04/01/2024 - 17:00

كولومبيا الّتي لم تعد إسرائيلَ في أمريكا الجنوبيّة

كولومبيا الّتي لم تعد إسرائيلَ في أمريكا الجنوبيّة

الرئيس الكولومبيّ جوستافو بيترو

 

لن أبالغ إذا قلت إنّ كولومبيا هي السبب وراء تعلُّمي الإسبانيّة لغة ثالثة. أذكر قبل عقد ونصف، عندما كنت ساذجًا ظانًّا أنّ كتاب «تعلّم اللغة الإسبانيّة في عشرة أيّام» هو الّذي سيمكّنني من تحقيق هذا الهدف. حينذاك، اشتريت الكتاب في وقت الصيف تجهيزًا لعودة الأقرباء من كولومبيا. أمّا أقرباؤنا في الولايات المتّحدة فهم في قرى رام الله وبلداتها كثر، وليس لهم ما يميّزهم، خاصّة بعد انتصار العولمة الأمريكيّة، وأمّا أقرباؤنا في كولومبيا، العائدون إلى سُرْدا وتُرْمُسْعَيّا وكفر مالك، فهم لدى عودتهم يجلبون معهم شيئًا آخر، يصعب تفسيره، يكاد يكون قمّة في الواقعيّة السحريّة.

ليس هنالك ’حلم أمريكيّ‘ في كولومبيا، مَنْ هاجر إلى العاصمة بوغوتا فلسطينيًّا فلّاحًا سيعود إلى البلاد فلسطينيًّا فلّاحًا. عندما سألت قريبًا لنا من أحد المغتربين الفلسطينيّين في كولومبيا، في ما إذا كانت الإسبانيّة لغة راقية، حينذاك قال لنا: "روحوا تعلّموا فرنسي، اللغة الفرنسيّة رومانسيّة أمّا الإسبانيّة دفشة". الهجرة من فلسطين إلى كولومبيا دائمًا ما كانت هجرة ما بين عالم سابع؛ عالم فلسطين المحتلّة، وعالم رابع؛ عالم كولومبيا. هذه الهجرة هي من بلد الفقراء إلى بلد الأقلّ فقرًا بقليل، هذه الهجرة هي من حالة حرب إلى حالة حرب أخرى.

 

عقدة العالميّة

في عام 1948، كان للكولومبيّين نكبة تخصّهم؛ حرب أهليّة بين «الحزب الكولومبيّ المحافظ» و«الحزب الكولومبيّ الليبراليّ»، أنهاها جنرال أنشأ دكتاتوريّة عسكريّة. هذا الإنهاء غير المألوف للحرب حوّل كولومبيا إلى دولة خارجة عن العادة، لا تملك سيادة كاملة على أراضيها، خاصّة الريف الّذي أصبح مسرحًا للحركات الاجتماعيّة والجماعات المسلّحة من غير الدول المناهضة والموالية للحكومة منذ الستّينات، وعلى رأسها تنظيم «الفارك» - «القوّات المسلّحة الثوريّة الكولومبيّة - جيش الشعب»، الّذي أنشأ ما يشبه الدولة داخل الدولة. فشل الدولة المركزيّة الرأسماليّة الكولومبيّة في تطبيع ذاتها دفعها إلى الإعجاب بالدول غير القادرة على شرعنة نفسها بالمفهوم الخلدونيّ، والّتي تلجأ إلى التحالف مع قوى خارج إقليمها من أجل تعويض نقصها الشرعيّ، ومن هنا يمكن تتبّع العلاقة بين كولومبيا وإسرائيل، وتعاونهما في شؤون المال والعلم والسلاح.

ليس هنالك ’حلم أمريكيّ‘ في كولومبيا، مَنْ هاجر إلى العاصمة بوغوتا فلسطينيًّا فلّاحًا سيعود إلى البلاد فلسطينيًّا فلّاحًا...

أذكر جيّدًا عندما تفاجأت بالعلم الكولومبيّ على الحدود بين الكوريّتين الجنوبيّة والشماليّة في المنطقة الدوليّة المنزوعة السلاح. ذلك لأنّ الدولة الكولومبيّة أرسلت فرقة عسكريّة لمساعدة الأمريكيّين في جهود الحرب الكوريّة في عام 1951. آنذاك فهمت أنّ النخبة الكولومبيّة، منذ عقود، مصابة بعقدة العالميّة، والرغبة في الهرولة وراء ما يُسَمّى زورًا ’المجتمع الدوليّ‘. هذه العقدة هي ذاتها الّتي أدّت إلى اعتقال أحد أقربائنا في العاصمة بوغوتا في العقد الأوّل من الألفيّة، وذلك بتهمة كونه عربيًّا يملك مطعمًا عربيًّا فحسب. حينها كانت النخبة الكولومبيّة حليفة لجورج بوش في حربه على الإرهاب، بعد أن كانت حليفة لرونالد ريجان ومَنْ خلفه في الحرب على المخدّرات.

جيران كولومبيا الإقليميّون الوحدويّون، وإخوتهم في اللغة والثقافة والنسب، فهموا أيضًا هذه العقدة لدى النخبة الكولومبيّة. الرئيس البوليفيّ أيفو موراليس نعت كولومبيا بــ ’إسرائيل‘ أمريكا الجنوبيّة، والرئيس الفنزويليّ هوجو تشافيز قال إنّ "بلدنا الشقيقة تتحوّل شيئًا فشيئًا إلى إسرائيل أمريكا اللاتينيّة". إذا كانت أحد أسباب الحرب الأوكرانيّة هي المركزيّة-الأوروبّيّة المفرطة لدى النخبة الأوكرانيّة - الّتي تذكّرنا بأيديولوجيّة اليمين في الحرب الأهليّة اللبنانيّة - الّتي تمثّلت برغبتهم في الانضمام إلى «حلف شمال الأطلسيّ»، فإنّ النخبة الكولومبيّة حملت في داخلها رغبات وأهدافًا متشابهة، عندما جعلوا كولومبيا في عام 2017 من شركاء «حلف شمال الأطلسيّ» الدوليّين، قبل أن رُفِعت إلى درجة دولة من كبار شركاء «حلف الأطلسيّ» في بدايات عام 2022.

 

انبثاق اليسار

كولومبيا وطن الكاتب جابريل جارسيا ماركيز، وهي بذلك مسقط رأس الواقعيّة السحريّة في أمريكا اللاتينيّة. يعرّف مسلسل «ناركوس» (2015 - 2017) الواقعيّة السحريّة، بأنّها ما يحدث عندما يجري غزو بيئة واقعيّة في غاية التفصيل والدقّة، بشيء غريب جدًّا بحيث لا يمكن تصديقه. هذا ما حدث في عام 2021، عندما بنت مجموعة من أحزاب اليسار والوسط في كولومبيا تحالفًا سياسيًّا يُدْعى «المثياق التاريخيّ»، أدّى إلى الفوز بانتخابات الكونجرس الكولومبيّ، وانتخاب الرئيس اليساريّ الأوّل في تاريخ كولومبيا الحديث، جوستافو بيترو، في التاسع عشر من حزيران (يونيو) 2022.

 

 

يبدو لي أغرب من الخيال أن أتى يوم، فيه يتحدّث الرئيس الكولومبيّ بنبرة داعمة للفلسطينيّين، مناهضة للهيمنة، نقيضة لكلّ مسلّمات النخبة الكولومبيّة السابقة وعقدها. يقول جوستافو بيترو في «الجمعيّة العامّة - الأمم المتّحدة»: "أتساءل ما الفرق بين أوكرانيا وفلسطين، ألا ينبغي وقف جميع الحروب، وأن نستفيد من الوقت المتبقّي لرسم المسار من أجل إنقاذ الحياة على هذا الكوكب؟". وقال أيضًا إنّ "الأسباب الّتي دفعتهم إلى الدفاع عن الرئيس الأوكرانيّ فولوديمير زيلينسكي، هي الأسباب ذاتها الّتي يجب أن تدفعنا إلى الدفاع عن فلسطين".

بعد «طوفان الأقصى»، وردّ فعل على تصريحات وزير الدفاع الإسرائيليّ يوآف جالانت العنصريّة والإباديّة بشأن تطويق قطاع غزّة وتدميره، ردّ الرئيس الكولومبيّ بيترو منتقدًا بأنّ هذه سياسات نازيّة، ولا يمكن السماح بإعادة تأسيس النازيّة في العلاقات الدوليّة. وبعد أن وبّخت الحكومة الإسرائيليّة السفيرة الكولومبيّة لدى إسرائيل، ردّ بيترو: "إذا كان لا بدّ من تعليق العلاقات الخارجيّة بإسرائيل، فإنّنا سوف نعلّقها. نحن لا نؤيّد الإبادة الجماعيّة".

يعرّف مسلسل «ناركوس» الواقعيّة السحريّة، بأنّها ما يحدث عندما يجري غزو بيئة واقعيّة في غاية التفصيل والدقّة، بشيء غريب جدًّا بحيث لا يمكن تصديقه...

ما يزيد من غرائبيّة هذا التغيير الجذريّ الكولومبيّ هو تاريخ الرئيس جوستافو بيترو؛ إذ كان ضابطًا سابقًا معاديًا للحكومة المركزيّة في «حركة التاسع عشر من أبريل» البوليفاريّة، الّتي نفّذت في عام 1974 عمليّة قد تظنّها مشهدًا في إحدى روايات الواقعيّة السحريّة، حيث سرقت مجموعة من أفراد الحركة أحد سيوف الثوريّ سيمون بوليفار، مؤسّس دولة كولومبيا الكبرى ورئيسها عام 1819.

في تاريخ 20 تمّوز (يوليو) من الصيف السابق، جلس جوستافو بيترو بملبس متواضع في الهواء الطلق (لم أفهم في البداية أنّه الرئيس) أمام عدسة الكاميرا؛ من أجل إلقاء كلمة طويلة لمناسبة ذكرى استقلال كولومبيا، عندئذٍ قال إنّ الكولومبيّين كانوا دائمًا طلائعيّين منذ اندلاع ثورتهم في القرن التاسع عشر، وأضاف أنّه يجب على كولومبيا أن تستعيد هذا الدور الطلائعيّ لحلّ المعضلات الّتي تواجهها البشريّة.

هذا الفرق بين العالميّة المزيّفة والأمميّة الأصيلة، يمكّننا من استقاء درس للمطبّعين التقدّميّين العرب، ويمين ’عقدة العالميّة‘ العربيّ، مفاده أنّه لا يمكن أن تكون طلائعيًّا وصديقًا للاستعمار الإسرائيليّ في الوقت ذاته.

 


 

فخري الصرداوي

 

 

كاتب وقاصّ من رام الله. يعمل في مجال القانون الدوليّ والعلوم السياسيّة، حاصل على الماجستير في العمل الدوليّ الإنسانيّ من «جامعة ديوستو» في إقليم الباسك. يهتمّ بالكتابة الساخرة من المجتمع التقليديّ، ومن ثقافة الصوابيّة السياسيّة على حدّ سواء.

 

 

 

التعليقات