07/01/2024 - 12:45

مش سامعكو يابا!

مش سامعكو يابا!

رجل فلسطينيّ ثاكل في مخيّم جباليا، 01/11/2023 | علي جاد الله.

 

يخلق العدوان الوحشيّ على قطاع غزّة، في ظلّ شبكات التواصل الاجتماعيّ وسهولة التصوير والتوثيق، إمكانيّة نوعيّة  لتصدير الفظائع والرعب من داخل القطاع إلى العالم. هذا العامِل؛ أي المعاناة المنقولة ببثّ مباشر يوميًّا، يؤدّي إلى تشكيل حالة جديدة فيها تضطرّ الجماهير إلى أن تشهد الجرائم مرغمة؛ فإن لم تصله عبر الشبكة بشكل عفويّ، سيسمع عنها بالتأكيد من دوائره الاجتماعيّة. لتسمية هذه الظاهرة، بالإمكان الاستعانة بمصطلحات من عالَم الحشرات الاجتماعيّة مثل «نفسيّة خليّة النحل» (Hive Mind)، أو «ذكاء السرب» (Swarm Intelligence)، أو بمصطلح «تفكير الجماعة» (Groupthink). جميعها مصطلحات تشير إلى حدس جماعيّ غير منسّق بشكل واعٍ ومقصود، بل إنّه جزء من ماهيّة وعي الفرد الداخليّة.

لكن بالرغم من إيجابيّات هذا الترابط الشبكيّ الجذموريّ (Rhizomatic)، إلّا أنّه له سلبيّات أيضًا؛ فقد يكون لردود الفِعل العاطفيّة الصغيرة والمتراكمة هذه على شبكات التواصل، أثر نفسيّ وخيم وصعب بمثابة الصدمة النفسيّة على المشاهدين.

قد تتحوّل هذه الممارسات المشاهداتيّة لأحداث غزّة إلى نمط تصرّفيّ، ومن ثَمّ إلى حالة نفسيّة سلبيّة خاملة، بها يُفَسَّر الاستهلاك المجرّد لهذه الفيديوهات والصور على أنّه تضامن، ولكنّه ليس إلّا ’طحن ماء‘ في الواقع، إذا لم يُحَوَّل إلى طاقات منتجة ما.

 

الصدمة

في تجربتي الشخصيّة، تخلق الشهادة المباشرة للمآسي والمعاناة المروّعة في قطاع غزّة حالة نفسيّة مضطربة عند المشاهدين عبر الشاشات؛ فأحيانًا هناك غريزة داخليّة للمساعدة والمساندة، وكأنّني أريد أن أذهب حالًا للتطوّع في القطاع، ولاحتضان الأطفال اليتامى، والتربيت على أكتاف الثكالى، وكأنّها طاقة من الغضب الممزوج بالتعاطف والهمّة.

أحيانًا أشعر بأنّني لم أعد أستطيع المشاهدة، وأنّني صِفْر اليدين غير قادر على إنقاذ إخوتي وأبناء شعبي، ولا حتّى المساهمة في الكثير غير المشاركة للمآسي على الشبكات، ومحاولة تجنيد الرأي العامّ للضغط على المجرمين؛ لإيقاف مجازرهم في حقّ المدنيّين العُزَّل والأطفال والخُدْج.

لكن، تحديدًا بعد مشاهد مجزرة مخيّم جباليا في بداية تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، أصابتني حالة من الرغبة في المشاركة الفاعلة والكاملة في الحداد والحزن والأسى، وكأنّني أتصوّر الأسى المكتوب على الغزّاويّين ذا كمّ محدّد مسبقًا، وأنا أرتشف منه قدر الإمكان للتخفيف عنهم.

هذه الرغبة الجامحة في المشاركة واختيار المصير الواحد تجلّت في اختياري معاينة التفاصيل الكاملة وتحليلها وتوثيقها للفيديو الأكثر وقعًا على نفسي في ذلك الحين. ولعلّ هذا اللجوء إلى الكتابة يجعلني أقترب من تأدية الأمانة الأخلاقيّة والوطنيّة، في تأبيد هذا الظلم وهذا الكرب وتخليدهما، أو لعلّها محاولة لمواساة هؤلاء الّذين ارتبطنا بهم عاطفيًّا بدون معرفتهم بذلك، ونعدّهم جزءًا من عوالمنا. معاناتهم محفورة في الوعي وفي الذاكرة، كالوشم في الهويّة.

من هنا، في هذا النصّ، أريد سرد شهادتين مصوّرتين للإعلاميَّين الغزّاويَّين معتزّ عزايزة ويوسف الصيفي، في يوم 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، الّذي فيه قصف طيّارون إسرائيليّون المخيّم بلا سابق إنذار بصاروخين يزن كلٌّ منهما طنًّا من المتفجّرات. أسفرت هذه الجريمة البشعة إلى استشهاد أكثر من 195 إنسانًا، في حين أنّ ثمّة أكثر من 120 مفقودًا تحت الركام، ونحو 800 مصاب.

 

عدسة معتزّ عزايزة

المشهد الأوّل

تُظْهِر الكاميرا جبلًا هائلًا من الركام والغبار محلّ مبنًى سكنيّ في مخيّم جباليا. أصوات بعيدة لطائرات أو مروحيّات في الخلفيّة. يقترب حامل الكاميرا من رجل شابّ يجلس على ركبتيه، ويضع رأسه على الركام يحاول الإصغاء وسماع شيءٍ ما يبحث عنه من تحته. إلى هذه اللحظة، أنا المشاهد لا أفهم ماذا يفعل هذا الرجل، ولكنّي أرى جزءًا من تفاصيل مظهره الخارجيّ؛ ملابسه شديدة الاتّساخ من العرق والغبار، ويحمل في يده اليمنى مطرقة صغيرة تُسْتَخْدَم في كسر الأحجار الصغيرة، لا يبدو أنّها قد تخدمه كثيرًا في كسر الجدران الهائلة المتراكمة على جبل الخراب، الّذي كان مسبقًا مبنًى سكنيًّا من طوابق عديدة.

 

المشهد الثاني

يكتفي الرجل الشابّ من الإصغاء إلى ما تحت الركام، ينتصب ويقول:

- مش سامعكو يابا!

يقولها بصوت مطمئنّ حنون، وكأنّه كان يتحدّث معهم قبل ثوانٍ معدودة واختفى صوتهم لوهلة وجيزة عابرة؛ وكأنّه يفترض أنّهم يسمعونه، وأنّهم حين يفهمون أنّ صوتهم خافت سوف يرفعونه ليسمعهم. يظهر حول الرجل أشخاص آخرون، يقفون مراقبين ما يحدث، أعينهم موجّهة إلى الركام وإلى الرجل الشابّ. يبدو أنّهم لا يفهمون ماذا يحدث في المشهد، مثلي أنا المشاهد البعيد على شاشة الهاتِف المحمول.

ينهض الرجل، جسمه يكاد لا يقوى على حمله، ويتوجّه إلى موقع يبعد أمتارًا قليلة عنه، تظهر فيه جدران هائلة منهارة، ومن تحت أحد الجدران هناك فجوة صغيرة، يتوجّه الرجل إلى هذه الفجوة، وفي طريقه إليها يقول بصوت خافت كأنّه يدير حديثًا بينه وبين نفسه:

- مش سامعكو يابا!

 

المشهد الثالث

ينظر الرجل الشابّ إلى الفجوة الصغيرة من تحت الجدار المنهار، وينادي: "سلمى!"، لا ردّ. "سلمى!"، لا ردّ.

- سلمى يابا.

في هذه اللحظة، أبدأ أنا المشاهد بالشكّ في أنّ سلمى لن تردّ على أبيها من تحت الركام، لكنّ هناك بعض الأمل؛ فإنّ لغة جسد الأب تدلّ على عدم فقدان الوعي، وتدلّ على أنّه قد تكون هناك إشارات لديه، تُقنعه بأنّنا قد نسمع نحن المشاهدين صوتًا يردّ لنا روحنا. أشعر بأنّني لا أتنفّس، أنتظر على أحرّ من الجمر لأعرف ماذا سيحدث.

- سعيد!

ينادي الأب بصوت أعلى. يبدو أنّ سعيدًا أكبر من سلمى، أفترض ذلك لأنّ نبرة صوت الأب الشابّ كانت أرقّ حين نادى ’سلمى‘. يحاول الأب أن يرى تفاصيل ما هو داخل الفجوة تحت الجدار، ويبدأ صوته بالارتفاع أكثر فأكثر. "سعيد!"، "سعيد!". في سعيد الأخيرة، أنتبه بأنّ صوته قد خفت وهدأ قليلًا، وكأنّه انتبه إلى أنّه بدأ يدخل إلى حاله الهلع والذعر، وتماسك نفسه قليلًا.

بدأ يُدخل جسمه ورأسه إلى الفجوة، وبدأ يحفر بيده اليسرى في الركام تارة، وتارة أخرى يضرب الأحجار الكبيرة بمطرقته الصغيرة الّتي يحملها في يده اليسرى. كلّ ثانية تمرّ يزداد الذعر في داخلي. هل يُعْقَل أن لا نهاية سعيدة؟ هل ماتت سلمى ومات سعيد؟

- سعيد!

يحفر ويبحث. "سعيد..."، "يابا!". صوت هادئ من وراء الكاميرا يقول: "بنادي ع سعيد ابنه الصغير". قد يكون صوت شخص يراقب ما يحصل مع الرجل الشابّ، ويشرح لصاحب الكاميرا ما يراه أمامه.

- يابا!

يستمرّ الصوت الهادئ من خلف الكاميرا بعد برهة، ليقول: "الله يرحمه".

 

المشهد الرابع

- يابا!

يرتفع صوت الرجل.

- سعيد!

يحفر، ويُدخل نصف جسمه الآن تحت الجدار، وكأنّه يريد أن يقبر نفسه مع سلمى ومع سعيد. "سعيييييد!"، ينكسر صوته، يبدو أنّ الهلع تغلّب على رباطة جأشه، يحاول السيطرة من جديد. "يابا!"، من الخلف، يظهر أنّه بدأ بالتنفّس السريع، توقّف عن الحفر.

- سعيد!

يهتزّ رأسه وجسده إثر المجهود بالمناداة، يصمت. يبدأ بالتراجع إلى الخلف ليُخرج جسمه من تحت الجدار. قبل أن يُخرج رأسه، ضاربًا قطعة جدار قريبة بمطرقته، يقول باكيًا مكسورًا: "مش قلتلّك دير ع بالك ع أختك؟". يضرب القطعة مرّة أخرى.

- مش قلتلّك دير بالك ع راس أختك؟.

ضربات مطرقة غاضبة ويائسة.

- مش قلتلّك دير بالك ع أختك؟

ينهار إلى الخلف ليجلس على الركام، ويضع يده على رأسه. يتوقّف عن الصراخ الآن، باكيًا، يتكلّم بصوت لائم:

- مش قلتلّك دير بالك ع أختك؟ يا الله!

يئنّ ويبكي بصوت مَنْ فهم للتوّ بأنّه فقدَ سلمى، وفقدَ سعيدًا. لا أعلم إن كان فقدَ أكثر من ذلك. يقترب إليه الرجال من الخلف، وواحد منهم يضع يده على كتفه؛ محاولًا تهدئته.

 

عدسة يوسف الصيفي

- لا إله إلّا الله.

يقول حامل الكاميرا، وهو يقترب من ذات الرجل الشابّ. يبدو أنّه في نفس الموقع، لكن بعد ساعات من المشاهد السابقة؛ لأنّ الركام قد قلّ وانخفض ارتفاعه. يظهر الرجل الشابّ، أبو سلمى وسعيد، يحفر الركام بأداة حفر صغيرة.

يقول صاحب الكاميرا:

- ع مين بتدوّر؟ ع مين بتدوّر؟

يلتفت الرجل إلى حامل الكاميرا.

- ولادي الأربعة!

يقول حامل الكاميرا مكرّرًا:

- لا إله إلّا الله.

يجهش الأب بالبكاء اليائس الفاجع من جديد، وهو يلتفت حوله لعلّه يجد أيّ بصيص أمل، ويكرّر:

- ولادي الأربعة! يا الله!

ويكرّر حامل الكاميرا:

- لا إله إلّا الله.

واضعًا يده على كتف الرجل الشابّ الباكي والمكسور.

- ربّنا يعوّظك عَوَظ خير.

يرفع الرجل الشابّ وجهه إلى السماء:

- يا الله! يا حبيبي يا الله! ليش متت؟ ليش يابا؟ ليش متت؟

ينهار الرجل، ويسقط أرضًا واضعًا يده على رأسه. يربّت حامل الكاميرا على ظهره قائلًا:

- سبقك ع الجنّة يا حبيبي.

يصرخ الأب:

- ليش يابا؟ يابا إيش سوّيتوا يابا؟

يجهش بالبكاء أكثر فأكثر، ويهتزّ إلى الأمام وإلى الخلف.

- لا إله إلّا الله. يقول حامل الكاميرا باكيًا هو أيضًا.

- في الجنّة يا حبيبي، في الجنّة يا حبيبي سبقوك. لا إله إلّا الله... لا إله إلّا الله...

 


 

جاد قعدان

 

 

باحث ومدرّب وناشط. متخصّص في علوم الدماغ (بيولوجيا وعلم نفس)، وعلم النفس الإدراكيّ اللسانيّ. يدرس حاليًّا ضمن برنامج الدكتوراه في الدراسات الإدراكيّة اللسانيّة، في «جامعة تل أبيب». معلّم بسيخومتري منذ 2007، ومدرّب للدبكة التراثيّة الفلسطينيّة.

 

 

 

التعليقات