04/10/2023 - 15:00

السدّ العربيّ... من مأرب إلى درنة

السدّ العربيّ... من مأرب إلى درنة

من مدينة درنة الليبيّة بعد انهيار سدّها | أ ف ب

 

ربّما لم تعرف ليبيا ملمّة في تاريخها الحديث مثل الملمّة والكارثة الّتي حلّت بها الشهر الماضي؛ بانهيار «سدّ درنة» بشقّيه، على إثر «إعصار دانيال» الّذي ضرب ساحلها قادمًا من اليونان؛ وهو ما أفضى إلى فيضانات دفعت بمياه السدّ إلى المدينة جارفةً إيّاها إلى البحر، ومخلّفة آلاف الضحايا والمفقودين، ومئات البيوت الّتي جاء الماء عليها جرفًا.

لم نكن نعرف عن «سدّ درنة» الكثير، وبعضنا لم يسمع به أصلًا قبل انهياره، فقد وقعت سدود حجز الماء العربيّة من ذاكرتنا في ظلّ انهيار بعض الدول العربيّة ذاتها. كان آخر سدّ شغل المخيال السياسيّ والقوميّ العربيّين في التاريخ الحديث هو «السدّ العالي» وبناؤه في زمن مصر الناصريّة، الّذي لا تزال إسرائيل تهدّد أمن مصر به إلى يومنا. ظلّت حكاية بناء «السدّ العالي» في المخيال السياسيّ العربيّ مشبوكة منذ خمسينات القرن الماضي بمشروع وحدة الأمّة وطريقها المسدود، فضلًا على انكشافنا على موقف الولايات المتّحدة الأمريكيّة المعادي للأمّة والمنطقة، الّذي بدأ من عند «السدّ العالي»، ورفضها دعمه لأنّها ترفض كلّ المشروع السياسيّ الناصريّ. لم يكن بناء «السدّ العالي» مجرّد توجيه وحجز لمياه نهر النيل، بقدر ما كان بمنزلة تغيير في مصير مصر وشعبها بأكمله، حيث حوّل السدّ مصر من دولة محكومة لنهر النيل إلى أمّة متحكّمة فيه.

حدث انهيار «سدّ درنة» في ليبيا يعيدنا إلى حكاية انهيار أوّل سدّ في ذاكرة العرب النائية، ليس بوصف الانهيار مأساة فقط، إنّما بوصفه لحظة زمنيّة فارقة للبعث وإعادة التشكيل، كان ذلك السدّ هو «سدّ مأرب».

 

مأرب... السدّ والمعبد

وبالربوةِ الخضراءِ مِنْ أرضِ يَحْصُبٍ

ثمـانـونَ سَـدًّا تَقْـذِفُ الـمـاءَ ســائـلا

يُنْسَب هذا البيت إلى حاكم يمنيّ قبل الإسلام، أشار فيه إلى كثرة سدود حجز الماء في يَحْصُب في اليمن، حيث قلّة الأنهار في جنوب الجزيرة العربيّة. دفع ذلك إلى تطوير نظام الريّ هناك، خاصّة أنّ عرب الجنوب مثل السبئيّين، وشعوب أخرى مثل: مَعين وقَتَبان والحضرميّين ثمّ الحِمْيَرِيّين كذلك، قد عرفوا الاستقرار، وتثقيف الأرض، وبناء مدن محصّنة وجِنان ريفيّة، منذ مراحل مبكّرة قبل الإسلام؛ وهو الأمر الّذي طوّر لديهم ثقافة حجز الماء وتوجيهه عبر سدود ضخمة، كان من بينها وأشهرها «سدّ مأرب».  

ممّا ترويه الوقائع التاريخيّة أنّ «سدّ مأرب» كان من المعجزات المعماريّة الّتي بناها السبئيّون العرب في اليمن قبل الإسلام، وذلك في الألف سنة الأخيرة قبل الميلاد؛ فقد بُنِي السدّ على مراحل إلى أن اكتمل على شكله النهائيّ عند انهياره في القرن السادس قبل الميلاد. وقد صُمِّم «سدّ مأرب» لتحويل مياه الأمطار النازلة من الجبال وتوزيعها؛ للحدّ الّذي صار فيه واحدًا من أعظم أعمال الهندسة المدنيّة في تاريخ البشريّة بحسب تيم ماكنتوش-سميث[1]. ومن عظمة هذا السدّ أن جاء على ذكره القرآن الكريم، وانهياره بـ "سيل العَرم"[2]، كما أشار القرآن إلى ’جنّتيه‘ بما شكّلتاه من رواسب طمي من حوله، بلغت مساحتهما ما يزيد على 9600 هكتار في مداهما الأوسع.

«سدّ مأرب» كان من المعجزات المعماريّة الّتي بناها السبئيّون العرب في اليمن قبل الإسلام، وذلك في الألف سنة الأخيرة قبل الميلاد...

لم تكن مأرب السبئيّة تُعْرَف بسدّها فقط، إنّما بمعبدها «معبد أوام» أو «بيت المَقَة»، الّذي كان بمنزلة حرم بيضاويّ الشكل، يضمّ مزارات تؤمّه القبائل العربيّة - الجنوبيّة حجًّا في صيف كلّ عام في شهر أبهي، الّذي يناسب حضارة مائيّة مثل حضارة السبئيّين؛ لأنّه يصادف موسم الأمطار الصيفيّة. وقد فُرِضَتْ على حجّاج «معبد أوام» شروط، مثل ارتداء ثياب بعينها، والامتناع عن الجنس والقتال، مثلما كان الحجّ في شمال الجزيرة العربيّة. وممّا يُذْكَر أنّ الحجّ إلى مأرب كان يُشْترَط فيه ذبح سبعمئة خروف في كلّ يوم من يومَي الحجّ، ومن طقوس حجّ مأرب أيضًا إذا أراد الحجيج ذبح جمل في مأرب فعليهم ركوبه بلطف إلى هناك، وهي نصيحة تكرّرت لاحقًا مع الإسلام في أداء مناسك الحجّ.

 

أسنان الجرذ والكاهنة طريفة

إذا كان سدّ مأرب بمنزلة معجزة في بنائه، فإنّ لانهياره حكاية ظلّت تتقاذفها الحقيقة والأسطورة معًا، والواقع والمجاز في آن، إلى الحدّ الّذي صارت فيه حكاية انهيار سدّ أشبه بملحمة شعبيّة متجوّلة تتقاطعها طرق الحقائق والخيال، كما لو أنّها أوديسة عربيّة. لم تغفل المصادر التاريخيّة العربيّة عن الأسباب الطبيعيّة لانهيار «سدّ مأرب»، تلك المتعلّقة بتراكم الطمي، وإهمال حكّام مملكة سبأ عن أعمال صيانة السدّ ومشاكله، الّتي تراكمت على مدار 300 عام قبل انهياره.

ومع ذلك، فقد كانت رواية عن دور الجرذان في هدم السدّ من أشهر الروايات التاريخيّة المجازيّة، الّتي تناقلتها المصادر، حيث يُذْكَر أنّ الجرذان قد كثرت في مملكة سبأ، إلى الحدّ الّذي وضع فيه حكّام المملكة هِبات وجوائز لقتل الفئران، الّتي تسبّبت لاحقًا بانهيار السدّ؛ إذ ظلّت تنهش فيه وتزحزح حجارته إلى أن انهار، وتسبّب بتلك الكارثة التاريخيّة.

غير أنّ حكاية الفئران تظلّ استعارة مجازيّة لدور ’القوارض البشريّة‘، في ترهّل مملكة سبأ ذاتها، وانهيار نُظُم الإدارة فيها؛ ما أدّى إلى انهيار السدّ؛ فقد تكالبت القوى الأجنبيّة الغازيّة على سبأ المملكة، مثل الفُرس والإثيوبيّين خلال القرن السادس للميلاد. فضلًا على قبائل البدو والأعراب الّذين تسلّلوا إلى جسد المملكة، وأخذوا في نهشه على مدار قرنين من الزمن، إلى أن تمكّنوا عبر طرائقهم القبليّة من الحكم، وبالتالي القضاء على الهياكل المدنيّة – الحضريّة للدولة السبئيّة في اليمن.

يُذْكَر أنّ الجرذان قد كثرت في مملكة سبأ، إلى الحدّ الّذي وضع فيه حكّام المملكة هِبات وجوائز لقتل الفئران، الّتي تسبّبت لاحقًا بانهيار السدّ...

من أبرز الشخصيّات التاريخيّة الّتي ارتبطت بحكاية مأرب وانهيار سدّها، كاهنة أو عرّافة كانت تُدْعى ’طريفة‘، يُقال إنّها قادت بنفسها هجرة قومها من بني غسّان، بعد حلم رأت فيه انهيار السدّ، فنبّهت زعيم قومها إلى الرحيل. اعتبر بعض الإخباريّين الأوائل في الإسلام تلك النبوءة الّتي استندت إلى رؤيا غيبيّة بمنزلة مقدّمة لطيّ مرحلة من تاريخ العرب الجنوبيّين، انتهت بنبوءة طريفة وانهيار السدّ، وبدء مرحلة جديدة من تاريخ العرب في شمال الجزيرة العربيّة، بظهور النبيّ محمّد والدعوة إلى الإسلام.

 

مرحلة تأسيسيّة

ظلّ هناك مقاربات عدّة لتفسير انهيار «سدّ مأرب»، بوصفه نقطة فاصلة بين مرحلتين من تاريخ العرب، أهمّ تلك المقاربات المقاربة الإسلاميّة وفق ما ورد في القرآن الكريم عن انهيار السدّ على أنّه عقاب إلهيّ: "فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العَرمِ وبدّلنهم بجنّتيهم جنّتين ذواتَي أُكُلٍ خمطٍ وأُثلٍ وشيءٍ من سدرٍ قليل"[3].

كما أنّ هناك مقاربة خلدونيّة - وفق مقدّمة ابن خلدون – عن تمكّن القبليّة (البداوة) وأثرها في انهيار الحضارة، وظلّت هذه المقاربة واحدة من أبرز الأطر التفسيريّة لتآكل بنية دولة المملكة السبئيّة في اليمن، الّتي تحوّلت من الازدهار إلى الانهيار بانهيار السدّ.

ظلّت قصّة انهيار «سدّ مأرب» حاضرة يُعاد سردها في ذاكرة العرب، عبر النصوص المقدّسة والشعر والنثر والحكايات الشعبيّة، ليس لأنّها مأساة على طريقة الكارثة الطبيعيّة، إِنّما لأنّها مرحلة تأسيسيّة في الذاكرة الحضاريّة العربيّة – الإسلاميّة، بما ترتّب على انهيار السدّ من انهيار لكلّ ما قبل إسلاميّ، وهجرة القبائل العربيّة الجنوبيّة إلى شمال الجزيرة، الّتي ستحمل لاحقًا بدورها لواء الإسلام، بما يعنيه الإسلام من انتزاع بطاقة حضور حضاريّ للعرب، ودورهم في الحضارة البشريّة.

وفي الوقت نفسه، تقدّم حكاية انهيار سدّ مأرب صورة عن سجلّ الإرث الحضاريّ في جنوب الجزيرة العربيّة قبل الإسلام، الّذي يناقض ما حاولت بعض المصادر الإسلاميّة قوله لاحقًا عن ’جاهليّة العرب‘، إذ عرف الجنوب تجربة مدنيّة مزدهرة امتدّت قرونًا من البناء والعمران والتأسيس، بما فيه «سدّ مأرب» نفسه. 

 


إحالات

[1] تيم ماكنتوش سميث، عرب 3000 سنة: من تاريخ شعوب وقبائل وإمبراطوريّات، ترجمة: عامر شيخوني، (بيروت: دار جسور للترجمة والنشر، 2023)، ص 102 – 105.

[2] القرآن الكريم، "سورة سبأ"، الآيات 15- 19.

[3] القرآن الكريم، "سورة سبأ"، الآية 16.

 


 

علي حبيب الله

 

 

 

باحث في العلوم الاجتماعيّة، حاصل على ماجستير فلسفة التاريخ من «الجامعة الأردنيّة»، وماجستير في الدراسات العربيّة المعاصرة من «جامعة بير زيت». يعمل في مجال الاستكمال التربويّ في القدس.

 

 

التعليقات