05/12/2023 - 14:30

ثقافة الاحتجاج... خريطة التضامن البريطانيّ مع فلسطين

ثقافة الاحتجاج... خريطة التضامن البريطانيّ مع فلسطين

من مظاهرة مطالبة بوقف إطلاق النار في قطاع غزّة، لندن، 25/11/2023 | Getty.

 

تشهد بريطانيا حراكًا شعبيًّا نشطًا في مناصرة الشعب الفلسطينيّ، وفي الوقوف ضدّ الحرب الإسرائيليّة المتواصلة منذ السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) على قطاع غزّة؛ ممّا جعلها واحدة من أبرز الدول الغربيّة الّتي أصبح فيها مشهد المظاهرات شبه يوميّ، ومتصدّرًا الموجة العالميّة التاريخيّة الّتي نعيشها هذه الأيّام في تأييد حقوق الشعب الفلسطينيّ، وضدّ الاستعمار الإسرائيليّ.

خلافًا لبعض الدول في أوروبّا الّتي عملت على قمع المظاهرات المؤيّدة لفلسطين في الأيّام الأولى للحرب مثل ألمانيا وفرنسا، لم تشهد بريطانيا قمعًا للمظاهرات رغم وجود حكومة المحافظين المنحازة إلى إسرائيل، وبعض التصريحات لوزيرة الداخليّة سويلا برافرمان الّتي عُزِلَت في سياق جدل المظاهرات لاحقًا بتجريم التلويح في العلَم الفلسطينيّ؛ إذ شهدت المدن البريطانيّة تحرّكًا سريعًا منذ اليوم الثاني لأحداث السابع من أكتوبر؛ في الخروج في مظاهرات مؤيّدة للفلسطينيّين.

 

حركة تضامن تاريخيّة

يعود هذا التحرّك السريع المنظّم لوجود حركات تضامن مع فلسطين قويّة ومنظّمة، منها مَنْ ينشط منذ عقود ووصل درجة عالية من المأسسة؛ الأمر الّذي انعكس في تصاعد حجم المشاركة في المظاهرات أسبوعًا تلو الآخر؛ إذ كانت هناك مظاهرات محلّيّة ومظاهرة وطنيّة في لندن كلّ يوم سبت تقريبًا. في الأسبوع الأوّل خرج في لندن 100 ألف متظاهر، ثمّ 300 ألف في الأسبوع الّذي بعده، ثمّ 500 ألف، والأضخم كانت مليونيّة قُدِّرَت بـ 800 ألف إلى مليون متظاهر، يوم الحادي عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، ونحو 300 ألف في الخامس والعشرين من الشهر نفسه.

 

من تظاهرة ضدّ الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة في بريطانيا | ربيع عيد

 

يُنظّم هذه المظاهرات عدد من الحراكات، أبرزها «حملة التضامن مع فلسطين» في المملكة المتّحدة، ومنظّمات أخرى منها «منظّمة أصدقاء الأقصى»، و«المنتدى الفلسطينيّ في بريطانيا»، و«الرابطة الإسلاميّة في بريطانيا»، ومنظّمة «أوقفوا الحرب»، ومنظّمة «أوقفوا التسليح النوويّ».

شكّل حجم المشاركة في هذه المظاهرات سابقة تاريخيّة في بريطانيا، من حيث خروج الناس لأجل الحقوق الفلسطينيّة، وشُبِّهَت المظاهرة المليونيّة في تشرين الثاني المنصرم بالمظاهرة المليونيّة الّتي خرجت ضدّ الحرب على العراق في عام 2003. أجواء رفض الحرب والدعوة إلى تبنّي بريطانيا موقفًا لوقف إطلاق النار في غزّة ينعكس أيضًا في استطلاعات الرأي، الّتي أكّد ذلك فيها 70% من المستطلعين. قرارا البرلمانَين الويلزيّ والأسكتلنديّ تبنّيا وقف إطلاق النار وهي تُعْتَبَر قرارات غير ملزمة للحكومة، بخلاف البرلمان البريطانيّ الّذي ما زال يرفض وقف إطلاق النار.

لحركات التضامن مع فلسطين وجود في عشرات المدن والبلدات البريطانيّة، ومنهم مئات من الناشطين البريطانيّين الّذين كرّسوا جزءًا كبيرًا من حياتهم للنشاط من أجل فلسطين. في بعض المواقع يمكن أن تراهم يخرجون بشكل أسبوعيّ أو دوريّ في وقفات للتوعية للقضيّة الفلسطينيّة، وحملات مقاطعة الاحتلال وداعميه.

 

تحريض لم يُوَفَّق

كان للمشاهد المروّعة القادمة من غزّة، والإبادة الجماعيّة دور في خروج الناس إلى الشوارع، كما حصل في كلّ مكان في العالم، لكنّ ثمّة عوامل داخليّة أخرى ساهمت في تأجيج غضب الناس، منها موقف الحكومة المنحاز إلى إسرائيل، وموقف حزب «العمّال» المعارض بزعامة كير ستارمر المنحاز هو كذلك.

كذلك أدّت تغطية وسائل الإعلام المركزيّة، ومن أبرزها «بي بي سي» للحرب، إلى انتقادات كبيرة للانحياز إلى الرواية الإسرائيليّة الّتي في أجزاء منها ما هو غير صحيح، وانعطاف ملحوظ عند البعض لاحقًا بعد تعدّد الأكاذيب وتخصيص مساحات أكبر لهذه الرواية من تدقيق في المعلومات. واندرج جزء من هذا النقد على نفاق وسائل الإعلام مقارنة بأحداث مع الحرب في أوكرانيا، وبسبب المصطلحات والمقارنات المستخدمة وعدم وضع السياق للأحداث، الّذي هو الحصار المستمرّ لغزّة، وأنّ غالبيّة سكّانها لاجئون منذ النكبة.

جاءت تصريحات وزيرة الداخليّة التحريضيّة بنتائج معاكسة، فوصفها للمظاهرات على أنّها "مظاهرات كراهية" لم يقلّل من عدد المشاركين بل زاد منها. حاول «المحافظون»، على رأسهم رئيس الحكومة ريشي سوناك، اختلاق قضيّة النصب التذكاريّة في مسعًى إلى تأجيج الرأي العامّ، ومخاطبة القاعدة الشعبيّة، وهي قضيّة أثارتها في البداية أصوات من اليمين المتطرّف، تدّعي أنّ مرور المتظاهرين من عند النصب التذكاريّة للجنود البريطانيّين، إذ تنتهي المظاهرات الأسبوعيّة في لندن عادة عند مقرّ الحكومة البريطانيّة، هو تدنيس لهذه النصب الّتي يجب حمايتها.

 

من تظاهرة ضدّ الحرب على قطاع غزّة في بريطانيا | ربيع عيد

 

وصل التحريض بوزيرة الداخليّة المعزولة باتّهام جهاز الشرطة بالانحياز إلى المتظاهرين المؤيّدين لفلسطين؛ كونها لا تمنع مظاهراتهم في يوم الهدنة، وهو يوم تاريخيّ تحيي فيها المملكة المتّحدة ذكرى جنودها في الحرب العالميّة الأولى؛ إذ خرجت في ذلك اليوم المظاهرة المليونيّة لفلسطين، وبعد يومين أُقيلت سويلا برافرمان من منصبها بعد انتقادات شديدة حتّى من مؤيّدي الحكومة، طالتها بسبب هجومها على جهاز الشرطة.

رفضت الشرطة الخضوع للوزيرة، وقالت إنّها مستقلّة، ولم تر سببًا يدعو إلى منع المظاهرات، على الرغم من الاعتقالات الّتي تقوم بها في المظاهرات بتهم مثل شعارات معادية للساميّة، أو خطاب كراهية، تُفَسَّر خطأً على أنّها تدعم الإرهاب، وهي اعتقالات تأتي لتُظْهِر أنّ الشرطة تحارب ما يُسَمّى الكراهية في جانب المتضامنين مع فلسطين، بعد حملات تحريض تقوم بها اللوبيّات الصهيونيّة وصحف يمينيّة وصفراء، وادّعاءات عن ارتفاع حالات اللاساميّة.

عُزِلَت الوزيرة المحسوبة على تيّار اليمين في حزب «المحافظين»، بعد تحريضها المتواصل ضدّ المتظاهرين لأجل غزّة، وذلك بسبب استخدامها حرب الثقافات داخل المجتمع؛ الأمر الّذي يتناقض مع دور وزير الداخليّة، ويهدّد سلّم التنوّع الثقافيّ الّذي يتشكّل منه المجتمع البريطانيّ، حسب بعض المحلّلين، ولتصريحات أخرى مثيرة للجدل ضدّ اللاجئين والمشرّدين؛ إذ أصبحت هذه الوزيرة عبئًا على الحكومة، فجاءت أحداث غزّة وأطاحت بها.

 

فسيفساء ثقافيّة

يؤدّي التنوّع الثقافيّ في المملكة المتّحدة دورًا في موجة التضامن الحاليّة؛ فالعديد من المشاركين هم من الجاليات العربيّة والإسلاميّة الّتي تمثّل لهم فلسطين رمزًا وطنيًّا أو قوميًّا أو دينيًّا وإنسانيًّا. إضافة إلى مواطنين من جاليات من دول شهدت الاستعمار سابقًا، ويشعرون بتعاطف كبير بسبب تاريخ الاضطهاد الاستعماريّ الّذي شهدته شعوبهم، فهم يرون أنفسهم في هذه المظاهرات شعوبًا اسْتُعْمِرَت وليس فقط متضامنين عاديّين مع الفلسطينيّين. ثمّ إنّ العديد من حركات العدالة الاجتماعيّة والاتّحادات والنقابات ترى تقاطعًا بنضالها مع نضال الشعب الفلسطينيّ على قاعدة العدالة ونزع الاستعمار، منها حركات المناخ الّتي تصاعد نشاطها على الساحة في الأعوام الأخيرة.

يكفي أن تتأمّل في فسيفساء وجوه المشاركين، وتقرأ لافتاتهم ومنشوراتهم، وتسمع لهتافاتهم، وتتحدّث مع بعض منهم لتكتشف وجود متديّنين؛ علمانيّين؛ يهود؛ مثليّين ومتحوّلين جنسيًّا؛ ناس مسلمين/ مسيحيّين/ بوذيّين/ لادينيّين؛ ناس من ذوي إعاقة؛ ناس في سنوات السبعينات والثمانينات؛ أطفال وعائلات؛ طلّاب جامعات ومدارس؛ أغنياء وناس دون الطبقة الوسطى؛ ناجين من الهولوكوست؛ لاجئين من مجازر وحروب؛ أبناء القادمين من دول المستعمرات السابقة؛ عرب وأكراد وأمازيغ وأفغان وبنغال وهنود وآسيويّين ولاتينيّين؛ سيّاح؛ عابري سبيل؛ بريطانيّين بيض وملوّنين وذوي بشرة سوداء؛ ممثّلين عن حركات سياسيّة ونقابات بيئيّة وعمّاليّة ونسويّة وكويريّة وأكاديميّة؛ فنّانين؛ فوضويّين ولاسلطويّين؛ سياسيّين... وطبعًا فلسطينيّين.

 

فسيفساء مظاهراتيّة

لا ينحصر التنوّع في المشاركين بل في شكل التظاهر والاحتجاج. إلى جانب المظاهرات الّتي تجوب شوارع المدن بمئات الآلاف، كان هناك مظاهرات تستهدف أماكن أو شخصيّات معيّنة. مثلًا مظاهرات أمام مكاتب نوّاب البرلمان الّذين يرفضون الدعوة إلى وقف إطلاق النار. مظاهرة أمام البرلمان نفسه ليلة التصويت، وقد خرج على إثر عدم تبنّي وقف إطلاق النار مظاهرة عفويّة أغلقت شارع «أوكسفورد» الشهير. كذلك المظاهرات العديدة داخل الجامعات البريطانيّة، الّتي يشارك فيها الطلّاب الدوليّون أيضًا، وتحوّلت لتكون وعاء للتوعية عن فلسطين، وللحديث عن نزع الاستعمار على أرض الواقع وليس فقط في المقالات والحصص الأكاديميّة.

هناك أيضًا المظاهرات أمام مصانع أو شركات أسلحة متورّطة مع الاستعمار الإسرائيليّ، أبرزها ما تقوم بها حركة «بالستاين أكشن»، وهي حركة راديكاليّة تستهدف مصانع شركة «ألبيت» الإسرائيليّة الّتي تُصَنِّع المسيّرات وتكنولوجيا عسكريّة. برزت الحركة في نشاطها في العامين الأخيرين، ونجحت في السابق في إغلاق فرعين للشركة، إلّا أنّها كثّفت نشاطها في الشهرين الأخيرين، ويمكن رصد أنشطة شبه يوميّة لها. وكان من اللافت أيضًا في هذا السياق تنظيم مظاهرة داخل شركة أسلحة تصدّر إلى إسرائيل، نظّمها آباء وأمّهات مع أطفالهم الصغار، حيث اعتصموا داخل الشركة.

 

من اعتصام في محطّة قطار برايتون ضدّ الحرب الإسرائيليّة على غزّة | ربيع عيد

 

تزايدت الاعتصامات، منها داخل محطّات القطارات، بحيث تُنَظَّم الدعوة إلى الاعتصام بشكل سرّيّ بين الناشطين، ومن ثَمّ يلتقون ويفترشون الأرض بشكل مفاجئ للفت الانتباه داخل محطّات القطارات المركزيّة. كذلك، نُظِّمَت وقفات أمام بعض وسائل الإعلام، ولا سيّما الـ «بي بي سي» للاحتجاج على الانحياز ونزع الإنسانيّة عن الفلسطينيّين.

وبرز خلال المظاهرات أنشطة خاصّة نظّمتها مجموعات يهوديّة مناهضة للصهيونيّة، وترفض تمثيل إسرائيل لهم، أو منظّمات يهوديّة بريطانيّة منحازة إلى إسرائيل، ويرفعون شعارات "ليس باسمنا" و"ليس مجدّدًا"، ويدحضون تهم العداء للساميّة الّتي يسعى البعض إلى دمغها مع المظاهرات.

وتبنّت عشرات النقابات، منها نقابات ضخمة تمثّل الملايين، بيانات تدعو لوقف إطلاق النار، وتقف إلى جانب الفلسطينيّين في تحرّرهم من الاستعمار، وتدعو إلى مقاطعة إسرائيل ومحاكمة مجرمي الحرب. ونُظِّمت ندوات عديدة وعروض أفلام وأمسيات ثقافيّة ضمن الحراك التضامنيّ الجاري والساعي إلى وقف الحرب، منه جمع تواقيع على عرائض وحملات تبرّعات وإغاثة، وحملات توعية وتحشيد في مواقع التواصل الاجتماعيّ الّتي يعلو فيها الصوت المناصر لفلسطين، خاصّة بين الجيل الشاب الجديد.

من الواضح أنّ حالة التضامن في بريطانيا كبيرة وتاريخيّة، وتأتي ضمن موجة عالميّة، لكن يبقى السؤال: إلى أيّ مدًى يمكنها أن تتّسع لأكبر من ذلك؟ وما إمكانيّة تأثيرها في المنظومة السياسيّة الحاكمة في اتّخاذ سياسات مختلفة تجاه القضيّة الفلسطينيّة؟ وهل ينتج عن هذا الحراك مشهد جديد للجيل القادم في بريطانيا الّذي سيقود البلد؟

 


 

ربيع عيد

 

 

صحافيّ وكاتب وباحث من فلسطين. يعمل مراسلًا لصحيفة وموقع «العربيّ الجديد» في المملكة المتّحدة. حاصل على الماجستير في الصحافة والأفلام الوثائقيّة من «جامعة ساسِكس»، وعلى ماجستير في الإعلام والدراسات الثقافيّة من «معهد الدوحة للدراسات العليا». حصل فيلمه الوثائقيّ القصير «في العودة إلى هبّة أيّار» على «جائزة المخرج الناشئ» من «مهرجان الأرض» في سردينيا في عام 2023.

 

 

التعليقات