25/01/2024 - 09:04

غزّة والمحكمة الدوليّة: من العدوان الدائم إلى الإبادة الجماعيّة

غزّة والمحكمة الدوليّة: من العدوان الدائم إلى الإبادة الجماعيّة

من مظاهرة داعمة لدعوى جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل، إيرلندا، 13/1/2024 | سترينغر.

 

مع إعلان «محكمة العدل الدوليّة» نيّتها إصدار قرار في القضيّة الّتي رفعتها جنوب أفريقيا ضدّ دولة إسرائيل بتاريخ 26 كانون الثاني (يناير) 2024، على أساس ارتكاب الأخيرة إبادة جماعيّة ضدّ الفلسطينيّين في حربها على قطاع غزّة منذ السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023[1]، أرى من الضروريّ مناقشة الانتهاكات الجسيمة الّتي ترتكبها دولة الاحتلال في حقّ أهلنا في القطاع، والّتي تتطلّب تكييفًا للصراع ومن ثمّ الأفعال والمسؤوليّة. فكما صرّح الأمين العامّ لـ «الأمم المتّحدة» بأنّ أحداث 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) لم تأتِ من فراغ[2]؛ في إشارة إلى ضرورة موضعة هذه الأحداث في إطار الصراع بين الشعب الفلسطينيّ ودولة الاحتلال، فإنّه لا يمكن فصل هذه الأحداث عن طبيعة الصراع، والاحتلال صراع دوليّ وفق البروتوكول الإضافيّ الأوّل لـ «اتّفاقيّات جنيف» (1977).

من المهمّ التذكير بالتحليل الّذي قدّمه القاضي المؤقّت جوي فرهوفين (Joe Verhoeven) في قضيّة الكونغو ضدّ أوغندا أمام «محكمة العدل الدوليّة» (2005)، حيث اعتبر أنّه عندما تستخدم دولة معيّنة القوّة، وبشكل غير قانونيّ، فإنّ من واجبها تحمّل مسؤوليّة كلّ النتائج الّتي صدرت عن فعل الاحتلال الّذي يتعارض وميثاق «الأمم المتّحدة» الّذي لم يكن ضمن الدفاع الذاتيّ. عدم احترام قانون شنّ الحرب له تبعات على كلّ الأفعال والفوضى الّتي قاد إليها ذلك؛ إذ لا يمكن التوقّف فقط عند انتهاكات «قانون إدارة الحرب» (Jus in Bello) من خلال الالتزام فقط بقانون الاحتلال دون التعرّض للاحتلال ذاته ولنتائجه[3].

لم ينتج الاحتلال الإسرائيليّ فقط عن فعل عدوانيّ، إنّما مثّل منذ النكبة، ثمّ حرب 1967، عدوانًا مستمرًّا ومتجدّدًا ضدّ الفلسطينيّين في الأراضي المحتلّة منذ ذلك الحين؛ فهو يستخدم حقّ الدفاع عن الذات تبريرًا للعدوان الدائم الّذي يمارسه، والّذي يتجلّى في إستراتيجيّة «جزّ العشب»، أي قمع كلّ فعل تحرّريّ فلسطينيّ وتدميره، في اجتياحات ومداهمات واختراقات للمدن والقرى والأحياء الفلسطينيّة، وفي جولات عسكريّة ضدّ قطاع غزّة (2008-2009، 2012، 2014، 2018، 2021، 2022). لكنّ ما يبرز في الحرب الحاليّة ضدّ قطاع غزّة منحى الإبادة الجماعيّة.

 

الاحتلال الإسرائيليّ عدوان دائم 

سأوضّح لماذا يعدّ الاحتلال الإسرائيليّ عدوانًا دائمًا من خلال ثلاث نقاط.

أوّلًا؛ الاحتلال "حرب مستمرّة ضدّ المجال الحياتيّ الفلسطينيّ" كما يؤكّد جون كولينز، الّذي يستعين بكتابات المفكّر الفرنسيّ بول فيرليو لقراءة الواقع الفلسطينيّ تحت الاحتلال الإسرائيليّ[4]. إذ تعتمد إسرائيل تجاه الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة منذ عام 1967 إستراتيجيّة «جزّ العشب»، الّتي تتجلّى في اجتياحات ومداهمات واختراقات للمدن والقرى والأحياء الفلسطينيّة، وفي جولات عسكريّة متتالية. هذه الإستراتيجيّة تهدف إلى قمع كلّ فعل تحرّريّ فلسطينيّ وتدميره. وتبقى «اتّفاقات أوسلو» 1993-1995، وانسحاب قوّات الاحتلال من قطاع غزّة 2005، تنوّعًا داخل هذه الإستراتيجيّة.

قرّرت حكومة إسرائيل، في عام 2007، اعتبار قطاع غزّة كيانًا معاديًا، الأمر الّذي يسمح لها فرض عقوبات مثل إيقاف الكهرباء، أو ضرب البنية التحتيّة، أو فرض حصار بحريّ. في نظر القيادة الإسرائيليّة، لم يَعُد ثمّة احتلال في القطاع، ومنذ 2007 ثمّة صراع مسلّح بين إسرائيل والقطاع. الموقف الإسرائيليّ في هذه الحالة عبّرت عنه روت لابيدوت[5]، وهي من أشهر الفقهاء الدوليّين في إسرائيل، بأنّ الصراع بين إسرائيل والقطاع  صراع مسلّح وليس احتلالًا؛ لأنّ الاحتلال يتطلّب وجود قوّات مسلّحة في الإقليم. وهنا يكون تفسير الـ ’سيطرة الفعليّة‘ من المادّة 42 في «اتّفاقيّة لاهاي الرابعة»، أنّها تعني قوّات موجودة على الأرض. هذا أيضًا التفسير الّذي تبنّته «المحكمة العليا الإسرائيليّة» في قرار بسيوني ضدّ رئيس الوزراء في تاريخ 30 كانون الثاني (يناير) 2008، ورقم القرار 07/9132: "إسرائيل لا تملك سيطرة فعليّة، ولا حتّى قدرة فعليّة لكي تفرض النظام أو تدير الحياة المدنيّة في غزّة". وبحكم أنّ إسرائيل ليست دولة احتلال فليس عليها أيّ التزامات إيجابيّة؛ وفقًا لـ «معاهدة جنيف» والبروتوكول الإضافيّ الأوّل بتوفير حاجات السكّان المدنيّة، وتلبيتها من عناية صحّيّة وتعليم، والحفاظ على البنية التحتيّة، وغير ذلك. وعليه، فإنّ ما يجري فعليًّا في قطاع غزّة - وفقًا للموقف الإسرائيليّ - حصار وليس احتلالًا، والتزامات إسرائيل في حالة الحصار تأخذ شكلًا سلبيًّا؛ بمعنى أن تمتنع عن ممارسات قد تمسّ بالسكّان المدنيّين في القطاع[6].

قرّرت حكومة إسرائيل، في عام 2007، اعتبار قطاع غزّة كيانًا معاديًا، الأمر الّذي يسمح لها فرض عقوبات مثل إيقاف الكهرباء، أو ضرب البنية التحتيّة، أو فرض حصار بحريّ...

هذا الموقف غير مقبول، وقابل للطعن؛ لأنّ السيطرة الفعليّة وفقًا للمادّة 42 يمكن تطبيقها لأنّ إسرائيل تسيطر فعليًّا على الدخول والخروج من القطاع، على المياه الإقليميّة والشواطئ وعلى الفضاء الجوّيّ. إضافة إلى ذلك، هي تسيطر أيضًا على البنية التحتيّة في ما يخصّ المياه والكهرباء والبنزين، والتصدير والاستيراد، وتردّد ذبذبات الراديو والتلفاز. لكنّ الأهمّ من ذلك استمراريّة الاحتلال الإسرائيليّ، وبالتحديد استمراريّة العمليّات العسكريّة. إنّ تكرار العمليّات العسكريّة تأكيد لما جاء في «اتّفاقيّة لاهاي» بأنّ الدولة المحتلّة تحتفظ بحقّها في التدخّل العسكريّ؛ ونهاية الاحتلال هنا يجب أن تعني نهاية العمليّات العسكريّة. باختصار؛ إنّ العمليّات العسكريّة المتتالية برهان على استمراريّة الاحتلال لغزّة.

ثانيًا؛ يتطلّب الحديث عن العدوان العودة إلى الفعل المباشر الّذي نتج عنه الاحتلال؛ أي إلى حرب 1967، الّتي اعتُبِرت حربًا استباقيّة، استندت إلى حقّ إسرائيل في الدفاع عن ذاتها ضدّ عدوان عسكريّ متوقّع.

في الأعوام الأخيرة، ما نلاحظه في تتبّع الاجتهادات الإسرائيليّة إعادة النظر في الموقف الرسميّ الّذي دعم أنّ الحرب كانت ’غير متوقّعة‘، وأنّها فُرِضَت على إسرائيل. بل العكس تمامًا، وهو ما يُؤَكَّد أنّ حرب 5 حزيران (يونيو) 1967 قد جرى التحضير لها بشكل مسبق. هذا لم يَعُد مجرّد موقف المؤرّخين العرب ومؤيّديهم في الغرب، بل موقف دراسات حديثة لأرشيف دولة إسرائيل وأرشيف الجيش. وفق هذه الدراسات الحديثة؛ خطّطت النخبة العسكريّة للحرب الّتي اعتَبَرتْ، من خلال بعض أفرادها، ومنذ 1953، أنّ الحدود مع الأردنّ غير مقبولة ويجب اغتنام كلّ فرصة لتعديلها، وهذا ما يدعم أنّ الحرب هدفت إلى توسيع حدود الدولة العبريّة.

في تعليق على كتاب غيي لارون «حرب 1967 وتفكيك الشرق الأوسط»، يشير توماس إنليخ رايفر إلى أهمّيّة الجزء الخاصّ بتوسيع حدود الدولة الإسرائيليّة؛ إذ يؤكّد إرادة النخبة العسكريّة في احتلال أقاليم جديدة مثل الضفّة وقطاع غزّة، وعلى استعدادها لحرب استباقيّة. يضيف أنّ القوّات العربيّة كانت موجّهة إلى الداخل؛ إلى حماية النظام، بينما القوّات الإسرائيليّة كانت موجّهة تجاه التوسّع، وهذا ما انعكس في التحضيرات والتدريبات[7]. يجد هذا الموقف دعمًا له أيضًا في دراسة المؤرّخ آدم راز، وهو المؤرّخ الرئيسيّ في «مؤسّسة عكيفوت» الّتي تهتمّ بالوثائق الخاصّة بالصراع الإسرائيليّ العربيّ. في مقالة في جريدة «هآرتس» الإسرائيليّة، أكّد آدم راز أنّ ما تكشفه الوثائق من أرشيف الدولة وأرشيف الجيش، الّتي أصبحت متاحة للجمهور في الأعوام الأخيرة، أنّه كان ثمّة تحضيرات من قِبَل الجيش لإدارة أراضٍ قد تُحْتَلّ، وهذا بالطبع يتعارض وفكرة أنّ الحرب كانت نتيجة تصادفيّة وغير متوقّعة. ويضيف أنّ هذه التحضيرات تشير إلى وجود رؤية إستراتيجيّة واضحة للسيطرة على أقاليم جديدة.

يشير توماس إنليخ رايفر إلى أهمّيّة الجزء الخاصّ بتوسيع حدود الدولة الإسرائيليّة؛ إذ يؤكّد إرادة النخبة العسكريّة في احتلال أقاليم جديدة مثل الضفّة وقطاع غزّة، وعلى استعدادها لحرب استباقيّة...

بدأت التحضيرات منذ بداية الستّينات بالاستناد إلى وثيقة بعنوان «اقتراح لتنظيم الحكم العسكريّ»، قدّمها قسم العمليّات في شهر حزيران (يونيو) 1960 إلى رئيس «هيئة الأركان»، وفي ما بعد، في شهر آب (أغسطس) 1963، جرى تحضير "أمر للجيش بتنظيم الحكم العسكريّ في حالة طوارئ" على يد القسم ذاته، الّذي كان يديره إسحاق رابين قبل أن يصبح رئيسًا لـ «هيئة الأركان»، ونصّ هذا الأمر على أنّ طموح الجيش الإسرائيليّ في جعل الحرب داخل أراضي العدوّ، سيقود حتمًا إلى توسّع مناطق خارج حدود الدولة واحتلالها"[8].

إنّ الادّعاء بأنّ هذه الحرب حرب استباقيّة، وأنّها تستند إلى حقّ دولة إسرائيل في الدفاع عن ذاتها، لا يلغي اعتبارها بأنّها حرب عدوانيّة. من أجل ذلك جاء «بروتوكول جنيف» (1924) لكيلا نعتبر أنّ كلّ حرب هي حرب دفاع ذاتيّ، كما يقول جورج كليمانصو، زعيم فرنسا في الحرب العالميّة الأولى. إنّ توسيع مفهوم حقّ الدفاع الذاتيّ إلى حقّ دفاع ذاتيّ استباقيّ أو وقائيّ، سيعيدنا إلى القرن التاسع عشر، وإلى ما قبل «بروتوكول جنيف» (1924). ثمّ إنّه في قرار إنشاء جدار الضمّ والتوسّع عام 2004، أشارت المحكمة إلى إساءة استخدام دولة إسرائيل لحقّ الدفاع الذاتيّ في موضوع الجدار.

ثالثًا؛ منذ التسعينات نجد مَنْ ينتقد ميثاق «الأمم المتّحدة» من وجهة نظر تتبنّى فلسفة التاريخ للمفكّر الألمانيّ إيمانويل كانط، والّتي يشير فيها إلى فكرة السلم الدائم[9]، لكنّ هذه الفكرة تحوّلت إلى أداة أيديولوجيّة مع الحرب ضدّ الإرهاب، وأصبح السلم الدائم ما هو إلّا عدوان دائم. في ظلّ الحديث عن «السلام الديمقراطيّ» (Pax Democratica) عرفت الحرب عودة مميّزة ضدّ الشعوب في الجنوب. وليس بالغريب أن نجد رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتانياهو يعلن في الـ 16 من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023 أنّ الصراع مع غزّة هو صراع بين أبناء النور ضدّ أبناء الظلام، وبين الإنسانيّة ضدّ قانون الغاب[10].

 

منحى الإبادة الجماعيّة

لا بدّ من التنبيه إلى أنّ الإبادة الجماعيّة قد طُرِحَت سابقًا في بعض المواقف القانونيّة تجاه قطاع غزّة، وتحديدًا أنّ الاحتلال الإسرائيليّ الّذي يستند إلى الحصار والعدوان الدائم يساهم في خلق شروط إبادة جماعيّة. ما يميّز الحرب الّتي اندلعت منذ 7 تشرين الأوّل (أكتوبر)، أنّ أفعال الإبادة الجماعيّة تُرْتكَب على مرأى الجميع، وبشكل مبالغ فيه.

في قضيّة رئيس الوزراء السابق لرواندا جون كامباندا، أكّدت «المحكمة الدوليّة الجنائيّة» الخاصّة برواندا أنّ "جريمة الإبادة جريمة مميّزة وخاصّة؛ بسبب مكوّن الـ ’نيّة الخاصّة‘ (Dolus Specialis)، أي نيّة تدمير جزئيّ أو كلّيّ"[11]. يوضّح إلياس بانتيكاس أنّ المحاكم الجنائيّة المؤقّتة حاولت أن تثبت وجود نيّة لارتكاب الإبادة من خلال وجود خطّة للإبادة أوّلًا، وثانيًا أفعال إبادة: المبادرة الإجراميّة مبادرة جماعيّة والمشاركة الفرديّة[12].   

في ما يخصّ نيّة إبادة جماعيّة في حالة قطاع غزّة؛ فهي تتجلّى في الخطاب الرسميّ للقيادة الإسرائيليّة السياسيّة والعسكريّة. بالطبع، هناك تصريحات لعدد من السياسيّين الإسرائيليّين توقّف عندها طلب التماس الجنوب أفريقيّ، لكن سأكتفي هنا بموقف رئيس الدولة إسحاق هارتسوغ ورئيس الوزراء بنيامين نتانياهو. اعتبر الأوّل أنّه لا يوجد مدنيّون في القطاع[13]، ووقّع على إحدى القذائف الّتي ستُلْقَى عليه. واستعان الثاني بلغة «العهد القديم» لمحو ’العماليق‘؛ في إشارة إلى محو أهالي القطاع[14]. هذا يذكّر بالمقارنة الّتي أشار إليها المؤرّخ الإسرائيليّ موشي تسميرمان بين كتاب «كفاحي» لهتلر وكتاب «العهد القديم»، من ناحية إمكانيّة تطوير أيديولوجيّة متطرّفة بالاستناد إليهما[15]. بالنسبة إلى القيادة العسكريّة؛ بالإمكان أن نكتفي بما قاله رئيس سابق لـ «مجلس الأمن الوطنيّ الإسرائيليّ»، غيورا إيرلند، بأنّ الهدف من الحرب هو تحويل قطاع غزّة إلى مكان غير قابل للحياة[16]. بالإضافة إلى ذلك، روّجت هذه القيادة والإعلام ضرورة تهجير أهالي القطاع إلى الصحراء؛ إلى سيناء. وهذا لا بدّ من أن يذكّرنا برمزيّة الصحراء في التهجير القسريّ والإبادة الجماعيّة؛ فالشعب الأرمنيّ أُبِيد خلال تهجيره إلى الصحراء السوريّة، على يد العثمانيّين والأتراك.

في ما يخصّ نيّة إبادة جماعيّة في حالة غزّة؛ فهي تتجلّى في الخطاب الرسميّ للقيادة الإسرائيليّة السياسيّة والعسكريّة...

ولّد هذا الخطاب حالة يجوز فيها إطلاق النار، وبسهولة، على أيّ شخص يُظَنّ أنّه الآخر، الفلسطينيّ والعربيّ. هذا ما حصل في مدينة القدس حين أطلق مستوطن النار على يوفال دورون كاستلمان؛ ظنًّا منه أنّ هذا الأخير فلسطينيّ إرهابيّ. وهذا ما حصل أيضًا حين أطلق الجيش الإسرائيليّ النار على ثلاثة من المحتجزين الإسرائيليّين لدى «كتائب الشهيد عزّ الدين القسّام».

من حيث أفعال الإبادة الجماعيّة فهناك القتل، وكما نرى فإنّ عدد القتلى والمفقودين في اليوم 110 للحرب يصل إلى 30 ألف ضحيّة، 70% منهم من النساء والأطفال. كذلك، ثمّة تقييد للحصار الّذي فُرِض على غزّة منذ 2007 بشكل غير مسبوق، إلى درجة أنّه حتّى «دليل سان ريمو» الخاصّ بالقانون الدوليّ للصراع في البحر 1994، الّذي اعتبرت إسرائيل أنّه يبرّر حصارها، لا يحتمل ذلك؛ إذ إنّه لا يمكن ممارسة الحصار بشكل يمنع دخول المساعدات الإنسانيّة ويستخدم التجويع أداة حرب. ما تفعله إسرائيل منذ 8 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023 هو تعزيز شروط الإبادة في غزّة بشكل مبالغ فيه. ولا يحتمل هذا الدليل التدمير الكلّيّ أو الجزئيّ للمدارس والجامعات، والمستشفيات والمراكز الصحّيّة، والأماكن الدينيّة والأثريّة، والمؤسّسات الرسميّة مثل «المجلس التشريعيّ» والمحاكم.

 

مبدأ «التزام الأطراف كافّة»

تقدّمت جنوب أفريقيا، في تاريخ 29 كانون الأوّل (ديسمبر) 2023، بشكوى إلى «محكمة العدل الدوليّة» ضدّ دولة إسرائيل، على أساس أنّها ارتكبت وترتكب إبادة جماعيّة في قطاع غزّة منذ 8 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023. لماذا جنوب أفريقيا؟

تاريخيًّا وأخلاقيًّا، اعتبرت جنوب أفريقيا المؤسّسات الدوليّة والقانون الدوليّ أدوات مهمّة في النضال ضدّ الأبارتهايد. وقانونيًّا، تتضمّن «اتّفاقيّة منع إبادة جماعيّة» (1948) مادّة تسوية (المادّة 9)، الّتي تسمح لأيّ طرف في الاتّفاقيّة بالعودة إلى المحكمة، في حالة أنّ ثمّة اختلافًا حول تفسير الاتّفاقيّة، وهذا ما أشارت إليه جنوب أفريقيا في طلبها.

قد يُدَّعَى أنّ جنوب أفريقيا لم تتضرّر من الحرب على قطاع غزّة، وأنّ صاحب الشأن؛ أي الفلسطينيّين، لم يتقدّموا بشكوى. يمكن تجاوز هذا الادّعاء بالاستناد إلى مبدأ «التزام الأطراف كافّة» (Erga Omnes)، وهو مبدأ أساسيّ في النظام القانونيّ الدوليّ يسمح لكلّ دولة طرف في الاتّفاقيّة، العمل على منع ممارسة إبادة جماعيّة على يد إحدى الدول الأطراف. وهذا ما حصل في قرار المحكمة، غامبيا ضدّ مينمار 2020، المتعلّق بالإبادة الجماعيّة في حقّ الأقلّيّة المسلمة، الروهانجينا.

الهدف من رفع الشكوى الجنوب أفريقيّة هو الحصول من المحكمة على قرار «تدابير مؤقّتة»، قد تتضمّن مطالبة القيادة الإسرائيليّة بوقف النار، أو وقف التحريض على إبادة الفلسطينيّين...

الهدف من رفع الشكوى الجنوب أفريقيّة الحصول من المحكمة على قرار «تدابير مؤقّتة»، قد تتضمّن مطالبة القيادة الإسرائيليّة بوقف النار، أو وقف التحريض على إبادة الفلسطينيّين، والسماح بدخول المساعدات الإنسانيّة. بالنسبة إلى موضوع التحريض، فقد تحرّكت المستشارة القانونيّة ومؤسّسة «يادْ فاشيم» (يد واسم) الخاصّة بالذاكرة والمحرقة اليهوديّة ضدّ تصريحات لبعض السياسيّين عشيّة الجلسة العلنيّة لـ «المحكمة الدوليّة».

نجد مَنْ يفرّق بين قرار احترازيّ خاصّ بالتدابير المؤقّتة وقرار حكم للمحكمة، وهذه التفرقة لدعم أنّ إلزاميّة قرار «تدابير مؤقّتة» غير واضحة، بينما قرار الحكم ملزم. الجدل هنا حول المادّة 94 من ميثاق «الأمم المتّحدة» المتعلّقة بتنفيذ قرارات المحكمة. بالنسبة إلى قرار «تدابير مؤقّتة»، نجد أنّ في الأعمال التحضيريّة للميثاق دولًا مثل أستراليا طالبت بالالتزام بكلّ قرارات المحكمة، بما فيها القرار الاحترازيّ. وفي نظر المحكمة ذاتها، فقراراتها ملزمة كما أكّدت ذلك في قرار «أعمال عسكريّة وشبه عسكريّة»، نيكارغوا ضدّ الولايات المتّحدة 1986. في الممارسة، نجد الولايات المتّحدة طالبت إيران بالالتزام بقرارات المحكمة، وذلك في قرار الطاقم الدبلوماسيّ والقنصليّ الأمريكيّ في طهران 1979. لكن عندما يتعلّق الأمر بالتزامها هي، فإنّها تشكّك في إلزاميّة قرار «تدابير مؤقّتة» كما فعلت في قضيّة ألمانيا ضدّ الولايات المتّحدة 2001 في «قضيّة لاغراند». حتّى أنّها رفضت تنفيذ قرار الحكم «نيكارغوا ضدّ الولايات المتّحدة 1986» لـ «المحكمة الدوليّة»؛ ما دفع بنيكارغوا إلى التوجّه إلى «مجلس الأمن»، وفي ما بعد إلى «الجمعيّة العامّة» بهدف إجبار الولايات المتّحدة على تنفيذ فوريّ لقرار المحكمة، لكن لم تلتزم الولايات المتّحدة بذلك.

أمّا في ما يخصّ دور «مجلس الأمن» في تنفيذ قرارات المحكمة، فإنّ هذا الدور غير واضح. بالطبع، قد تفرض دولة دائمة العضويّة فيتو على مقترح قرار يتضمّن فرض عقوبات على الدولة المنتهكة للقانون الدوليّ. وهذا قد يحصل في حالة قطاع غزّة بأن يكون ثمّة فيتو أمريكيّ، لكن من المهمّ أن نشير هنا إلى بعض التطوّرات الّتي حصلت في الفترة الأخيرة حول ممارسة الفيتو داخل «مجلس الأمن». تدفع هذه التطوّرات إلى تقييد ممارسة الفيتو، وبالتحديد في ما يخصّ جرائم الإبادة الجماعيّة والجرائم ضدّ الإنسانيّة.

طالبت مجموعة «المسؤوليّة، والتجانس، والشفافيّة» الّتي تضمّ 121 دولة، في عام 2013، بنهج سلوك معيّن من قِبَل «مجلس الأمن» تجاه الجرائم الدوليّة. وفي عام 2015 بادرت فرنسا والمكسيك إلى إعلان ينصّ على ألّا يكون هناك فيتو من قِبَل الدول الدائمة العضويّة، في حالة أنّ القرار يهدف إلى إيقاف جرائم دوليّة مثل جريمة الإبادة، وقد انضمّ إلى هذا الإعلان 104 دول. علاوة على ذلك، هناك «قرار 76/262» (2022) لـ «الجمعيّة العامّة»، والّذي يدفع باتّجاه أن يكون قرار الفيتو قرارًا مسبّبًا؛ إذ يطالب رئيس «الجمعيّة العامّة» بعقد اجتماع للجمعيّة، بعد عشرة أيّام من ممارسة الفيتو على يد دولة دائمة العضويّة في «مجلس الأمن»؛ لكي تبرّر ممارستها للفيتو.

التحرّك على مستوى «محكمة العدل الدوليّة» مهمّ على غير صعيد؛ أوّلًا أهمّيّة تكييف حالة الحرب على القطاع بأنّها حالة إبادة جماعيّة، حيث تملك المحكمة مركزيّةً في تفسير القانون الدوليّ؛ فالمحكمة تطبّق وتنتج معايير قانونيّة. ثانيًا، هذا التحرّك للمحكمة، الّتي تهتمّ بالعلاقة بين الدول، سيساهم في التحرّك أمام هيئات دوليّة أخرى ومنها «المحكمة الجنائيّة الدوليّة»، الّتي ما زالت تماطل في ما يخصّ مباشرة التحقيق في الوضع الفلسطينيّ. بخلاف «محكمة العدل الدوليّة»، تهتمّ المحكمة الجنائيّة الدوليّة بالمسؤوليّة الجنائيّة الفرديّة، وملاحقة الأفراد مرتكبي الجرائم الدوليّة. كذلك يفتح قرار «محكمة العدل الدوليّة» الباب أمام شكاوى داخل دول تتبنّى الولاية العالميّة؛ بمعنى أنّ المشرّع الوطنيّ منح القاضي الوطنيّ، من خلال تشريع معيّن، صلاحيّة ملاحقة مجرمين دوليّين، حتّى لو لم تُرْتَكَب الجرائم الدوليّة في إقليم هذه الدول أو على يد أشخاص يحملون جنسيّتها.

 


إحالات            

[1] South Africa’s Application Instituting Proceedings: https://shorturl.at/jkuCP.

[2] António Guterres, Secretary-General's remarks to the Security Council - on the Middle East, 24/10/2023, last acccess: 25/1/2024: https://shorturl.at/uG357.

[3] "Where occupation is unlawful because it results from the use of force otherwise than in self-defence, the occupying State bears an obligation, for example, to make reparation for all ensuing damage, even if it has acted in accordance with the Fourth Geneva Convention (1949) and with the Regulations annexed to the Fourth Hague Convention (1907), "(ICJ, Reports of Judgments, Advisory Opinions and Orders, Case concerning Activities on the Territory of the Congo (Democratic Republic of the Congo v. Uganda). Judgment of 19 December 2005. Declaration of Judge Ad Hoc Verhoeven parag.5 pp.195).

[4] John Collins, A Dream Deterred: Palestine from Total War to Total Peace, January 2011, Studies in Settler Colonialism (pp.169-185)  

[5] Ruth Lapidoth, The legal basis of Israel’s Naval Blockade of Gaza 2010, Vol.10 N0. 4: https://shorturl.at/CDQW9.

[6] Yuval Shany, ‘The Law applicable to non-occupied Gaza: A comment on Bassiouni versus Prime Minister of Israel, Research paper N0.13-9/2/2009.

[7] Reifer Thomas Ehrlich, The Six-Day War: The Breaking of the Middle East, by Guy Laron. New Haven, CT: Yale University Press, 2017. Book Review, Journal of Palestine Studies, (Autumn 2017) pp.110-111. P. 111

[8] Adam Raz, Israel Claimed Its 1967 Land Conquests Weren't Planned. Declassified Documents Reveal Otherwise. Haaretz 3/6/2021, last access 25/1/2024: https://shorturl.at/fACS0.

[9] Jurgen Habermas, La paix perpétuelle. Le bicentenaire d’une idée kantienne. Paris, Editions du CERF (Traduit de l’allemand par Rainer Rochlitz, 1996).

[10] Excerpt from PM Netanyahu's remarks at the opening of the Winter Assembly of the 25th Knesset's Second Session, Ministry of Foreign Affairs, Press release: https://shorturl.at/lFXZ7.

[11] Le Procureur contre Jean Kambanda, Affaire No : ICTR-97-23-S.

[12] Ilias Bantekas, International Criminal Law, Oxford and Portland, (Hart Publishing, 2010), pp. 209.

[13] Israeli President Suggests That Civilians In Gaza Are Legitimate Targets, Yahoo News, 17/10/2023, last access 25/1/2024: https://rb.gy/uxc1gg.

[14] Statement of PM Benjamin Netanyahu on 29/10/2023.

[15] عوفر إدرت، مقابلة مع المؤرّخ موشي تسيمرمان، ملحق هآرتس، 29/12/2023، ص 18.

[16] Giora Eiland, Yedioth Ahronoth, 19/11/2023.

 


 

جوني عاصي

 

 

 

أستاذ القانون العامّ والعلوم السياسيّة في «جامعة النجاح الوطنيّة»، كما يشغل مدير «كرسيّ اليونسكو للديمقراطيّة وحقوق الإنسان» منذ عام 2013. يركّز في بحوثه على مواضيع القانون الدوليّ، المواطنة والدولة، التغييرات الدستوريّة.

 

 

 

التعليقات