04/03/2024 - 15:10

التسليح المواطنيّ: مقاربة جسدانيّة

التسليح المواطنيّ: مقاربة جسدانيّة

مستوطنتان إسرائيليّتان مسلّحتان في القدس المحتلّة | فينسينزيو سرقوسطا

 

يعود أصل تسمية الـ «Lynchage» (القتل التعسّفيّ) إلى مجموعة مسلّحة أنشأها تشارلز لينش خلال «الثورة الأمريكيّة» (1765 – 1783)، الّتي منحها المشرّعون القانونيّون، في حينه، في ولاية فيرجينيا الأمريكيّة، الضوء الأخضر للقضاء على لصوص الأحصنة وقطّاع طرق آخرين، أو هكذا وُصِفوا. صدر لهذه الغاية قانون يجيز لمجموعة لينش أن تخرج عن القانون في تلك المواجهة، على أساس أنّ بعض الأفعال "تحمل طابعًا مبرّرًا عندما تكون استجابة لخطر وشيك". أُطْلِق على هذا القانون اسم «قانون لينش»، الّذي سيُسْتَخْدَم لاحقًا في ولايات الجنوب الأمريكيّ[1] لاضطهاد الرحّالة وابتزازهم، وكذلك الأجانب والمارقون من البيض، إضافة إلى العبيد والمتمرّدين السود، والسكّان الأصلانيّين[2].

بتتبّع هذا الخيط في التاريخ الأمريكيّ، والتساؤل النقديّ عن مدى موضوعيّة الفصل بين الانتهاكات العفويّة الّتي ترتكبها الجماهير وأفعال القتل التعسّفيّ الّتي ارتكبتها المجموعات المنظّمة، مثل مجموعة تشارلز لينش و«كوكلكس كلان»[3]. نجد أنّه من الضروريّ مساءلة الوعي الجمعيّ في فكرة الأفعال الّتي توصف باعتبارها ’هذيانيّة‘ أو ’عفويّة‘، من الأفعال الّتي ارتكبتها الحشود والجماهير رغبة في انتقام، أو سعيًا "إلى تحقيق العدالة"، وأنّ بعض تلك التنظيمات ليس بتفّاحة ساقطة بعيدًا عن شجرة هذا الوعي ومخيالاته، بل في بعض الأحيان هي تجسيد وتمثيل له.

 

القتل الجماعيّ الأبيض 

في الفترة بين عام 1880 وما بعد الحرب العالميّة الثانية، تصدّرت مشاهد القتل الجماعيّ مشاهد الحياة العامّة اليوميّة الأمريكيّة؛ فكانت تلك المشاهد مساحة أدائيّة عموميّة للجماعة الأمريكيّة - إذا صحّ هذا الوصف - وخاصّة بعد لحظات تاريخيّة فارقة مثل الحرب الأهليّة والاتّحاد الفيدراليّ وغيره. فكان مشهد سكّان مدينة ما أو بلدة ما أو قرية ما يتجمّعون حول رجل للإقدام على تعذيبه أو بتر أعضائه أو حرقه حيًّا أو شنقه على شجرة ما في العلن، ولتغلق المدارس أبوابها في هذه المناسبة لكي تفسح المجال أمام الأطفال للفرجة في الحدث العامّ، أمرًا دارجًا؛ فكان يُسْمَح للأطفال باللعب مع الجثّة، وكانت الأسر تستغلّ تلك الفرصة للتنزّه في فيء الأشجار، حيث تتدلّى الأجساد المنتهكة[4]، لتفترش الأرض، وتأكل معًا، في صورة نمطيّة للعائلة النوويّة الأمريكيّة في تلك الفترة.

لم يكن القتل الجماعيّ التعسّفيّ هذا على يد الجماهير أمرًا استثنائيًّا في الحياة الاجتماعيّة؛ فبين القرنين التاسع عشر والعشرين، كانت الجموع، الّتي تحوّل اسمها إلى المجتمع المدنيّ، وتلك قصّة أخرى تبتغي ضبط هذا العنف وتيسير تداوله، وليس القضاء عليه، كما سنتبيّن، هي الّتي توكَل إليها، وبصفة غير رسميّة أو معلنة، مهامّ الاقتصاص وتنفيذ العقوبة؛ حيث في غالبيّة تلك المشاهد، نجد تساهلًا وتواطؤًا للمؤسّسة القضائيّة والشرطيّة والدولانيّة، يصل إلى مستوى المشاركة في القتل من خلال إفناء الجسد المادّيّ للـ ’مُدان‘[5].

لم يكن القتل الجماعيّ التعسّفيّ هذا على يد الجماهير أمرًا استثنائيًّا في الحياة الاجتماعيّة؛ فبين القرنين التاسع عشر والعشرين، كانت الجموع (...) هي الّتي تُوكَل إليها، وبصفة غير رسميّة أو معلنة، مهامّ الاقتصاص وتنفيذ العقوبة...

ولئن كانت الجماعات المقتصّة من الرجال المسلّحين مثل «جماعة كوكلوكس كلان» أو «لينش» أو غيرهما، هي الّتي تبادر بملاحقة المتّهمين، فإنّ الجموع هي الّتي تقوم بالمقتلة الفعليّة. وهنا؛ فإنّ المجتمع هو الّذي يُسْتَدْعى بوصفه قوّة قاتلة لتنفيذ "جريمة عادلة" و"خارجة عن القانون" في نظر القانون.

إنّ بحثًا تاريخيًّا اجتماعيًّا في هذا الطقس الأدائيّ المركّب يكشف أنّ ثمّة "توكيدًا شعائريًّا لوحدة البشرة البيضاء"[6]. تقدّم جاكلين هال إضاءات بشأن موقع الجموع في تنفيذ المقتلة، الّتي كانت في الأغلب الأعمّ تُسْتَدْعى إلى المسرح وتُحْشَد على يد أعيان ومواطنين من ذوي المكانة الاجتماعيّة والسياسيّة، وممثّلين عن السلطة وشخصيّات دينيّة، ورجال أعمال، ورجالات العصابات والجماعات المسلّحة. ويتكوّن هذا المشهد من عدد من الطبقات الواجب تأمّلها وفحص الروابط والتقاطعات في ما بينها؛ (1) القصاص، (2) السياسيّ، (3) الاجتماعيّ، (4) الخطابيّ، (5) الأدائيّ، (6) الجسدانيّ، (7) المكانيّ - المجاليّ.

يخبرنا التأمّل النقديّ في تعاضد تلك الطبقات وتراكبها أنّ المضمون السياسيّ البنائيّ في هذه الأفعال من القتل الجماعيّ التعسّفيّ، هو المَعبر الّذي يجري فيه العبور من الدفاع الذاتيّ للفرد عن نفسه - بافتراض أنّ المتّهم فعلًا مُدان، ويتوجّب الدفاع عن النفس في مواجهته، وتلك قصّة سنفصّلها لاحقًا - إلى الدفاع عن عرق كامل. إضافة إلى أنّ إدراك لحظة العبور ضروريّ لفهم الطبقات الأدائيّة والاستعاريّة والخطابيّة والإجرائيّة في هذا الأمر، لنبدأ بالبحث في تحوّلاته إلى يومنا هذا، ومقدار التناصّ بينه وسياقه من ناحية، وبين أحداث مشابهة في سياقات تبدو كأنّها مغايرة.

يمكننا القول إنّ هذه العمليّات لم تكن تستهدف أفرادًا بعينهم، سواء بيضًا أو سودًا أو أصلانيّين أو ملوّنين أو غيرهم، إنّما هذه العمليّات والأجساد فيها من الناحيتين: القاتل والمقتول، أدوات ترسيم حدود الجماعة البيضاء عرقيًّا، من خلال عمليّة الآخرويّة (Othering)، الّتي تبدأ أوّل ما تبدأ من الجسد.

وقعت الغالبيّة العظمى من عمليّات القتل التعسّفيّ (Lynchage)، بنسبة 95% تقريبًا، في جنوب الولايات المتّحدة الأمريكيّة في العشرينات من القرن العشرين، وفي نفس هذه الفترة الزمنيّة، انخفضت نسبة الضحايا البيض من 32% إلى 9%، بحسب ما ذكرته جاكلين هال[7]. بينما رصدت إيدا ب. ويلس، وهي ناشطة نسويّة من أنصار إلغاء العبوديّة، ومن كبرى الشخصيّات المناهضة للقتل التعسّفيّ[8]، في نصّ لها بعنوان «أهوال جنوبيّة» (Southern Horrors)، وهو مأخوذ عن محاضرة نُشِرَتْ في عام 1892، وباتت من النصوص الكلاسيكيّة، أنّ جرائم القتل التعسّفيّ لرجال سود خلال الحرب الأهليّة الأمريكيّة ارتفعت بصورة غير مسبوقة، وهو ما لم يلقَ عقابًا من أيّ نوع. بل إنّ عمليّات التعذيب والسحل والقتل بذريعة الدفاع عن النساء البيض، كانت أمرًا دارجًا. وتؤكّد ويلس أنّ النساء في غالبيّة القضايا برّأن المتّهمين، بل إنّهنّ قدّمن إفادات بأنّهنّ تعرّضن للاغتصاب على يد رجال بيض[9].

 

التسليح المواطنيّ في إسرائيل 

في الرابع من كانون الأوّل (ديسمبر) 2023، قدّم رئيس «شعبة ترخيص الأسلحة الناريّة» في «وزارة الأمن القوميّ» الإسرائيليّة استقالته من منصبه. وقالت «هيئة البثّ» الإسرائيليّة إنّ رئيس الشعبة إسرائيل أفيشر أعلن الإثنين استقالته من منصبه الّذي شغله على مدى 6 سنوات، على خلفيّة تصرّفات وزير الأمن القوميّ زعيم «حزب القوّة اليهوديّة» اليمينيّ المتطرّف بن غفير، وتوزيع السلاح بدون معايير على المواطنين.

وأضافت أنّه في الأسبوع الماضي اعترف أفيشر، في جلسة استماع في الكنيست، أنّ أشخاصًا قد عُيِّنوا بدون شهادات لإصدار تراخيص أسلحة للمواطنين. ويُعَدّ أفيشر ثالث موظّف كبير يستقيل من منصبه في الوزارة احتجاجًا على سياسة بن غفير[10]. بينما يقول تقرير «وول ستريت جورنال»، أنّ نسبة التسليح بين الإسرائيليّين قد وصلت إلى 600% بعد السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023[11]. بينما "حذّر مسؤولون إسرائيليّون من فوضى السلاح ومآلاتها"[12]، وبالذات على المجتمع العربيّ، الّذي لا يملك المواطن العربيّ الحامل لجواز السفر الإسرائيليّ الحقّ في حمل السلاح[13].

يمكن موضعة التسليح المواطنيّ (Citizenry Weaponization) تاريخيًّا بصفته مرحلة ثالثة تالية على التجنيد العسكريّ الإجباريّ، الّذي بدأ العمل به في عام 1798، والّذي أخذ منظورًا مناقضًا لعمليّة القرعة الّتي كانت تُمارَس قبل ذلك.

مرحلة «التسليح المواطنيّ» الثالثة في المنظومة الاستعماريّة الإسرائيليّة، تجد امتداداتها في التراث الاستعماريّ الأوروبّيّ، وتحديدًا الفرنسيّ الّذي تبنّى بعد قرن كامل من الثورة الفرنسيّة حلًّا عسكريًّا يقوم على الدمج بين الجيش النظاميّ الاحترافيّ وميليشيا المواطنين، حيث أصبح الجيش حاضنة مدينيّة إمبرياليّة موسومة بالتناقضات الطبقيّة والجنسانيّة والعرقيّة[14].

وإذ تقدّم إسرائيل نفسها بصفتها دولة حديثة وحداثيّة، فثمّة مفارقة بشأن استحواذ الدولة الحديثة للعنف المشروع، ومنحه لـ ’مواطنـ(ـيها)‘ في نفس الوقت. تجد تلك المفارقة ديناميّتها في التاريخ الاستعماريّ والعنصريّ للذات الأوروبّيّة، إلّا أنّ هذا التشريح ليس كافيًا لفهم كيفيّة عملها؛ فالتنازل عن العنف الاستحواذيّ للدولة لصالح تشاركه مع المواطنيّة بصفته أداءً غيريًّا/ آخرويًّا، يحمل مفارقة مركّبة؛ فمن ناحية يصبح ’الدفاع عن الوطن‘ بمنزلة حرمان من القدرة على ’الدفاع عن النفس‘، وبالتالي إنتاج أجساد عارية لا حقّ لها في الحماية ولا الدفاع عن نفسها، في مقابل أجساد لها ’الجدارة‘ بأن تكون محميّة، وهو ما يخلص إلى إنتاج أجساد كلّما سعت إلى الدفاع عن نفسها اقتربت أكثر من حتفها.

من ناحية أخرى يعمل تدوير العنف بين الدولة والمواطن باسم المواطنة على تفكيك الحدود الجسديّة بين جسد الدولة وجسد المواطن، بعد إنتاج كليهما بشكل مستمرّ، وهو ما يضعفها، ويهدّدها، على مستوى الإقليم والرمز والجسد.

إذ تقدّم إسرائيل نفسها بصفتها دولة حديثة وحداثيّة، فثمّة مفارقة بشأن استحواذ الدولة الحديثة للعنف المشروع، ومنحه لـ ’مواطنـ(ـيها)‘ في نفس الوقت...

إنّ استحواذ الحداثة في نموذجها الاستعماريّ الإسرائيليّ على الحقّ في الحياة والموت، أدّى إلى التفريق بين مصطلحين مهمّين وخدّاعين، تستخدمهما آلة الدولة الإسرائيليّة الجسديّة والمكانيّة والحيّزيّة والرمزيّة لتحقيق مقتلة مقنّنة للجسد الفلسطينيّ المستعمَر، ونعود هنا للإشارة إلى سياسات الحياة والموت[15]، في مشهدين يمتدّ منهما خيط إلى ما يحدث الآن في قطاع غزّة، وعموم فلسطين التاريخيّة.

في نهاية أيلول (سبتمبر) 2000، أعدمت قوّات الاحتلال الإسرائيليّ الطفل محمّد الدرّة في قطاع غزّة، ويظهر في التصوير الّذي وثّقته قناة فرنسيّة الطفل محتميًا هو ووالده خلف برميل معدنيّ، في مواجهة وابل من الرصاص، والأب يشير مذعورًا بيديه طلبًا للنجدة.

بينما في ليلة الثاني عشر من أيّار (مايو) 2021، كان مشهد محاولة إعدام شابّ عربيّ في ’بات يام‘، من قِبَل أكثر من مئة يهوديّ فقط لكونه عربيًّا؛ إذ انتشله الجمع من سيّارته، وبدؤوا اعتداء جماعيًّا، باستخدام كلّ ما وقعت عليه أيديهم؛ ممّا أفقده الوعي بعد محاولتين أو ثلاث للوقوف وصدّ الضربات، وحتّى هذه اللحظة لا نعلم ما الّذي حدث له.

في المثالين أعلاه، جليّ أنّ قدرة الجسد الفلسطينيّ هي المستهدفة، بقدر، إن لم يكن أكثر من الجسد نفسه. إلّا أنّ قدرة الجسد الفلسطينيّ هنا تقع ضمن الموقع المركّب التالي؛ أوّلًا؛ قدرة الجسد الفلسطينيّ أقلّ من قدرة الجسد الإسرائيليّ سواء بالسلاح كما كانت مقتلة محمّد الدرّة، أو بالعدد والوفرة والأيدي العارية كما في الشابّ في ’بات يام‘. وانعدام القدرة مرادف للاستباحة، وهي في المنظومة الكولونياليّة تعني بالدرجة الأولى: ألّا يستطيع مزاولة أيّ سلطة، في مواجهة أيّ توجيه قادر واقع عليها. يعرّف جورج كانغيليم الحياة، في تحليله للتطوّر الفيزيولوجيّ، بوصفها "بعيدة كلّ البعد عن أن تكون على هذه الدرجة من السيانيّة إزاء الشروط الموضوعة لها"[16]، ما يُعْرَف بشكل دقيق بــ «مفهوم التوجيه» (Polarity)؛ أي الحياة نشاط موجّه على الدوام[17].

ثانيًا؛ قدرة الجسد الإسرائيليّ المواطنيّ المسلّح ودرجة تماهيه مع قدرة الدولة الموجّهة ضدّ الآخر الفلسطينيّ. ولعلّ هذا ما يفسّر ارتباط صناعة التسليح الإسرائيليّة بالقدرة على إفناء الجسد الفلسطينيّ المستعمَر. بكلمات أخرى؛ فإنّ الحروب الإسرائيليّة على الجسد الفلسطينيّ المفرد والجمعيّ، هي أدوات لتسويق الأنظمة التسليحيّة وتجربتها في الصناعة الإسرائيليّة[18]. يدفع هذا الأمر إلى النظر في سياسات التسليح المواطنيّ؛ باعتبارها ليست فقط انتزاعًا من قدرة الجسد الفلسطينيّ وفاعليّته، بما هو جسد مستعمِر، إنّما كذلك حقّه في ترسيم حدوده الجسدانيّة والدفاع عنها.

أي أنّ الحرب استمرار للسياسة[19]، وحيث السياسة عمل من أعمال الموت للمستعمَرين في المنظومة الاستعماريّة، حيث السيادة يُعَبَّر عنها بالحقّ في القتل؛ باعتبارها الشكل الأوضح للهيمنة[20]؛ فإنّ التسليح المواطنيّ في وجه منه إنتاج مواطن جسدانيّ مقاتل، وإنتاج مقولة المواطنة الدولانيّة الحديثة، إلّا أنّه كذلك  يقوم على استهداف أيّ شيء ينتمي إلى حقل قوّة أو اندفاعة أو حركة موجّهة لتذويت وجسدنة الوجود الخارج عن الهيمنة الاستعماريّة. بالتالي؛ إنّ التسليح المواطنيّ له جانب يتعلّق بإنتاج الإقليم الدولانيّ (State Territory) من خلال فعل القتل وموقعة الجسد المقتول مكانيًا (Spatial Positioning)، وجعل تلك الاندفاعة ولو كانت دفاعيّة عن النفس، مصدر للتهديد للإسرائيليّ المستعمِر، وللفلسطينيّ نفسه. لعلّ هذا ما يفسر لنا تكوين وشكل وفراغيّة المقتلة الإسرائيليّة، في ما يُعْرَف بالإعدام الميدانيّ للفلسطينيّين، ودعاوي الساسة الإسرائيليّين لقتل الفلسطينيّين حتّى لو لم يمثّلوا تهديدًا مباشرًا[21].

هنا نفهم أمرين؛ أوّلًا؛ فعل المقتلة الإسرائيليّة، بما هو فعل قدرة، والقدرة الإباديّة هنا تتخطّى المضمون الإستراتيجيّ الحربيّ، حتّى وإن كانت للّازمة خطابيّة عن الإرهاب أو غيره، وليس فقط فعليّة على الأرض وفي الميدان، إنّما هو فعل مواطنة دولانيّة حداثيّة، يأتي استمرارًا لسياسات الجسد وسياسات الحياة والموت (النيكروبوليتيك) الإجرائيّة في المنظومة الاستعماريّة الاستيطانيّة، بداية من اللغة والجسد ووصولًا إلى المكان.

لذا؛ فعدم القدرة على فهم الإبادة الجماعيّة في غزّة، سببه أنّ هذه المقتلة إنّما هي تماهٍ مع الحداثة والدولنة والمواطنة، وفي هذه الحالة تحديدًا فإنّ قتل الأطفال والنساء والذوات غير القادرة إنّما هو فعل ذو مقبوليّة عالية لدى الحسّ الجمعيّ الإسرائيليّ، وحتّى لو لم يكن قادرًا على الدفاع عن نفسه. وهو ما يفسّر لنا وقوف الدول الأساسيّة في المنظومة الحداثيّة الغربيّة الاستعماريّة في صفّ إسرائيل، وتحديدًا إنجلترا وفرنسا وكندا والولايات المتّحدة وأستراليا وألمانيا، وغيرها، لامتلاكهم نفس أنماط التسليح المواطنيّ (Citizenry Weaponization) التاريخيّة من ناحية، ونفس منظومة العنف الجسديّ الليبراليّ، كما يخبرنا أخيل مبيبي في كتابه «سياسات العداوة»[22]، وهي دول بطبيعة الحال ذات تاريخ استعماريّ كولونياليّ.

ثانيًا؛ تقوم المواطنة الإسرائيليّة في ذاتها على التغذّي على جسدانيّة ومكانيّة الوجود الفلسطينيّ (بالمعنى العضويّ الطبّيّ إذا أردنا. حيث تمتدّ هذه القدرة إلى تفكيك الجسد الفلسطينيّ المستعمَر، وصولًا إلى بنك الجلود وتجارة الأعضاء، باعتبارهما ممارسات طبّيّة حداثيّة قامت على الربط بين مؤسّسة الطبّ والدولة الحديثة). هنا يرسم الجهاز الإباديّ المواطنيّ التسليحيّ الإسرائيليّ ذو الحدّين خطًّا فاصلًا، بين الذوات الجديرة بالدفاع عن نفسها وبالدفاع عنها من ناحية، ومن أخرى تلك الذوات المقابلة الهشّة المتاحة الممكنة المنزوعة القدرة المنفردة، الّتي ليس في متاحها إلّا التزوّد بتكتيكات دفاعيّة ذاتيّة، تقع على الدوام دون مجال وقدرة الدولة المتجسدنة في المواطن الإسرائيليّ.

هنا يتعارض مفهوم الدفاع الذاتيّ عن النفس، وهو الحجّة الّتي مُنِحَ على أساسها المستوطنون الإسرائيليّون الأسلحة بصفتهم مواطنين، بينما لم يُمْنَح الفلسطينيّون نفس الحقّ في التسليح، وبين الدفاع القانونيّ المشروع عن النفس؛ أي دفاع الفلسطينيّ الجسديّ عن نفسه.

 

التسلّح بصفته ممارسة دولانيّة 

إنّ من شأن الانطلاق من الجسديّ وليس القانونيّ في مسألة الذوات الدولانيّة المستحقّة للدفاع عنها، والذوات الدولانيّة المواطنيّة غير المستحقّة في المنظومة الاستعماريّة، أن يشكّل بكلّ تأكيد انزياحًا في الطريقة الّتي اسْتُشْكِل من خلالها العنف في المنظومة السياسيّة.

في المقاربة التاريخيّة للتسليح ممارسةً دولانيّة مواطنيّة، نتبيّن أنّ التمييز بين الأسلحة الهجوميّة والدفاعيّة، كان ذا تحيّز استعماريّ منذ بدايته؛ فالدروع الّتي تُحْمَل باليد أو توضَع على الجسم، صُنِّفَتْ أسلحة هجوميّة؛ "لأنّها تبرهن على النيّة بالقتال"[23]. وهي الحجّة الّتي انْتُزِعَتْ على أساسها قدرة السكّان الأصلانيّين والمستعمَرين على الدفاع عن أنفسهم، في حين جرى تقديم الرجل الأبيض باعتباره مدافعًا عن ذاته طيلة الوقت. فضلًا على العنف الرمزيّ المستبطن في هذه التقابليّة الّتي أنتجت فردًا متوحّشًا، غدّارًا، طيلة الوقت، يواجه ذاتًا أوروبّيّة حداثيّة ومدينيّة.

في المقاربة التاريخيّة للتسليح ممارسةً دولانيّة مواطنيّة، نتبيّن أنّ التمييز بين الأسلحة الهجوميّة والدفاعيّة، كان ذا تحيّز استعماريّ منذ بدايته...

في خلال الفترة الاستعماريّة الفرنسيّة للجزائر، حُظِر بيع الأسلحة للأهالي بموجب مرسوم فرنسيّ رسميّ في عام 1851، وبعد تمرّد القبائل عام 1871، صدر قرار يمنح ’المستوطنين الفرنسيّين من أصول أوروبّيّة‘ الحقّ في شراء السلاح وحيازته[24].

يمكننا القول إنّ الدولة الاستعماريّة لا تستطيع، بأيّ حال من الأحوال، أن تعمل دون نظام مليشياتيّ يؤدّي مهمّاتها المجاليّة والجسدانيّة الاستعماريّة.

إذ يتيح تاريخ الثقافات القتاليّة، الّتي نشأت لدى العبيد والسكّان الأصلانيّين، الإحاطة بأنماط تذويت الّتي تمثّل أنماطًا للمقاومة لا تندرج ضمن زمانيّة كلاسيكيّة بيضاء، خطابيّة، إنّما هي أنماط مُرْجَأَة، على المستعمَر أن ينتزع حقّه فيها، كما هو الحال مع قطاع غزّة ومقاومته؛ فالمستعمَر هنا "مذنب على الدوام أمام هذا العالم الّذي رتّبه المستعمِر، والذنب ليس ذنبًا مقترفًا، إنّما هو أشبه ما يكون بنوع من اللعنات، وأشبه بالسيف المُسلط على رأس ديموقليس"[25]

 


إحالات

* ثمّة إشارة واجبة إلى خلط ارتأيناه في الترجمة الاصطلاحيّة الإنجليزيّة بين (Weaponized Citizenship) و(Citizenry Weaponization)، الّذي نقترحه في هذه المادّة، ونشير إليه. ترجمة المصطلح الأوّل كما نراها هي: ’المواطنة المسلّحة‘، بينما المصطلح الثاني ارتأينا ترجمته إلى ’التسليح المواطنيّ‘. في المصطلح الأوّل الفاعل هو المواطنة، باعتبار التسليح أمرًا حادثًا بالأساس. أي أنّ المواطنة هنا حادثة دون تغيير بفعل القانون، لكنّ التغيير في التسليح يحدث بمعزل عن المواطنة. قد يستخدم هذا التركيب لوصف الجيش النظاميّ مثلًا، الّذي يتطوّع فيه المواطنين لممارسة مهامّ قتاليّة مسلّحة، وهنا لم تتأثّر المواطنة بصفتها أداء بين التسليح من عدمه، لأنّ التسليح خاصّ بالمواطنين، دون تفرقة، فكون المواطن فردًا في الجيش أو في الفعل التسليحيّ لا يغيّر من مواطنته بالمقارنة مع مواطن لم يتطوّع للخدمة العسكريّة. وفي مرحلة متقدّمة  تُدْرَس ’المواطنة المسلّحة‘ باعتبارها ممارسة خارج إقليم الدولة، تجاه آخر دولانيّ أو غير دولانيّ خارجيّ، وإن كان داخليًّا، فعمليّة إنتاجه لا يتأثّر بها المواطن غير المسلّح، ولا تتأثّر بها مواطنيّته. بينما مصطلح ’التسليح المواطنيّ‘، فهو يشير إلى نشاط أدائيّ في الناحيتين: التسليح والمواطنة، فكلّما تسلّح الفرد ازدادت مواطنته، وكلّما نقصت مقاومته حُرِمَ من الحقّ في السلاح، ولو كان مقنّنًا، وحُرِمَ الحقّ في الدفاع عن نفسه ذاتًا مواطنيّة. لهذه الممارسة تاريخ دولانيّ استعماريّ كما سنرى، وكذلك عنصريّ وجنسانيّ. جدير بالذكر أنّ المصطلحين يغيبان تمامًا عن الدراسات الاجتماعيّة والتاريخيّة، وحتّى الاسترتيجيّة والعسكريّة العربية. وذلك شاهد جليّ على تحيّزات العلوم والابستمولوجيا الاجتماعيّة الغربيّة

تجاه الظواهر في العالم العربيّ، نظرًا لأنّ تاريخ المصطلحين والمفهومين وشواهدهما، تدين التاريخ الاستعماريّ في المنطقة والجنوب العالميّ ككلّ، لأنّها ممارسات توجد الذرائع القانونيّة والسياسيّة، وحتى الفكريّة واللّغويّة، للاستمرار بشكل أو بآخر، ولو في أشكال وتمثّلات أخرى.

[1] William D. Carrigan, The Making of a Lynching Culture: Violence and Vigilantism in Central Texas, 1836 – 1916, (University of Illinois Press, 2006).

[2] Frederick Douglass, Lynch Law in the South, The North American Review, Vol. 155, n 428, 1892, p 17-24.

[3] مجموعة «الكوكلاكس كلان»، أو (Ku Klux Klan) واختصارًا (KKK): هي مجموعة مدنيّة مسلّحة أُنْشِئت في عام 1866 ناديًا اجتماعيًّا في بولاسكي، في ولاية تينيسي الأمريكيّة، من قِبَل جنود اتّحاديّين سابقين. هدفت هذه المجموعة الّتي آمنت بالهيمنة البيضاء، إلى "نقاء العرق الأبيض، والأرض الأمريكيّة". وقد بلغت ذروتها بين عامَي 1868 و1870؛ ممّا مهّد الطريق لإصدار «قانون كو كلوكس كلان» و«قانون القوّة» في عام 1870 وعام 1871، بعد إقرار محكمة أمريكيّة بأنّ المجموعة قد أتت أفعالًا خطيرة وإجراميّة.

[4] Hilton Als et al. Without Sanctuary Lynching Photography in America, Twin Palms, 2000: http://withoutsanctuary.org/. 

[5]  يكشف أرشيف المنظّمات المناهضة للقتل التعسّفيّ، والقتل خارج القانون، أو ما عُرِف بـ (Lynchage) موقع جهاز الشرطة الّذي أسهم بشكل فاعل ومشارك في تسليم المتّهمين للجموع في أكثر من خمسين في المئة من تلك الحالات، بينما غضّت الطرف عن أكثر من تسعين بالمئة من الحالات المتبقّية، بعد تقليل الحماية للمتّهمين، يُنْظَر: Jacquelyn Dowd Hall, Revolt Against Chivalry. Jessie Daniel and the Women’s Campaign Against Lynching, (Columbia University Press, 1993), p. 139.

[6] مرجع سابق، ص 140.

[7] مرجع سابق ص 133.

[8] Paula J. Giddings, Ida: a Sword Among Lions. Ida B. Wells and the Campaign Against Lynching, (Harper Paperbacks, 2009).

[9] بعض النساء كما تورد ويلس كَذَبْنَ عن سبق الإصرار، أو أنّهنّ لم ينفين التهم ويكذّبنها، وأرسلوا رجالًا سودًا إلى المشانق. خير مثال على ذلك قضيّة إيميت تيل (Emmett Till) في عام 2007، بعد أكثر من خمسين عامًا على الحكم في القضيّة، إذ اعترفت كارولين بريانت (Carolyn Bryant) بكذبها أثناء محاكمة قتلة إيميت تيل، الفتى المراهق الأمريكيّ من أصول سوداء، الّذي كان بسنّ 14 عامًا عندما اتّهمته بالاعتداء الجسديّ واللفظيّ عليها؛ ما أثار ذعرها. وقد عُثِر على جثّة الفتى إيميت في الثامن والعشرين من آب (أغسطس) 1955، ملقاة في النهر، ومقطّعة الأحشاء بشكل وحشيّ. وقد بُرِّئ زوج كارولين روي بريانت (Roy Bryant) وأخوه غير الشقيق، مرتكبا جريمة القتل، في أثناء جلسة عُقِدت في الثاني عشر من أيلول (سبتمبر) من العام نفسه؛ أي بعد أسبوعين فقط من العثور على جثّة الضحيّة، من قِبَل لجنة من المحلّفين البيض. وقد شكّلت هذه القضيّة حدثًا مفصليًّا في الحراك ضدّ القتل التعسّفيّ؛ ذلك أنّ أمّ الضحيّة أصرّت على أن يظلّ نعش ابنها مفتوحًا خلال مراسم التأبين، وهذا ما أدّى إلى انتشار الصورة حول العالم؛ ممّا أثار حراكًا دوليًّا ضدّ المنظومة العنصريّة الأمريكيّة. وفي عام 1961 كرّس إيميه سيزار (Aime Cesaire) قصيدة في ديوانه الشهير (Ferrements) إحياء لذكرى الفتى، بينما في عام 1962 ألّف بوب ديلان أغنية بعنوان ( The Death of Emmett Till)، يُنْظَر: .(Timothy B. Tyson, The Blood of Emmett Till, (Simon & Schuster, 2017

[10] استقالة مسؤول بوزارة بن غفير احتجاجًا على تسليح المستوطنين، الجزيرة الإخباريّ، 4/12/2023، آخر دخول: 11/2/2024: https://shorturl.at/bfiP2. 

[11] Israelis Flock to Buy Guns as Sense of Security Shatters, Wall Street Journal, 11/12/2023, last access: 11/2/2024: https://shorturl.at/rRSUW.

[12] Israel’s Top Cop Warns Ben-Gvir's Mass Distribution of Weapons Could Put Them in Wrong Hands, Haaretz, 10/11/2023, last access: 11/2/2024: https://shorturl.at/RV479
[13] Dirty secret of Israel’s weapons exports: They’re tested on Palestinians, Al-Jazeera English, 17/11/2023, last access: 11/2/2024: https://shorturl.at/cAHOV. 

[14] Elsa Dorlin, Se De’fendre, Editions La Decouverte, (Parin, 2019).

[15]  سبق للمؤلّف أن تناول سياسات الحياة والموت في فلسطين المحتلّة في مادّة بعنوان: الجسد حين يقاوم: تأمّلات في سياسات الحياة والموت، فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة، 18/5/2021، آخر دخول: 11/2/2024: https://shorturl.at/pqTUZ.

[16] Le Normal et le Pathologique, PUF, (Paris, 1966), pp. 78 – 79.

[17] يمكن من خلال هذه المقاربة فهم النسيج المكانيّ والمدينيّ؛ باعتباره شبكة متعاضدة ومتراكبة ومتقابلة ومتّفقة ومختلفة من قوى التوجيه، وبالتالي يمكن تحرير مفهوم الإبادة المدينيّة (Urbicide) من الصورة النمطيّة لها، المرتبطة بالعمل العسكريّ والحربيّ؛ للوصول إلى السياسات الحضريّة السائلة لإحداث درجة من درجات الإبادة المدينيّة. كما يحدث الآن في بعض المدن العربيّة مثل القاهرة وجدّة وغيرهما باسم التطوير والتحديث.

[18] ثمّة الكثير من المراجع بشأن هذا الأمر، نُورد بعضها هنا: https://rb.gy/j4s609، https://rb.gy/ykpdka، https://rb.gy/ykpdka. 

[19] Carl von Clausewitz, On War, (Oxford University Press, Oxford, 2015).

[20]  Achille Mbembe, Politiques de L’inimitie’, (Editions La Decouverte, Paris, 2016).

[21] Far-right Israeli minister Ben-Gvir calls for killing of 'thousands of terrorists', MENA, 23/6/2023, last access: 11/2/2024: https://urlis.net/cgfqfrp3.

[22] يُنظر المرجع السابق. 

[23] Elsa Dorlin, Se De’fendre, (Editions La Decouverte, Parin, 2019), p 29.

[24] Edouard Sautayra, Legislation de l’Alge’rie, Maisonneuve & Cie, Paris, 1883, p 26 (2e e’dition).

[25] Frantz Fanon, The Wretched of The Earth, (Penguin Classics, 2001), p 54.

 


 

عبد الله البيّاري

 

 

 

طبيب وكاتب وباحث في مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، أكاديميّ وممارس فنّيّ.

 

 

 

 

التعليقات