخليّة الشهيد باجس أبو عطوان، وخليّة الشهيد أبي يوسف النجّار.

 

ماذا قرأ الأسرى؟ 

وعلى عكس معظم المجلّات الأدبيّة والسياسيّة في العالم، كانت مجلّات السجون بلا أسماء. كان التعميم على الصفحة الأولى: "نرجو قراءتها حال وصولها إلى الخليّة". وكانت أقسام السجون في تلك المرحلة وأنشطته الوطنيّة، والرياضيّة، والدينيّة، والأدبيّة، تحمل أسماء الشهداء، فحمل القسم الّذي وُلِدَت فيه «مجلّة الشهيد موسى حنفي» اسم: «قسم الشهيد أحمد موسى سلامة».

 

إعلان نعي الشهيد موسى حنفي، من قبل الحركة الطلّابيّة في جامعة بير زيت، 1987.

 

واكبت المجلّة السياسة والأدب والفنون والرياضة والاقتصاد والزراعة، وغيرها من أشكال الاهتمامات العامّة، لكنّ خطّها الأساسيّ ظلّ الالتزام بكونها كتابات وطنيّة، واهتمامات في الشأن الاعتقاليّ، وما يرافقه من قضايا التحقيق والصمود والكتمان والمراوغة، والإحاطة بجغرافيّة فلسطين، والشهداء والثورات، والشعر الوطنيّ، والقصّة الكفاحيّة؛ فاختارت في أعداد معيّنة عددًا خاصًّا، كما فعلت في ذكرى انطلاقة «فتح»، الّتي كان من مواضيعها: "لماذا حرب التحرير الشعبيّة؟"، و"المواجهة خلف القضبان جولة من جولات الصراع". واحتوت زاوية خاصّة تحت اسم "مشاعل على الدرب"، وذلك للتعريف في كلّ عدد بأحد الشهداء.

انتقلت المجلّة قليلًا من الجدّيّة والحدّيّة والجمود في صفحاتها في الأعداد الأولى، الّتي حملت مواضيع ثابتة مثل الزاوية الفلسفيّة الموضوعيّة في واقع الأسر، إلى أن نلتقي الزاوية الثقافيّة؛ الزاوية الأدبيّة؛ الزاوية الإداريّة، لتحمل في أعداد تالية محتويات مثل: "السقوط الأمنيّ ودوافعه"، "قصيدة القرية نبع الحبّ الكبير"، "لحظة من فضلك"، "الاقتصاد في واقع الاحتلال"، "اعرف وطنك"، "أخي الثائر: لحظة من فضلك"، "فرق الموت الصهيونيّة"، "حكم وأمثال"، "قواعد في العمل الثوريّ"، مسابقات ثقافيّة وفائزين وجوائز رمزيّة. وإلى جانب الموادّ الاعتقاليّة والسياسيّة والمواهب الأدبيّة، حضر الفنّ التشكيليّ في «مجلّة الشهيد موسى حنفي»، حيث خُصِّصَت زوايا للرسومات، وكان الفنّ نافذة مهمّة نفسيًّا لتعبيرات الأسرى وتطلّعاتهم إلى الحرّيّة، فكثرت في رسوماتهم الأشكال والألوان للعصفور، والشمس، والأسلاك الشائكة، وزرد السلاسل.

 

تاريخ مجلّات السجون

أصدر الأسرى العديد من المجلّات الأدبيّة والسياسيّة، منها: «القدس» في  «سجن بئر السبع» (1979)، «الهدف الأدبيّ» في «سجن عسقلان» (1981)، «الصمود الأدبيّ» في «سجن عسقلان» (1986)، «صدى نفحة» في «سجن نفحة» (1989)، «إبداع نفحة» في «سجن نفحة» (1990) – وهي المجلّة الوحيدة الّتي طُبِعَت في كتاب في الخارج، وموجودة اليوم في مكتبات جامعيّة عدّة وبخطّ اليد، «النهضة» و«راية الشعب» في  «سجن عسقلان»، «الشهيد موسى حنفي» في «سجن جنيد» نهايات الثمانينات.

في السنوات الأخيرة، تلاشت مجلّات السجون، خاصّة ما بعد منتصف التسعينات، لكن لم يخفت الوهج الثقافيّ في داخل الأسر، إنّما انتقل من العمل الجماعيّ إلى العمل الفرديّ، فانتشر الكتّاب والشعراء والروائيّون خلف القضبان، وتنوّعت إصداراتهم بين السياسة والتاريخ والفكر والدين والحبّ، وخرجت دواوين الشعر تحوي أبيات الغزل والحنين والطفولة والألم، إلى جانب الفخر بالنفس والحلم بالحرّيّة، في ما تحوّل «سجن هداريم» إلى جامعة تمنح درجات البكالوريوس والماجستير، وهو ما عُرِف بـ «ثورة النور في هداريم».

اعْتُبِر «سجن عسقلان» الّذي افتُتِح في عام 1969، النواة الأولى للحياة الثقافيّة في السجون، وفي وقت لاحق شكّل «سجن بئر السبع» ثقلًا ثقافيًّا، تلاهما «سجن نفحة»، الّذي افْتُتِح في عام 1980 عقابًا للقيادات والنخب، وإذ به يتحوّل إلى قلعة فكريّة.

اعْتُبِر «سجن عسقلان» الّذي افتُتِح في عام 1969، النواة الأولى للحياة الثقافيّة في السجون، وفي وقت لاحق شكّل «سجن بئر السبع» ثقلًا ثقافيًّا...

وحتّى بدايات السبعينات، لم يكن ثمّة أيّ مكتبة في السجون، في ما شكّلت إضرابات «سجن عسقلان» في أعوام 1970، 1973، 1976، 1977 الضاغط الأكبر على إدارة «مصلحة السجون» لتحسين الحالة الثقافيّة؛ بالسماح بإدخال القرطاسيّة والكتب، فكانت أوّل مكتبة بدائيّة في السجن عام 1972، قبل أن يتسلّم الأسرى الأمور في نهايات السبعينات، تحديدًا عام 1979، وحيث سُمِح فيه إدخال كتاب واحد شهريًّا، فبدؤوا بتأسيس مكتبات في كلّ السجون، بعد أن كان اعتمادهم منذ عام 1967 حتّى نهايات السبعينات على كتابين – بلا قيمة فكريّة - تختارهما الإدارة وتوزّعهما لمدّة أسبوعين على كلّ غرفة. في ما فرضت الإدارة من 1967–1985 تشغيل الراديو عبر مكبّرات الصوت على محطّة «الإذاعة الإسرائيليّة» لساعتين، تبثّ فيهما نشرتَي أخبار وأغنية لأمّ كلثوم، في ما الصحيفة الوحيدة المسموح تصفّحها هي «الأنباء» الناطقة باسم الاستعمار، وترافق معها إحضار محاضرين من الجامعات العبريّة لصهر وعي الأسير.

 

موسى حنفى... شهيد العَلَمْ 

موسى حنفي، المولود في عام 1963، استشهد وهو يحمل علم فلسطين على مدخل «جامعة بير زيت» في 13 نيسان (أبريل) 1987، خلال قمع جنود الاستعمار إحدى الفعاليّات الوطنيّة للطلبة. كان في عامه الدراسيّ الأخير، متفوّقًا في تخصّص التاريخ والعلوم السياسيّة. ولتهريب جثمانه قصّة أسطوريّة؛ إذ وُضِع بين شابّين في سيّارة خاصّة، كان لا بدّ من أن تمرّ عبر حاجز للجنود على مدخل «جامعة بير زيت»، فغُطِّي الجرح والدماء بكوفيّة، ووُضِعَت نظّارات شمسيّة على عينيه، وأُسْنِد على كتف آخر مجاور في المقعد، وادُّعي أنّه مريض ونائم، وكذا خلال عبوره «حاجز إيرز»، في رحلة استغرقت عشر ساعات حتّى وصوله رفح، في ما طوّق جنود الاستعمار منزله، وحاولوا مرّات عدّة اقتحامه وسرقة الجثمان، ونتج عن المحاولات سبع إصابات بالرصاص، لكنّ الجماهير الغاضبة نجحت في الاحتفاظ بالجثمان وتشييعه.

وقبل أسابيع، رحلت في مخيّم الشابورة برفح الحاجّة فاطمة حنفي، والدة الشهيد موسى؛ رحلت محتفظة ب ’كمشات‘ من التراب الّذي سقاه بدمه، بعد أن سمعت خبر استشهاده وهي تمرّ ببسطة خضار في رفح؛ لتتّجه مباشرة إلى «جامعة بير زيت»، قبل أن تكتشف فور وصولها الجامعة تهريب جثمانه إلى غزّة. فاطمة، ومنذ استشهاده قبل 36 عامًا، تصلّي صلاتين، عنها وعن ابنها الشهيد، وإلى جانب التراب المجبول بدمه احتفظت بالملابس الّتي استشهد فيها، وبالغطاء الّذي لُفّ به جسده، وتحتفظ بملابسه وأشيائه الشخصيّة، وترتّبها كما لو أنّه سيعود إليها.

 

 

وفي واحدة من أكثر الأغاني إثارة للمشاعر الوطنيّة والدموع، حتّى أنّ المغنّي يبكي خلالها مرّات عدّة، أغنية «وقفوا صفوف صفوفي»، المهداة إلى روح الشهيد موسى حنفي، وهي من كلمات إبراهيم المزيّن، يقف عبد المنعم عدوان على المسرح، ويغنّي:

"وقّفوا صفوف صفوفي

وسحّجوا على الكفوفي

إجت إمّه

يا عزيزة يا مغندرة

يا دمعة يا سكّرة

عريسنا مبدّر عَ وين

عريسنا بغفّي العين

 

إمّه ردّي يا إمّه

ليش الورد ملثّم ع ثمّه

والحديد على كتفه

ما همّه ما همّه

مع الندى طالع

طالع لحاله

قزولوا خواله

تَ يلفّوا

يلمّوا جماله".

 

 


إحالات

[1] يامن نوباني، الأسرى ... من تفكيك الحَرف إلى الإبداع الأدبيّ وشهادة الماجستير، وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينيّة (وفا). 

[2] المصدر السابق: "قد كلّف وجود قلم وورقة بيد الأسير الفلسطينيّ في معتقلات الاستعمار الإسرائيليّ بعد عام 1967، دماء شهداء وارتقاءهم في زنازين السجون وساحاتها، وأمراضًا سلبتهم عافيتهم، وغيّرت حياتهم الطبيعيّة، بعد معارك طويلة خاضوها بأمعائهم الخاوية. بعد الإضراب الجماعيّ الرابع عن الطعام في تمّوز (يوليو) عام 1970، الّذي استشهد في يومه السابع عبد القادر أبو الفحم، سمحت إدارة سجون الاحتلال بإدخال الأقلام والدفاتر وبعض الكتب، عبر «اللجنة الدوليّة للصليب الأحمر»، لكن بتقييدات معقّدة، أغربها توزيعها صباحًا، وإعادتها مساء، في ما قيّدت تبادل الرسائل مع ذويهم عبر بطاقات من «الصليب الأحمر» محدّدة بخمسة أسطر فقط.

 


 

يامن نوباني

 

 

 

كاتب وطالب ماجستير «دراسات ثقافيّة ونقديّة» في «جامعة بير زيت». يكتب في عدّة مجلّات منها «شؤون فلسطينيّة» و«الدراسات الفلسطينيّة»، وصحافيّ في الشأن الثقافيّ منذ عام 2014 في «وكالة وفا».

 

 

التعليقات