15/01/2024 - 10:03

آخر راكب لغزّة

آخر راكب لغزّة

صيّاد فلسطينيّ قرب مخيّم النصيرات، قطاع غزّة، 26/10/2023 | Getty.

 

زرت كلّ محافظات فلسطين، ومشيت في شوارعها، وشربت من ماء سبيلها، وتسكّعت في مقاهيها، لكن غزّة الّتي ما إن نضجتُ وصار بإمكاني أن أزورها، حتّى أصبحت عصيّة على الزيارة والوصول والاقتراب.

أتذكّر من جملة ما أتذكّر كيف قفز الرئيس أبو عمّار في مفاوضات «واي ريفر» أو «طابا»، لا أذكر، لكنّها كانت نهاية حقبة مفاوضات بين الفلسطينيّين والاستعمار الصهيونيّ، وهو يتساءل مندهشًا عن اختفاء الـ ’kissing point‘ بين الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة. كانت قبلة الالتقاء هذه هي الجسر الّذي سيربط ما تبقّى من الوطن بعد شلّالات التآكل المروّعة الّتي عصفت به، بعد أن حذفها الإسرائيليّون من الاتّفاقيّة حينذاك. وعدوا الرئيس الراحل بطرق آمنة وممرّات تضمن الوصول إلى القطاع والعودة منه، لكن سرعان ما انهارت الفكرة كلّها أسفل جنازير الدبّابات، والحصار المزمن الّذي نهش البلاد بلا أمل من الخلاص.

أقفز اليوم في مكاني الكثير من القفزات، وأنا أتخيّل لو كان ثمّة قبلة صغيرة للالتقاء، قبلة تحملني متى شئت لأزور المدينة الّتي اختصرت القطاع كلّه، أو القطاع الّذي تواطأ مع المدينة الّتي تريد أن تختصر كلّ ما فيه من ألوان وطباع ولهجات وشواطئ.

دائمًا ما يعاتبني أصدقاء من القطاع: القطاع فيه رفح وبيت لاهيا ودير البلح، القطاع فيه الشجاعيّة والنصيرات وجباليا وخان يونس وبيت حانون، القطاع ليس غزّة فقط...

دائمًا ما يعاتبني أصدقاء من القطاع: القطاع فيه رفح وبيت لاهيا ودير البلح، القطاع فيه الشجاعيّة والنصيرات وجباليا وخان يونس وبيت حانون، القطاع ليس غزّة فقط... فيه البدو واللاجئون والفلّاحون، وفيه الوسط والشمال والجنوب، لماذا تصرّ على اختصار كلّ ذلك في غزّة فقط؟

أتذكّر في الجامعة، قُبَيل «انتفاضة القدس والأقصى» (المعروفة بـ «الانتفاضة الثانية» أيضًا)، كانت الجامعة تعجّ بالغزّاويّين، كانت غزّة آنذاك، ووفق تقسيمة المحافظات، ثاني أكثر محافظة بعد رام الله من حيث عدد الطلبة. ثمّ، في ليلة من ليالي الاجتياح، اعتقل الاستعمار معظم الطلبة الغزّاويّين ورحّلوهم من جديد إلى القطاع، لم يبقَ من الغزّاويّين إلّا قلّة قرّرت أن تواصل حياتها هربًا إلى أن حصلوا على بطاقات الهويّة بعد سنوات.

قبل عشرين عامًا، عملت في شركة للردّ على استفسارات الناس، وصلني مرّة اتّصال صباحيّ من غزّة، كان الرجل في الطرف المقابل بطيئًا في الكلام، ويترك بين الكلمة والكلمة فراغًا سمعيًّا. كان الرجل يجلس على الشاطئ، سمعت صوت الموج، وسمعت صوت فيروز تدوّي حوله: "يا طير يا طاير على طراف الدني لو فيك تحكي للحبايب شو بِني"، كان مزيج هدير الموج وأغنية فيروز، ساحرًا، جعلني أريد أن أُطيل المكالمة أطول وقت ممكن.

أمضيت الكثير من الوقت بعد ذلك أتخيّل المشهد، بالكثير من الاستسلام للخيال: صباح تفتح برودته اليدين للصيّادين، وصيّادون يستسلمون لاندفاعات الهدير إلى الميناء في حركة يألفها الميناء مثلما تألفها الأمواج. الموج تعلّم الألفة من الحمام، الألفة فهم مريح لا يُدْرَك بالقواعد، وفيروز تطوّع القلب على شمس ستجيء على البحر وترحل عنه، وتعود إليه، هذا فهم الصيّاد للطبيعة والكون والحياة.

لطالما حسدت الأصدقاء الغزّاويّين على نعمة البحر، وصوت البحر، ورائحة البحر، والإطلالة على البحر. أنا من المحرومين من نعمة البحر، مع أنّني وُلِدْتُ ونشأتُ في مدينة يُطْلَق عليها في الوضع الطبيعيّ مدينة ساحليّة، ترى البحر من مبانيها العالية، ذات ظهيرة صافية، ويصرخ الناس فيها من شدّة الرطوبة في الصيف، لكن يُمْنَع عليهم الوصول إلى البحر.

أتأمّل العبارة المتحسّرة الّتي تُطْلَق هنا وهناك في كلّ أيّام الصيف: "لم يبقَ لنا من البحر إلّا رطوبته!". لطالما كانت سيرة البحر مفتوحة على مصراعيها بيني وبين كلّ غزّاويّ التقيته، أو صادفته في مساحات التواصل الاجتماعيّ، عندما أصبحت هذه المساحات هي المتاح الوحيد للقاء هؤلاء، البحر والرطوبة والساحل، مفاتيح لأحاديث لا تنغلق عن الضفّة المحرومة من البحر، والقطاع المحروم من الوصول إلى اليابسة البعيدة.

لطالما حسدت الأصدقاء الغزّاويّين على نعمة البحر، وصوت البحر، ورائحة البحر، والإطلالة على البحر. أنا من المحرومين من نعمة البحر...

عندما وصلت إلى رام الله في أوّل أيّامي الجامعيّة، شاهدت تاكسيّات تنقل الناس إلى غزّة، كان سائق التاكسي يقف في شارع محاذٍ لـ «دوّار المنارة» الشهير وسط رام الله، وينادي "آخر راكب لغزّة". لطالما أخذتني فكرة الصعود إلى أحد تلك التاكسيّات المتأهّبة للانطلاق إلى غزّة، وأستسلم لغموض الرحلة إلى أرض بعيدة، لا أعرفها ولا تعرفني، أصل إلى هناك، وأسلّم نفسي إلى الطرقات والوجوه الغريبة. لم أقوَ على فعل ذلك، ولو عاد بي الزمن إلى هناك لما فعلت، أنا الّذي يخاف من التجارب الغامضة، وتسلّق الأسوار العالية، هذه ضريبة الاتّكاء على الوسائد الوثيرة والمقولات الآمنة، ندم على سحر الاكتشاف، وارتماء في حضن المألوف والمطروق والاعتياديّ.

غزّة الّتي في ذهني ملوّنة، مفعمة بالألوان والأصوات والحركات، سوق شعبيّ مكتظّ بالضحكات والصرخات الواثقة. أتأمّل دائمًا الأصوات الّتي تصل من هناك، واثقة وعميقة، منحتها التجربة عمقًا لا نعرفه ولا نفهمه، أو بعدًا لا ندركه، شكّله الصبر والانتظار بسكّين الوقت والأمل الخافت.

ثمّة فكرة يريد الأمل أن يلقيها أمامنا، فكرة تتجاوز الحاليّ والراهن والمتاح، ربّما، لكن، لماذا أتخيّل الأصفر والبرتقاليّ والأزرق أبطال الألوان في غزّة، وسادة مشهدها بلا منازع، هل لأنّ شمس غزّة صفراء فوق الحدّ، وبرتقالها ماجن فوق هذا الحدّ، وبحرها أزرق أكثر وأبعد من كلّ الحدود؟

لكنّي الآن، أتذكّر المتّصل الهادئ الرصين هذه الأيّام، وأتخيّل جلسته، صيّادًا صبورًا لا يملّ طريقته في الجلوس يقابل الشاطئ، يدرسه ويفهمه ويطوّعه بذهن الصيّاد، وأعيد فيروز في الذاكرة إلى مكانها، صوتًا قادمًا من سمّاعة الهاتف، هادئًا قويًّا واثقًا وباردًا بما يليق بنسمات صباح ذلك اليوم.

أتخيّل نفسي طيرًا، أو سابحًا على جناح طير يحلّق فوق ما حلّ بغزّة من جراح وندوب وكدمات، أمسح بعيني فظاعة المشهد، أردع نفسي عن دهشة ليست في مكانها، أوازن فكرتي عن مدينة عظيمة يُراد لها التخريب والمسح عن وجه الخريطة.

ثمّة مَنْ يريد لغزّة أن تتوقّف دائمًا دون أن تصل إلى مرادها، أو قبل أن تنطق كلمتها، وإذا فعلت تُعاجلها إرادة الحرب بالقتل والغزو والعدوان...

أتوقّف أو أطلب من طيري أن يتوقّف، ألمح ما لم ترَ عين أنس قطّ، ولا خطر على بال بشر، كيف استطال وعي الخراب وخيال التدمير وإرادة الإزهاق والإجهاض إلى هذا الحدّ في أرض طفلة لم تشخ! لطالما كانت غزّة طفلة تجربة لم تكتمل، ولم تقترب من نهاياتها. ثمّة مَنْ يريد لغزّة أن تتوقّف دائمًا دون أن تصل إلى مرادها، أو قبل أن تنطق كلمتها، وإذا فعلت تعاجلها إرادة الحرب بالقتل والغزو والعدوان.

أفكّر هذه الأيّام في أنّني لا أريد أن أصل إلى غزّة، لا أريد أن أعبر أسوارها وبوّاباتها الحديديّة الثقيلة، لا أريد أن أنهض من حلمي الطويل واعيًا أمام شساعة مشهدها، ولا أريد أن ينزلني التاكسي في مقتبل طريق يؤدّي إليها، وأعلن لحظة الوصول الأخيرة إليها. أنا ببساطة لا أريد أن أصل، أريد أن تظلّ الفكرة في ذهني بكرًا أصيلًا متخيّلًا، لا يخدشه الواقع، ولا يعتدي عليها اختلال التوقّعات. أريدها مثلما استولدتها الهواجس والأحلام، مدينة بعيدة، بطلة وعالية، عصيّة على القبض والعيش والوصول، وسلسة في الوعي والذاكرة، لا أقلّ ولا أكثر.

 


 

أمير داود

 

 

 

كاتب وباحث في الشأن الثقافيّ من فلسطين. يكتب في منابر عربيّة وفلسطينيّة، صدرت له مجموعة نصوص سيريّة بعنوان «صديق نقطة الصفر».

 

 

 

التعليقات