17/01/2024 - 10:44

"لمّا نروّح"... اتّكاء الغزّيّ على دمعه وأمله

فلسطينيّون في شاطئ دير البلح خلال الحرب الإسرائيليّة، 19/12/2023 | أشرف عمرة

 

إن لم تفقد شيئًا في الحبّ فستجد نفسك هاربًا منه. لم أفقد قدرتي على الكتابة، كانت الأفكار ملحّة، وكان التنكّر لها وسيلتي الوحيدة. عشرات المحاولات المؤجّلة مع الكتابة، أتساءل بها: لماذا أخاف هذه المواجهة؟ أمِن فعل الكتابة نفسه، أم أنّه تدافع الأحداث الّتي أحتاج إلى أن أتحدّث عنها؟

يملك الغزّيّ من الكلمات ما يستطيع أن يمتلك به قاموسًا جديدًا خاصًّا به؛ كلمات لا يعرفها العالَم، وحده الغزّيّ يعرفها ويأتي بمرادفاتها، يضعها في جمل معقّدة وبسيطة، وفي سياقات خاصّة، وفي كثير من الأحيان يواجه العالم بالصمت الأبلغ من كلّ المفاهيم.

 

النداء الأخير

قبل ثلاثة شهور، كانت كلمة "يمّا بدّي أروح عالجنوب" أمرًا صعبًا، تقبل به بعد محاولات عدّة، أزور صديقتي سريعًا وقبل الغروب، أعود إلى البيت فتطمئنّ. في اليوم السابع من الحرب كانت المرّة الأولى الّتي أسمع فيها صوت أمّي تنادي: "بدنا نروح عالجنوب". كلمتان قُطِع بهما شرود ذهني، كان الخوف يلبس وجوهنا جميعًا - عائلتي وبيت عمّي بأبنائه وزوجاتهم، أختي مع زوجها وعائلته - تلتقي عيوننا الشاردة، ونفهم دون كلام أنّنا نتساءل "وين نروح؟".

كان علينا أن نودّع البيت؛ الغرف، والتفاصيل الّتي لا يعرفها سوى صاحب البيت، لكنّنا تخيّلنا أنّ هذه اللحظة إمّا أن تودّع ذكرياتك وإمّا أن تصبح ذكرى...

صباح الجمعة الأولى من الحرب، انتشر الحديث عن النزوح جنوب الوادي كالنار في الهشيم، على شرفة البيت تجمّعنا، نراقب بذهول طوابير البيوت المحمّلة على ظهر السيّارات والشاحنات، ونردّد "إحنا مش طالعين، وين بدنا نروح؟"، دقائق وشعرنا بأنّ الأصوات اقتلعت قلوبنا، وفي لحظة تحوّل الحديث إلى أنّنا سنخرج، وحاول كلّ شخص فينا أن يهتدي إلى مكان يأوينا جميعًا.

كان علينا أن نودّع البيت؛ الغرف، والتفاصيل الّتي لا يعرفها سوى صاحب البيت، لكنّنا تخيّلنا أنّ هذه اللحظة إمّا أن تودّع ذكرياتك وإمّا أن تصبح ذكرى. خرجتُ من البيت دون نظرة أملأ بها قلبي وعقلي به، حتّى الآن لا أذكر كيف انتقلنا من البيت إلى الروضة؛ مركز الإيواء. آخر ما أذكره من البيت نداء أمّي بضرورة خروجنا إلى الجنوب.

 

ماذا يجب أن تعرف؟

أنت الّذي امتلكت مفاتيح الحياة، وبيديك الطامحتين رصفت كلّ الدروب، ووضعت خطوتك الأولى على حلم يحاصرك وتحاصره، تجد نفسك في لحظة خاليًا من كلّ شيء عدا الخوف، لا عمل، لا أصدقاء، لا زملاء تتنكّرون لبعضكم بعضًا وفي نهاية اليوم تبتسمون مودّعين، لا وظائف معقّدة تحتفل بعد إنهائها، واقعًا في فراغ يُخَيَّل إليك أنّه حلم، تقلّب ذكرياتك يمينًا ويسارًا خوفًا من أن يعفّنها ركودها الطويل.

في الأسبوع الأوّل من نزوحنا، كان الرفض مسيطرًا على سلوكي وأقوالي، أنام وأصحو في انتظار اليوم الّذي نعود فيه، لا أعرف شيئًا عن العالم، ولا يعرف عنّي أصدقائي إلّا القليل. بعد أيّام، كان عليّ أن أعتاد، خرجت لأرى وجوهًا لا أعرفها تشاركنا مركز الإيواء، وكان عليّ - بشكل أو بآخر - أن أتعامل مع الغرباء، وأشاركهم لحظات يومهم.

قبل السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر)، كنت أقول عن أيّ تجمّع لأشخاص لا أعرفهم ’زحمة‘، وأهرب من المكان. عرفت أنّ الأشياء أصبحت صعبة، كلّ شيء تريد شراءه صعب، كلّ شيء تريد صنعه سينقصه شيء لا محالة، وحتّى تعود منتصرًا عليك أن تخوض صراعًا لأجل بعض الأرغفة. وبعد أيّام عرفنا جميعًا أنّ هذا المكان سيأخذ من أعمارنا أيّامًا عدّة، فهمنا وتعلّمنا ما لم يخطر ببالنا.

حتّى تعيش عليك أن تعرف كيف تنتهز الفرص، وتقاوم تعب أقدامك، كيف تتجاهل يديك الخشنتين السوداوين، وزفير رئتيك للدخان الأسود...

حتّى تعيش عليك أن تعرف كيف تنتهز الفرص، وتقاوم تعب أقدامك، كيف تتجاهل يديك الخشنتين السوداوين، وزفير رئتيك للدخان الأسود. عليك أن تعرف كلّ طرق الوقاية كي لا تمرض ولا يمرض طفلك، وإن أصابك مصاب فعليك أن تعرف كيف تداويه دون أن تزعج جارك الّذي فقد شقيقه بآلامك التافهة! وأن تعرف - بالضرورة - دورك في الحصول على المياه المحلّاة؛ حتّى تعيش.

 

لمّا نروّح

على بحر دير البلح نقف بحثًا عن شبكة إنترنت، نطمئنّ على موتنا، نقلّب الأخبار بشكل سريع، نرسل ونستقبل خبر "لسّة بخير"، ونستقبله من الشمال، لا يستمرّ وقوفنا أكثر من خمس عشرة دقيقة، ونعود إلى مركز الإيواء. على باب المركز تستقبلنا النساء والأطفال "في أخبار؟ في هدنة؟"، أهزّ رأسي نافية، يحنون رؤوسهم حزنًا. وعند خروجنا مرّة أخرى تُودّعنا الجارات: "جيبوا أخبار حلوة ها"، تشعر بمسؤوليّة كبيرة، تفتّش عن أيّ خبر؛ عن أمل... هل هناك أمل؟

انقطعت الاتّصالات بعد أسابيع من الحرب، لا تمتلك فيها وسيلة لتطمئنّ بها على أحد. يومان من تربية الأمل، أقول: "أكيد خواتي بخير، عندي أمل رح نجتمع"، والآن بعد أن نزحت اثنتان منهنّ إلى الجنوب، أقول "أكيد رح نجتمع في البيت تاني، عندي أمل". أرسل إلى صديقاتي اللواتي يحتفظن بالبكاء والحديث والضحك الّذي علينا أن نقضيه معًا: "رح نجتمع ونضحك ونعيّط، الوضع صعب بسّ عندي أمل!".

في الغرفة الّتي أشترك بها مع خمس وعشرين فتاة من بنات عمّي وعائلتي، لا ننفكّ نتخيّل اليوم الّذي نعود فيه إلى الشمال. ننام ونحن نلقي المزحات، أو نوزّع الذكريات فيثقل القلب وننام هربًا من المفارقة بين ما كان وما نحن فيه الآن، ثمّ نصحو لنتبادل حديثًا يبدأ بـ "لمّا نروّح". ماذا نسمّيه بعد 93 يومًا من الحزن والفقد والتوحّش؟ أهو الأمل حقًّا؟

 

كم مرّة بكيت؟

في أوّل أيّام النزوح، كان الدمع متفجّرًا، كلّما سمعت صوتًا من الشمال رددت بالبكاء، وكلّما تذكّرت طيف البيت الّذي لم أودّعه لفظ قلبي نارًا تشعل الدمع ويجري. لكنّ الركض خلف الحياة وأخبار الموت الّتي تنصبّ من الهاتف صبًّا جعلت البكاء عزيزًا.

إن كان البكاء هو الدموع فقط، فالغزّيّ الآن فقير لا يملك دمعه، ربّما يتحشرج صوته وأنت تحدّثه، ربّما يعدل عن حديثه فيصمت طويلًا، لكنّه لن يبكي، أمّا قلبه فإنّه ينزف، أشعر بقلوبنا يعضّ عليها الألم، ولا نعرف كيف نصرخ أو نبكي. كتب أكرم عجور في تعزية صديقه الّذي فقد أخاه في الشمال، وأُصيب الآخر إصابة بليغة: "صديقي معاي في الجنوب استشهد أخوه في غزّة، وانصاب الثاني إصابة بليغة في عينه، وأمّه الآن وحيدة في غزّة، كيف أواسيه؟ حدّ بيعرف؟ بكتب عشان مش قادر أصرخ ولا أبكي".

إن كان البكاء هو الدموع فقط فالغزّيّ الآن فقير لا يملك دمعه، ربّما يتحشرج صوته وأنت تحدّثه، ربّما يعدل عن حديثه فيصمت طويلًا، لكنّه لن يبكي...

وحين عرفت الشابّ الّذي يقصده أكرم لم أصرخ، ولم أبكِ، لكنّني شعرت بقلبي، يفتّته الحزن أجزاء، يجمّعه ويفتّته مرّات متكرّرة، ليتنا نصرخ، ليتنا نبكي!

الغزّيّ المقهور قضى نصف عمره يتوكّأ على دمعه، يهشّ به ألمه وخوفه، تارة يفقد بيته الّذي سخّر حياته في بنائه، وتارة يفقد عائلته الّتي صمّم كلّ ركن في البيت وهو يتخيّل الأحاديث الّتي ستدور بينهم في هذا الركن. رغم كلّ ما مرّ به الغزّيّ لم يتخيّل أنّ يومًا سيأتي عليه لا يملك فيه بيتًا، ولا عائلة، ولا جارًا يحكي له لحظاتهم الأخيرة.

 


 

ضحى الكحلوت

 

 

 

كتابة من قطاع غزّة ومعلّمة لغة عربيّة، صَدَرَ لها ديوان شعريّ بعنوان «أشباه» (2018). نشرت نصوصًا ومقالات في عدّة مجلّات ومواقع إلكترونيّة.

 

 

 

التعليقات