10/11/2023 - 10:30

القانون الدوليّ الّذي ليس لنا

القانون الدوليّ الّذي ليس لنا

جندي من قوّات الاستعمار الإسرائيليّ، 08/10/2023 | جلاء مرعي (Getty).

 

منذ أكثر من مئة عام والفلسطينيّ يدور راغبًا أو مُكرَهًا في رحى القانون الدوليّ، والمجتمع الدوليّ الّذي سلب منه أكثر ما أعطاه، مرّ خلالها مساره التحرّريّ وحقّه في تقرير مصيره على أرضه بمنعطفات كثيرة صعودًا ونزولًا. سقط الفعل مرارًا، وظلّ الشعار وحده قائمًا والفلسطينيّ يتلمّظ الحديد والنار. ما الّذي حدث في السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023 ليسقط حتّى الشعار؟

هذا المقال محاولة لفحص السبب الّذي يجعل القانون الدوليّ غير قادر ولا راغب في تحرير الفلسطينيّين، بل على العكس من ذلك، يؤدّي دورًا متقنًا، ليكون أداةً لتعميق معاناة الفلسطينيّين، وترسيخ المشروع الاستيطانيّ الاستعماريّ لإسرائيل.

 

في البدء كانت ’الدولانيّة‘

يختلف القانون الدوليّ في صورته الحاليّة، أي ما هو كائن، عن القانون الطبيعيّ، المبنيّ على قيم العدالة والمساواة قيمًا أخلاقيّة بحتة، أي ما يجب أن يكون؛ فقد انبثق القانون الدوليّ بمعناه التقليديّ من رحم تصارع القوى بين الممالك الأوروبّيّة، وتسابقها على التوسّع وضمّ الأراضي في العهد المعروف في العلاقات الدوليّة بـ ’العهد الوستفاليّ‘، الّذي يشير إلى «اتّفاقيّات ويستفاليا» لعام 1648؛ لإنهاء حرب طاحنة استمرّت ثلاثين عامًا بين الممالك الأوروبّيّة، وانتهت بتغيير وجه الجغرافيا والعلاقات الدوليّة الأوروبّيّة، وتكوين مجتمع دوليّ يعترف للدول بالسيادة، والملكيّة الحكريّة لاستخدام القوّة على أراضيها.

جاء النظام القانونيّ الدوليّ الحديث ابتداء لينظّم العلاقات بين تلك الشخصيّات الدوليّة الكلاسيكيّة، ضمن التعريف الغربيّ للدول ذات السيادة، وبنى جوهر وجوده على النظريّة الغربيّة لماهيّة الدولة، الّتي تُوِّجَت في «اتّفاقيّة مونتيفيديو» لعام 1933، الخاصّة بحقوق الدول وواجباتها. وفقًا لهذه النظريّة؛ فإنّ الدولة هي ما امتلكت الشعب، والإقليم المحدّد، والنظام السياسيّ الحاكم، والقدرة على الدخول في علاقات دوليّة ببقيّة أعضاء المجتمع الدوليّ. ثمّ أسّس القانون الدوليّ أدواته الحديثة لتكون متوافقة مع هذا المبدأ، ومتجاهلة، بل ناصبةً العداء لشخصيّات دوليّة أخرى، تخرج عن هذا التصوّر الغربيّ البحت؛ فقد نظرت إلى الحركات الانفصاليّة، والشعوب غير المنضوية تحت حكومات منظّمة بالمعنى الغربيّ وقوى التحرّر الوطنيّة، بوصفها تهديدًا للمعنى المعروف للدولة، بل مصدر "قلق غير قادر على الوقوف وحده في الظروف القاسية للعالم الحديث"، وتقع مسؤوليّة "رفاهيّته وتقدّمه كأمانة مقدّسة في عنق المدنيّة". هذا التعريف الاستشراقيّ للعلاقة بين الغرب/ الشمال والشرق/ الجنوب، الّذي نصّ عليه ميثاق «عصبة الأمم»، حَكَمَ، ولا يزال، دور القانون الدوليّ في النظام العالميّ.

نبثق القانون الدوليّ بمعناه التقليديّ من رحم تصارع القوى بين الممالك الأوروبّيّة، وتسابقها على التوسّع وضمّ الأراضي في العهد المعروف في العلاقات الدوليّة بـ ’العهد الوستفاليّ‘...

نظريّة الدولانيّة هذه لم تمنع إنشاء دولة يهوديّة من العدم، مفتقرة إلى كلّ المقوّمات المنصوص عليها، ولكنّها حالت دون دخول فلسطين إلى مضمار العلاقات الدوليّة المثمرة؛ فقد أُريقَت بحار من الحبر الصهيونيّ لإثبات عدم انطباقها على الأراضي الفلسطينيّة، بادّعاء عدم وجود سلطة سياسيّة منظّمة وحاكمة لهذه البلاد، قبل أن تنبثق إسرائيل من اللامكان. بعقليّة البلطجة الّتي يتعامل بها الغربيّ، عجز الفلسطينيّون طوال السبعين عامًا الماضية، بتاريخهم المتأصّل على أرضهم، عن إثبات صفة الدولانيّة على بساطتها وأساسيّتها في القانون الدوليّ؛ الأمر الّذي وضعها - ولا يزال - في موقع ضبابيّ وغير محدّد دوليًّا، وفتح الباب على مصراعيه للتلاعب بحقوق الشعب الفلسطينيّ، وقدرته ليس فقط على التمثيل والحضور والمشاركة والمظلوميّة، بل على الوجود أيضًا في أكثر صوره بداهة، من حقٍّ بالحياة الكريمة والحرّيّة والتملّك.

ورغم أنّ التحوّل النسبيّ في لغة القانون الدوليّ قد بدأ مع ستّينات القرن الماضي وسبعيناته، في ضوء حركات التحرّر من الاستعمار؛ إذ جرى تبنّي العهدين الدوليّين السياسيّ والمدنيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ لعام 1966، اللذين أكّدا حقّ تقرير المصير للشعوب الخاضعة للاستعمار، وأُلْحِقَتْ «اتّفاقيّات جنيف» الأربع ببروتوكولات تؤكّد دور حركات التحرّر، وحقّها في النضال بوصفها شخوصًا فاعلة في القانون الدوليّ، إلّا أنّ هذه الجهود طُوِّقَت وسُحِبَت في ثمانينات القرن الماضي وما بعدها، في دوّامة من السياسات النيوإمبرياليّة الّتي أعادتها إلى فلك النظام الدوليّ المعهود بشخوصه الغربيّة التقليديّة؛ لنعود ثانية إلى المربّع الأوّل بمناضلة فلسطين؛ لإثبات أنّها تشكّل فعلًا اللبنة الأولى للقانون الدوليّ.

 

نماذج استعماريّة وعلى المقاس: الاستثناء والخصوصيّة

إسرائيل، الدولة الشاذّة الّتي حصلت سريعًا على اعتراف ’دوليّ‘ بدولانيّتها وعضويّتها الكاملة في «منظّمة الأمم المتّحدة»؛ واجهة القانون الدوليّ وراعيته، لم تألُ جهدًا في أن تنضمّ إلى جوقته. ولأنّ القانون الاستعماريّ القائم ليس استعماريًّا بما يكفي؛ فقد عكفت إسرائيل على بناء نماذج قانونيّة خاصّة بها، وعلى مقاسها، تأخذ من قواعد القانون الدوليّ، بشقّيه العامّ والإنسانيّ، المطبَّق في حالات الحروب والنزاعات المسلّحة، تأخذ ما يناسبها، وتتحايل بقواعد الاستثناء والضرورة على ما لا يتّفق وممارستها وأطماعها التوسّعيّة؛ مستعينة بميزانيّات ضخمة، وجهود أساتذة وأكاديميّين إسرائيليّين وغربيّين، ومستغلّة في الآن ذاته ضبابيّة المصطلحات وطبيعة بعض القواعد الفضفاضة في القانون الدوليّ؛ وهو ما ساهم في خلق قانون استعماريّ موازٍ، في مقابل تمييع القانون الدوليّ بصورته المعهودة.

تركّز إسرائيل جهودها القانونيّة على خلق حالة من الاستثناء، نموذج قانونيّ فريد يناسب علاقتها غير المعهودة دولةً ذات سيادة تتّفق مع المنطلقات الإمبرياليّة البيضاء للقانون الدوليّ التقليديّ، مع شتات من الجمع الّذي يعيش دون سيادة ولا أرض واضحة الحدود، أي الفلسطينيّين. تعمل هذه الجهود جنبًا إلى جنب مع جهود سياسيّة ودبلوماسيّة تروّج لفكرة التاريخ اليهوديّ المتأصّل، والظرف الحاليّ الّذي يضع الديمقراطيّة الوحيدة في الشرق الأوسط وسط جوّ من العداء العامّ والمطبق.

تركّز إسرائيل جهودها القانونيّة على خلق حالة من الاستثناء، نموذج قانونيّ فريد يناسب علاقتها غير المعهودة كدولة ذات سيادة تتّفق مع المنطلقات الإمبرياليّة البيضاء للقانون الدوليّ التقليديّ...

يأتي إطار الاستثناء هذا من مصطلح ’النظام الخاصّ‘، الّذي أسّس له الاستعمار البريطانيّ في فلسطين، الّتي بالرغم من كون 90% من سكّانها هم من العرب، إلّا أنّ وعد اللورد بلفور في عام 1917 لليهود بإقامة وطن قوميّ لهم فيها، جعلها - بوصف بلفور نفسه - "حالة استثنائيّة بشكل قاطع". وجاء صكّ الانتداب البريطانيّ في عام 1922 مبلورًا لهذا الإطار، ومؤسّسًا في ما بعد لنشوء دولة إسرائيل، ولخصوصيّة قواعد القانون الدوليّ الّتي تنطبق عليها.

وقد توّج الأستاذ الجامعيّ الصهيونيّ، سفير إسرائيل لـ «الأمم المتّحدة»، يهودا زفي بلم، عشيّة حرب 1967، هذا التوجّه بإطار قانونيّ يبني على حالة الاستثناء، ويتنصّل من صفة الاحتلال الّتي تعني تأقيت الوجود الإسرائيليّ في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، والعمل على إرجاعها إلى سيادتها السابقة للاحتلال، وإلّا منحها الهويّة الإسرائيليّة؛ وبالتالي القضاء على يهوديّة الدولة العبريّة. بلم تنصّل من الصفتين؛ خالقًا فراغًا قانونيًّا في المناطق المحتلّة بعد 1967؛ بادّعاء عدم خضوعها لسيادة سابقة على الاحتلال، وفي الوقت نفسه وجود سيطرة فعليّة لإسرائيل عليها، وبهذا؛ تنصّلت إسرائيل من مسؤوليّاتها بصفتها قوّة احتلال؛ فلا هي أرجعت السيادة إلى أصحابها ولا منحت الجنسيّة الإسرائيليّة للفلسطينيّين فيها.

وقد تتبّعت نورا عريقات في كتابها «العدالة للبعض: فلسطين والقانون الدوليّ» (2019) الخطّ السابق، مجادلةً بأنّ هذا الخلق لنماذج قانونيّة استعماريّة جديدة، أعان إسرائيل على التنصّل الكامل من تبعات وجودها في الأراضي المحتلّة؛ فهي في الأصل تنصّلت من توصيف الصراع الدائر، نزاعًا مسلّحًا دوليًّا، يعطي الشعب المحتلّ حقّ النضال المسلّح ضدّها، ولا نزاعًا مسلّحًا غير دوليّ؛ ما يعني عدم إمكانيّة التمايز بين إسرائيل والأراضي الّتي تحتلّها، وسمّت الصراع بـ "نزاع مسلّح أقرب إلى الحرب"، وهو نموذج غير مسبوق ولا مؤطّر في القانون الدوليّ. ونظرًا إلى أنّ القانون الدوليّ تدعمه وتحرّكه القوى الجيوسياسيّة؛ ما كان لأيّ اعتراض على هذا الهراء أن يكون أكثر من طحن في الماء.

 

أدوات بوجهين وصلاحيّة منتهية

فشلت على مدار القرن الماضي أدوات القانون الدوليّ، عامّها وخاصّها، في إنشاء أيّ تقدّم فلسطينيّ ملموس دوليًّا؛ لأسباب تتعلّق بطبيعة تلك الأدوات؛ فالأدوات التقليديّة للقانون الدوليّ الإنسانيّ المنطبق في حالات النزاعات المسلّحة، الّذي بالمناسبة لا يُعْنى بأساسات الحرب ومشروعيّتها بقدر ما يُعْنى بأساليبها وآثارها، وعلى رأسها «اتّفاقيّة جنيف الرابعة» الّتي وُضِعت لحالات مؤقّتة، دون أن تبيّن مداها وسقفها الزمنيّ؛ قد أثبتت عدم جدواها في حالة الاحتلال الطويل الأمد كالاحتلال الإسرائيليّ، بل إنّها عملت بمفاهيمها الضبابيّة غير المحدّدة مثل حالات الضرورة، ومشروعيّة مصطلح الاحتلال، وحقّ قوّاته في الحفاظ على الأمن واتّخاذ الإجراءات اللازمة لذلك، على التأسيس والتبرير لأكثر الممارسات الإسرائيليّة تعسّفيّة، وعلى رأسها الاعتقال الإداريّ.

تُعَدّ اللغة، حمّالة الوجوه في القواعد القانونيّة الدوليّة، إحدى أعقد النقاط وأكثرها إضاعة للحقوق؛ فإذا ما بحثت الآن عن إساءة استعمال إسرائيل للقانون الدوليّ على محرّك البحث؛ لتصدّرت صفحة البحث مقالات قانونيّة مفصّلة، تتّهم المناصر للحقّ الفلسطينيّ بإساءة فهم المصطلحات القانونيّة الدوليّة وتوظيفها، حيث يقتطعها عن سياقها، وينظر إليها في معزل عن النيّة الإسرائيليّة الّتي يمكن دائمًا تلميعها؛ فالهدف العسكريّ المراد تحقيقه بقصف أحياء سكنيّة لجأ إليها مقاتلو «حماس»، بحسب الادّعاء الإسرائيليّ، يبرّر الأضرار الجانبيّة على فداحتها؛ لأنّ مبدأ التناسبيّة مرن ويَحْتَمِل. والعقاب الجماعيّ لا يقع في ظلّ نفي مبدئيّ لاحتلال قطاع غزّة، الّذي يُعَدّ في المقابل حقل ألغام مفخّخًا بأسلحة «حماس» القاتلة، ولا إبادة جماعيّة في ظلّ عدم وجود نيّة إسرائيليّة لذلك، ولو مات مليون غزّيّ في هذه البقعة المكتظّة! المبرّر دائمًا موجود، والمصطلح الضبابيّ قابل دومًا للتأويل، والفعل العسكريّ قابل للشرعنة في "حرب النور الّتي تخوضها إسرائيل ضدّ قوى الظلام الداعشيّ"، والقانون الدوليّ صدره رحب ويتّسع. أمّا الّذين يحاجّون بخلاف ذلك، ويسوقون عليه الأدلّة والقرائن، وما استقرّت عليه أعوام من الفقه والممارسة، فلن يكون رأيهم أكثر من وجهة نظر تحكمها اعتبارات غير موضوعيّة تمامًا.

في المقابل، فإنّ قواعد حقوق الإنسان بإطارها الحاليّ العامّ، وهو إطار أوسع من قواعد قوانين الحروب، فقد فشلت فشلًا ذريعًا هي الأخرى؛ نتيجة لاعتقادها بانطواء هذا النزاع على حقوق متقابلة لجماعتين متقابلتين. مثلًا، حقّ الشعب الفلسطينيّ في الحكم الذاتيّ، والحياة الكريمة، والتملّك في أرضه وبلاده، يقابله حقّ ’الشعب الإسرائيليّ‘ بالحياة الآمنة والتملّك والحرّيّة في ’وطنهم‘، وينبع فشل هذا الإطار المنطوي أساسًا تحت مظلّة «الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان» 1948، من عدم قدرته على التوفيق بين هذين الادّعاءين اللذين ينفي أحدهما الآخر من نواحٍ عدّة.

 

لا أسنان ولا مخالب إلّا بالمستعمِر القديم

لا يمكن فصل القانون الدوليّ وأدواته عن ميزان القوى الجيوسياسيّة وفاعليه من الدول الغربيّة؛ فالقانون الدوليّ لا يملك أسنانًا ولا مخالب دون هذه القوى. حتّى مؤسّساته الّتي قد تفعل على الأرض وتُحدث تغييرًا ما، لا تعمل بمعزل عن النظام الدوليّ الحاليّ؛ فتفعيل الفصل السابع من «ميثاق الأمم المتّحدة» القادر على تنفيذ قراراتها، يتطلّب تصويت «مجلس الأمن» بأعضائه الخمسة الدائمي العضويّة. وتفعيل مبدأ الاختصاص العالميّ، القادر على جلب منتهكي قواعد «اتّفاقيّات جنيف» إلى المحاكم الغربيّة المحلّيّة، يحتاج إلى إرادة سياسيّة وأدوات قانونيّة داخليّة.

وحتّى «محكمة الجنايات الدوليّة» الّتي كانت يومًا بارقة أمل لمظلوميّة الفلسطينيّ، لم تسلم هي الأخرى من تأثير المناخ الجيوسياسيّ؛ فـ «ميثاق روما» المؤسّس للمحكمة يتيح للمدّعي العامّ إمكانيّة التراجع عن التحقيق حال تعثّره، ويعطي «مجلس الأمن» بتوليفته المعروفة إمكانيّة تأجيل التحقيق إلى أجل غير مسمًّى، وحتّى بعد تجاوز الاثنين يبقى هامش سلطة تقديريّة واسعة للمحكمة، تتخفّى في ظلاله ضغوط الدول ذات المصالح، وعمليّات الابتزاز والتهديد، وتجميد الأصول، وسحب الامتيازات، واتّهامات معاداة الساميّة، وما تستتبعه من خطر على السلامة الشخصيّة، ومخاطرة بالمستقبل المهنيّ.

ما زالت مشروعيّة الاستعمار الإسرائيليّ للضفّة الغربيّة وقطاع غزّة محلّ نظر في تلك المؤسّسات، حيث من المقرّر أن تنظر «محكمة العدل الدوليّة» في هذا الشأن العام المقبل...

 فاتو بنسودا، المدّعية العامّة السابقة للمحكمة، احتاجت إلى أربع سنوات كاملة؛ لتعتقد بوجود ’أساس معقول‘ لفتح تحقيق بوقوع جرائم حرب ’محتملة‘ على الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، بينما لم يتطلّب الأمر أكثر من أسبوعين من كريم خان، المدّعي العامّ الجديد للمحكمة؛ لاتّخاذ ذات القرار بالنسبة إلى جرائم روسيا في أوكرانيا. خان، الّذي صرّح بعد ثلاثة أسابيع من المذابح الإسرائيليّة في غزّة بأنّ إسرائيل ’قد‘ تكون قد ارتكبت جرائم حرب في غزّة، وهذه ’القد‘ تعني فحصًا طويلًا لعناصر الجريمة، وتأكّدًا لا شك فيه من القصد والنيّة، وأخذًا بعين الاعتبار لمبادئ هلاميّة غير محدّدة، مثل الضرورة العسكريّة، والأضرار الجانبيّة، والأهداف المشروعة في ظلّ الطبيعة المكتظّة للقطاع، والشيطنة الرسميّة لمقاتلي «حماس»، والشبه المثارة حول استخدامهم دروعًا بشريّة، وتمترسهم في المناطق المأهولة، واستخدامهم الأعيان المدنيّة لعمليّاتهم القتاليّة. ليأتي بعدها دور القرائن والأدلّة في عمليّة تشريح طويلة لمدى مقبوليّتها، مع احتماليّة أن تصل بعدها إلى طريق مسدود. بينما لم يحتج الأمر منه إلى أكثر من سماع الروايات الإسرائيليّة ليقرّر فورًا أنّ أعضاء «حماس» ارتكبوا جرائم حرب، وسيخضعون للمساءلة!

البيروقراطيّة القاتلة في عمل المؤسّسات الدوليّة عندما يتعلّق الأمر بالقضيّة الفلسطينيّة سمة عامّة أخرى؛ فما زالت مشروعيّة الاستعمار الإسرائيليّ للضفّة الغربيّة وقطاع غزّة محلّ نظر في تلك المؤسّسات، حيث من المقرّر أن تنظر «محكمة العدل الدوليّة» في هذا الشأن العام المقبل؛ لتتّخذ ’رأيًا استشاريًّا‘ بالخصوص.

 

خاتمة

في السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) لُدِغ المستعمر الأبيض لدغةً أوجعته؛ فسقطت عنه شعاراته المعسولة، وتنكّر لقوانينه، وقدحت في عينيه شرارة الانتقام. هل يذكر أحد أنّ الدفاع عن النفس، بالصورة الّتي تردّدها الولايات المتّحدة والدول الأوروبّيّة من ورائها، والّتي تنطوي عليها المادّة 51 من «ميثاق الأمم المتّحدة»، ليست حقًّا للقوّة المحتلّة ضدّ الشعب المحتلّ وعلى أرضه، بل هو مصطلح لاستخدام القوّة بين الدول؟ هل يذكر أحد قرار «الجمعيّة العامّة» 43/37 لعام 1982، حول مبدأ تقرير المصير للشعوب المحتلّة وحقّها في النضال المسلّح؟ هل يجرؤ أحد على التساؤل حول صفة بعض الّذين قُتِلوا في المنطقة المسمّاة «غلاف غزّة»، ومشاركتهم في العمليّات القتاليّة، ودورهم في حصار القطاع وتجويعه وسحقه؟ هل يذكر أحد مسؤوليّة الدول الساميّة المتعاقدة بموجب «اتّفاقيّات جنيف» بمحاكمة مرتكبي الجرائم، لا تمويلهم والشدّ على أيديهم؟ مَنْ يذكر هذا كلّه وسط القرع الهستيريّ لطبول الحرب، والرقص البربريّ حول نارها؟

يعمل القانون الدوليّ بنظريّاته الحاليّة، وبنيته، وتفسيراته، وأدوات تطبيقه، أداةً للاستعمار الخفيّ، حيث يوفّر للدول الغربيّة أدوات التحكّم والسيطرة؛ فبينما تعلو هذه الدول على ما خلقته يداها متنصّلة بطرقها الملتوية من مسؤوليّاتها، يخضع الشرق ونصف العالم الجنوبيّ لهذه القواعد، ولا يتجاوزها، أتاوةً للبقاء ضمن اللعبة الدوليّة، وضمان لعدم ركله إلى هامشها ورميه تحت قاطرة الحضارة.

في الوقت الّذي لن ينصفنا فيه القانون الدوليّ، ولن يُرجع لنا حقًّا، يبدو جاهزًا تمامًا لمطاردة شخوصه الّذين ينادون بشعار "من النهر إلى البحر"؛ بتهمة التحريض، وملاحقة مَنْ يدعو منهم إلى مقاطعة النظام الإسرائيليّ؛ بوصفه محتلًّا مجرمًا بتهم التمييز. كما يتّسع هذا القانون لإجراءات قمعيّة لحقّ التعبير في حالات مبهمة من الإخلال بالأمن العامّ، بمحدّدات تجعل تعريفها فضفاضًا، ويتّسع بالضرورة لحالات ’معاداة الساميّة‘ المبهمة أيضًا. إنّه القانون الدوليّ الّذي ليس لنا.

 


 

هبة بعيرات

 

 

محامية فلسطينيّة ممارسة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة. حاصلة على درجة الماجستير في القانون الدوليّ وحقوق الإنسان. لها ديوان شعريّ منشور بعنوان «بيت بيوت» ومجموعة قصصيّة منشورة بعنوان «سحابة واحدة لكلّ ما تبقّى».

 

 

التعليقات