29/01/2024 - 13:14

أخوي يا لافي ياللّي ظهري فيك دافي

أخوي يا لافي ياللّي ظهري فيك دافي

أخوان يجلسان وسط حطام منزلهما في رفح، 18/11/2023 | محمّد عابد.

 

يقول المثل الشعبيّ الفلسطينيّ: "أخوي يا لافي ياللّي ظهري فيك دافي"، وفي هذا المثل الكثير من لون الأرض والتراب، ليضفي معنًى أو ربّما ليعبّر عن كينونة شعب، في زمن وجد فيه الفلسطينيّ الغزّيّ نفسه متقاسمًا الألم والرغيف، ومتلاحمًا مع الجار، في وجه حرب الإبادة الصهيونيّة على البشر والحجر والذاكرة.

وإن كان لا يمكن اختزال المعنى في مثل شعبيّ، فقد تكون القيم همزة الوصل بين الثقافة والفعل الإنسانيّ على الأرض؛ ففي وقت كان فيه الاستعمار الإسرائيليّ يقصف المنشآت الثقافيّة والإرثيّة والشعبيّة، وأهمّها «الجامع الكبير» و«بيت السقّا»، يأتي التأكيد على أهمّيّة هذه المنشآت، ليس فقط لأنّها تعبّر عن هويّة شعبها وأرضه وتاريخه وحاضره، الّذي يساهم في تكوين العقل والفعل الجمعيّ، بل هي مصدر للمعرفة بكلّ أبعادها القيميّة والفكريّة، وغير ذلك من المعرفة الاجتماعيّة والإنسانيّة[1]؛ ولهذا، فإنّ تدميرها يعني محاولة نسف هذه المنظومة وشرخها في ذهنيّة الفلسطينيّ.

في المقابل، لا يمكننا أن نتجاهل القناديل الّتي تُغْرَس في الظلام؛ ففي الفعل الغزّيّ حفاظٌ على قيمة الحياة نفسها، وهذا الفعل نتيجة الخطاب الثقافيّ الّذي يمارسه خلال الحرب، وهو ما ستحاول المقالة تناوله.

 

كيس الطحين الوحيد

يقول إميل سيوران في كتابه «غسق الأفكار» (2020): "تموت المنظومة وتنتصر الحياة، حين تنبثق المفارقة. ومن خلال هذه المفارقة ينقذ العقل شرفه أمام اللامنطقيّ. التجديف أو النشيد، وحدهما يمكنهما التعبير عمّا في الحياة من اضطراب. مَنْ ذا الّذي ما زال يعرف كيف يحافظ على هذا المخرج: المفارقة بوصفها شكلًا ضاحكًا للامنطقيّ"[2].

تأخذني هذه الكلمات إلى أحد الفيديوهات المؤلمة الّتي تأتي من قطاع غزّة، الّتي تبدو وكأنّها في كوكب آخر لسورياليّة ما يحصل فيها، وبعد أن أُفْرِغت المخابز ودُمِّرت، ونقص الدقيق والرغيف. في وسط حشود تبحث عن الطعام، ولم يكن لدى أحد طحين، بالتزامن مع منع دخول شاحنات المساعدات الإنسانيّة، يظهر رجل وبحوزته كيس من الطحين، وعلى الغلاف كُتِب أنّه من إنتاج مصر. يقول العمّ الّذي كان بحوزته: "والله هاظا هو الوحيد اللّي عندي، قلت بدّي أخلّيه عشان نعمل خبز لأهلي وعيلتي وللناس النازحة اللّي عندنا. بسّ عرفت إنّه ما في كيس طحين غيره، قلت خلّيني أتبرّع فيه وأطعم هالناس معنا".

حسّ التكاتف هذا ليس إلّا نزعة مزروعة في مخطّط الجسد والفكر. إنّه تعبير عن حالة الناس في حالة الطوارئ...

في التراجيديا السوداء، تكون هذه السلوكيّات بصفتها ثقافة معبّرًا عن الفكر الحاضن للقيم؛ حسّ التكاتف هذا ليس إلّا نزعة مزروعة في مخطّط الجسد والفكر. إنّه تعبير عن حالة الناس في حالة الطوارئ، الّذين يكونون على حالتهم الطبيعيّة والصادقة الّتي تعبّر وتحاكي ما في داخلهم من قيم إنسانيّة تقود الفكر والسلوك والفعل[3].

ليس المثال السابق الوحيد؛ فالأمثلة تتعدّد والألم واحد؛ فقد نُظِّمت حملات تبرّع يقودها أفراد من خلال جمع تبرّعات عينيّة ومادّيّة، مثل حملة محمود زعيتر، وهو بالأساس فنّان كوميديّ من غزّة. شكّلت هذه الحملات وسيلة لمواجهة الموت المجّان، وبوصفها أسلوب مقاومة بشريّة في وجه الطغيان الّذي يتعرّضون له، كابتكارات أُرْغِموا عليها لمواجهة اللامحتمل من الحياة، في وقت تخلّت المؤسّسات الإنسانيّة عن دورها في تأمين أبسط الحقوق، من أمان ومأكل وماء ومبيت وصحّة.

توفّر الأنماط الثقافيّة البنية الاجتماعيّة اللّازمة لظهور إستراتيجيّات لتنظيم الحياة، والمساعدة في إدارة الأزمات؛ فهذه الثقافة لا تؤثّر فقط في الفعل بل أيضًا في الروابط الاجتماعيّة؛ في محاولة للمواساة والتآخي الاجتماعيّ لتخفيف العذابات الأليمة المعيشة. هذا ما يجعل الغزّيّين يمارسون طرقًا جديدة لتنظيم العمل الفرديّ والجماعيّ؛ ما يمكّنهم من الشعور بأنّهم وحدة إنسانيّة في مواجهة عبثيّة الموت، والدمار، والتجويع[4].

هذه الثقافة بمنزلة نسيج المعنى الّذي تقع فيه أفعالهم، حيث النظر إلى الفعل الاجتماعيّ من زاوية المعنى الّذي يؤدّيه الفعل، من خلال خلق إمكانيّات جديدة؛ لتكون القيم المؤشّر الّذي يقود السلوك الإنسانيّ في الظروف الصعبة. بكلمات أخرى، فإنّ طريقة تعامل البشر مع الحياة تتشكّل من خلال ثقافتهم.

 

الممارسة الثقافيّة ملجأ

يتحدّث كليفورد غيرتز في كتابه «تأويل الثقافات» (2009) حول المفارقة بين المجتمعات الّتي تتحدّث بلسان التمدّن والتطوّر، مستخدمةً اللغة والعرق والدين والهويّة الوطنيّة في تحديد هويّة المجتمع، على خلاف المجتمعات الّتي ما زالت في سلّم بناء الدولة، الّتي تتحدّث بلسان أنّ السلطة الشرعيّة الحقيقيّة تنبع من الالتزام الداخليّ الأخلاقيّ، المرتبط بسلامة النفس الّتي تقود سلوك الإنسان[5].

توفّر الثقافة ذخيرة من القدرات الّتي يمكن من خلالها اتّباع طرق تمكّن الناس من مواجهة ظروف الحرب القاسية الّتي يتعرّضون لها في قطاع غزّة. مثلًا ما تقوم به «فرقة صول الغنائيّة» في القطاع؛ إذ ينظّمون أنفسهم ويجمعون ذواتهم، ويتنقّلون بين حشود الناس، ويزرعون البهجة في نفوس الكبار والصغار، وبأيديهم الآلات الموسيقيّة البسيطة، وأصواتهم الّتي تصدح بالسماء، وهم يغنّون للحياة والوطن وسط الدمار والخراب المحيط بهم.

توفّر الثقافة ذخيرة من القدرات الّتي يمكن من خلالها اتّباع طرق تمكّن الناس لمواجهة ظروف الحرب القاسية الّتي يتعرّضون لها في غزّة...

ذلك لا يضفي فقط الفرح بل يضيف معنًى للإنسانيّة باستخدام الغناء وسيلة للمواساة الشعبيّة، والدعم الاجتماعيّ. وهنا يعني النظر إلى الذات وارتباطها بالجماعة، وأنّ الشخص كيان مرن متّصل بالآخرين، وليس منفصلًا. ومن جهة أخرى، توظيف هذه الممارسة من أجل لفت انتباه العالم، بهدف الحدّ من الإماتة الّتي يتعرّض لها الغزّيّون[6]. كما تعمل الممارسات الإنسانيّة الصادقة على تجسيد الترابط بين الأفراد وبيئتهم الاجتماعيّة، بحيث يمكننا أن نرى أنّ العواطف نفسها تمثّل ممارسات ثقافيّة تعزّز الأفكار الثقافيّة المهمّة الخاصّة بالوعي الجمعيّ، والقيم الاجتماعيّة، وتؤكّد على أنّ العلاقة الذاتيّة تنتمي، وترتبط بالآخر[7].

السياق الّذي وُضِع فيه الغزّيّ في حرب الإبادة جعل استجابته للظروف والتكيّف معها من خلال ردود فعله، وهي ليست عفويّة بقدر العاطفة الّتي كانت المحرّك لهذه السلوكيّات الّتي وفّرتها الخلفيّة الثقافيّة للمجتمع. قد نرى هذا في كثير من السلوكيّات الّتي أعادت الكثير من المعنى للوظائف وجدّدت تعريفها. فمثلًا الصحافيّ وائل الدحدوح، مراسل قناة «الجزيرة»، وهو يتنقّل ببدلته الصحافيّة، وبإنسانيّته، بين الخيم الّتي لجأ إليها النازحون، ويجري العديد من الحوارات معهم، يحاول أن يواسيهم، ويرفع من معنويّاتهم. هذه السلوكيّات والأفعال ممارسات مشبعة ثقافيًّا تستلزم التعامل مع مجموعات من المعاني والممارسات الخاصّة بالخلفيّة الثقافيّة. إضافة إلى تعريف الذات والتعبير عنها بوصفها مترابطة مع الجماعة، بالرغم من أنّ الذات لا توجّه الفعل بقدر ما تتكيّف مع متطلّبات الآخرين والسياق، بشكل عامّ[8].

 

يتقاسمون كلّ شيء

في أحد المواقف المؤلمة، الّذي صوّره أحد الفيديوهات لأخ يحتضن أخته وأخاه وهما يبيكان بعد أن قصف الاحتلال بيتهم، واستشهدت والدتهم. يقول الأخ وهو يرجف: "أنا بردان، وينك يا إمّي تدفّيني". خلع أحد المارّين معطفه، ووضعه على جسد الشابّ، ثمّ مضى.

 

 

في الحوار الّذي أُجْرِي مع الدكتور غسّان أبو ستّة، في بودكاست «أثير البلاد» الّذي تقدّمه الإعلاميّة منى عمري، يقول: "النّاس في غزّة يتقاسمون كلّ شيء". هذا يعيدني إلى المثل الشعبيّ الّذي ذكرته بدايةً، في التعبير عن واقع قطاع غزّة الصعب، عبر صورة ذلك الطفل وبيده الطنجرة بلونها الأزرق، وكانت ردّة فعله بعينين حائرتين، بعد أن نفد الطعام الّذي يُوَزَّع على النازحين، لكن إحدى أيادي الخير، قسّمت الطعام بينهم، وعاد بفرح بعد أن حصل على أبسط الحقوق الّتي سُلِبَت منه.

 


إحالات

[1] شيخي أوسي اسماعيل، التراث الثقافيّ الفلسطينيّ بين الطمس والإحياء (مفهومه, أنواعه, أهمّيّته)، مجلّة التراث، (1)، عدد (29)، 2018، ص. 357- 376.

[2] إميل سوران، غسق الأفكار،( ترجمة عبدالوهّاب ملّوح)، (السعوديّة: دار صفحة سبعة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2020)، ص. 13. 

[3] Pierre Bourdieu, Outline of a Theory of Practice, (Richard Nice, Trans.) (Paris: Cambridge University Press, 1977), pp.15-18

[4] Ann Swidler, Culture in Action,  Symbols and Strategies, American Sociological Review, American Sociological Association April 1986, Vol (51), No. (2), pp. 273-28.

[5] كليفورد غيرتز، تأويل الثقافات، (ترجمة د. محمد بدوي)، (بيروت: المنطّمة العربيّة للترجمة، الطبعة الأولى، 2009)، ص. 509.

[6] Kim, H. S., Sherman, D. K., & Taylor, S. E. Culture and social support. American Psychologist, 2008 Vol. (63), No. (6), pp. 518–526.

[7] Batja Mesquita, Emotions in Collectivist and Individualist Contexts, American Psychological Association, Journal of Personality and Social Psychology, 2001, Vol. (80), No. (1), pp. 68-74.

[8] Batja Mesquita and Hazel Rose Markus, "Culture and Emotion: Models of Agency as Sources of Cultural Variation in Emotion, Feelings, and emotions", edited by Antony S. R. Manstead, Nico Frijda and Agneta Fischer, (Cambridge: Cambridge University Press, 2004), pp. 341–358.

 


 

دلال عودة

 

 

 

كاتبة فلسطينيّة حاصلة على الماجستير في الفولكلور والثقافة الشعبيّة. 

 

 

 

 

التعليقات