04/11/2023 - 13:10

وجوهنا محتوًى حسّاس

وجوهنا محتوًى حسّاس

فلسطينيّ وسط ركام منزله من أثر الحرب الإسرائيليّة على غززّة، 2021 | Getty.

 

العالم يستمرّ بالركض، ونحن أيضًا. لكنّنا نموت مع أهلنا الميّتين، الّذين نراهم كلّ يوم يرحلون. العالم يستمرّ في الركض، بل إنّه يعاقب مَنْ يتوقّف. العالم لا يريد لنا أن نتوقّف لنبكي، ولا أن نشعر بالحزن أو بالخزي أو بالمجزرة. العالم يريد أن يتحرّك نحو هاويته الحضاريّة بدون هوادة.

العالم، يخشى علينا من التوقّف، يخشى علينا من الصدمة، ومن رؤية المحتوى الحسّاس، يحمينا من رؤية الأطفال المشوّهة، والرؤوس المقتلعة، من رؤية عيون الأطفال المفقوءة، ومن أشلاء الناس العاديّين. يحمينا من الجلد البشريّ الّذي لم يستطع أن ينجو ليوم آخر، من كوابيس الموت، والمشاهد الّتي لا تُنْسى. ونحن أبناء المحتوى الحسّاس - الّذين دفنّا بلادنا الميّتة بأيدينا، وركضنا بين جثث أهلنا في الشارع، وشربنا الشاي أمام رصاص حيّ، وبكينا مع أغنية الشهيد - نحن أبطال المحتوى الحسّاس، لا نفهم العالم أبدًا في كلّ هذا.

 

هل يروننا؟ 

يأتي صوت المرأة الغزّاويّة الخائفة، الّتي لا طاقة لها، والدمع قد أحاط بكلامها؛ ليسألنا سؤالًا حزينًا واحدًا: "عنجد بيشوفونا همّه؟ عنجد؟ بدنا نعرف إذا همّه شايفينّا أو لا؟". ويذكّرني بصوت القهر، صوتها المختنق بركام العجز، صوتها الغاضب المحتقن بالأسى؛ الأسى الّذي كنّا نشعر به في سوريا، في العراق، في اليمن، في لبنان، ونسأل كلّ يوم، هل يرانا العالم؟ هل يرى ما يحدث؟

العالم قرّر، قرّر لنا ولغيرنا أن يخفي وجوهنا كلّنا، ووجوه أهل غزّة خاصّة؛ ليصبحوا الفريق الآخر كما يقول الرئيس الأمريكيّ بايدن (...) لكي يصبحوا ’مدنيّين‘...

العالم قرّر، قرّر لنا ولغيرنا أن يخفي وجوهنا كلّنا، ووجوه أهل غزّة خاصّة؛ ليصبحوا الفريق الآخر كما يقول الرئيس الأمريكيّ بايدن، أو الآخرين كما يكتب أوباما، الرئيس الأمريكيّ السابق، في تأمّلاته عن المجزرة؛ لكي يصبحوا ’مدنيّين‘، ويصبحوا مجرّد ضحايا، أو بشكل أكثر دقّة أضرارًا جانبيّة؛ فالعالم لا يحبّ الوجوه، ولا يحبّ تسميتها، ولا تسمية ألوانها، ولهذا يجمعنا كلّ الشعوب الملوّنة. العالم يخشى الوجوه، وخاصّة - على ما يبدو - وجوهنا؛ أي جميع الوجوه المضطهدَة.

العالم يحبّ وجوه ضحايا المهرجان الموسيقيّ، حتّى وإن كان كثر منهم جنودًا فاعلين أو في الاحتياط كما تفيد روايات، لكنّه لا يحبّ وجه يوسف، أو وجه أصدقائه، لا يريد أن يرى وجه وائل، أو وجه يارا، أو وجه معتزّ. يريد أن يرى وجه كلب تائه في غلاف غزّة، ولا يريد أن يرى وجه طفل يرتعش خوفًا، وآخر يتمنّى لو أنّ حياته حلم؛ فلماذا يخاف العالم من الوجه؟

 

هل نراهم؟ 

إنّ غياب الوجوه أو تغييبها الإعلاميّ دائمًا، هو واحد من الممارسات الّتي تساعد على أنسنة الجريمة؛ فغياب وجوه الضحايا يجعلهم مجرّد أجساد قابلة للتشظّي، يُسْمَح بتفجيرها. أجساد راضية بالموت تحت الركام، مجرّد أجساد تجسّد أيديولوجيا مضادّة لنا. ولذلك؛ لا بدّ من تغييب وجوه الضحايا في سيرورة تشييء الضحيّة، ونزع إنسانيّتها عنها. هذه العمليّة المستمرّة بكلّ أشكالها، عبر الخطاب، والصوت (اللغة واللحن)، والصورة بتغييبها أو حضورها بشكل مضلّل.

وعليه؛ فإنّ غياب وجوه ضحايا غزّة أو إخفاءها حفاظًا على مشاعر المشاهد الإنسانيّة، هو بالضرورة انتزاع لإنسانيّة الضحيّة، وتحويل لها من وجود متكامل، إلى جسد مادّيّ منتهي الصلاحيّة. وفي ذلك تقليل من العبء الأخلاقيّ في النظر إلى ضحايا العالم. وهكذا تصبح الضحيّة لا مجرّد رقم بل مجرّد جسد بلا وجه؛ أي بلا ذات، وبلا حياة.

"إنّ الآخر وجه، وهو مَنْ يحرّرني من أنانيّتي، إنّه يسائل نظرتي إليه، وعبر ذلك فكرتي عنه، إنّه مقاومة"، هكذا يشكّل المفكّر الفرنسيّ اليهوديّ الأصل، إيمانويل ليفيناس الّذي لم ينجُ من فخّ السياسة والأخلاق في موقفه من إسرائيل، نظريّته الأخلاقيّة في تفكيره في الآخر. إذ يرى أنّ الآخر سيفتح وعيه، ويُقلق راحته الأنانيّة، وسلطته على الزمن، وبالتالي يكون وجه الآخر بهذا المعنى مقاومة أخلاقيّة، ومقاومة ضدّ الفهم الّذي يهدف إلى صهر الآخر، ويطلب السيطرة عليه، وهي طبعًا مقاومة مستمرّة استمرار الوجه في الحياة.

الوجه ليس مجرّد جزء من جسد، بل هو لغة وجود تطالب وتنادي، وتسائل حرّيّتنا وعلاقتنا بها...

ومن هنا، فإنّ الوجه ليس مجرّد جزء من جسد، بل هو لغة وجود تطالب وتنادي، وتسائل حرّيّتنا وعلاقتنا بها[1]. وهنا بالطبع، نتحدّث عن الوجه بشكل عامّ؛ عن أيّ وجه، وعن آخر قد يكون معنا في البيت نفسه؛ فكيف لو كانت هذه الوجوه وجوهًا لأهل غزّة؟ كيف لو كانت وجوه ضحايا الإبادة الممنهجة؟ كيف سيسمح العدوّ للوجوه أن تُرى؟ وكلّ وجه من وجوه هؤلاء الأطفال والرجال والنساء ليس إلّا وِزْرًا جديدًا يُضاف إلى أوزار العالم الأخلاقيّة؟ كيف سيسمح لنا أن نرى وجوههم، والوجه يبدأ كلّ خطاب، ويعطي الإمكانيّة لكلّ خطاب؟ كيف والوجه مصدر المعاني في هذا الصراع؟ وهو الّذي يلزمنا حين نواجهه بنزعة أخلاقيّة في التعامل معه[2].

إنّ للوجوه المقاوِمة قوّة أكبر ممّا نتخيّل، لوجوه الضحايا قوّة أكبر ممّا نتخيّل. لكلّ وجه إنسان، ولكلّ وجه صاحبِ حقّ، لكلّ الوجوه قوّتها في محاكمة الإنسانيّة جمعاء، ولها قوّتها في فرض الأسئلة الأخلاقيّة على الجمهور. ولذلك؛ سيحمينا العالم من وجوه الضحايا، ستحمي منصّات التواصل الاجتماعيّ - الّتي تنادي بحرّيّة صورة جسد الرجل والمرأة - ستحمي مستهلكيها من وجوه العدالة؛ من وجوه الحقّ، من وجوه الظلم، من وجوه المساءلة الأخلاقيّة، ستحميهم من مساءلة أنانيّتهم، ومن قلق العدالة أو خوف الظلم.

 


إحالات

[1]  للاطّلاع: رشيد بو طيب، نقد الحرّيّة مدخل إلى فلسفة إمانويل ليفيناس، (بيروت: منشورات ضفاف، 2018).

[2] غيضان السيّد علي، "الغيريّة والتجلّي المقدّس لوجه الآخر عند ليفيناس"، مؤمنون بلا حدود، آخر تحديث في 5/02/2022:  https://www.mominoun.com/pdf1/2018-06/lifinas.pdf

 


 

موفّق الحجّار

 

 

 

شاعر وكاتب سوريّ، حاصل على ماجستير في الأدب المقارن من «معهد الدوحة للدراسات العليا».

 

 

التعليقات