15/02/2024 - 17:15

من سيرة الطين المشويّ... فخّار غزّة

من سيرة الطين المشويّ... فخّار غزّة

من عمليّة صناعة الفخّار في مدينة دير البلح، 13/2/2021 | علي جاد الله

 

ما الّذي تركته مدينة غزّة في كلّ بيت من بيوت البلاد قبل النكبة؟ ربّما تترك غزّة اليوم أنينها في كلّ بيت فلسطينيّ، غير أنّ الّذي تركته قبل النكبة إجابة عن سؤالنا، هو طينها المخزّف - من الخزف - عبر فخّارها التاريخيّ؛ فما من قرية أو مدينة في كلّ فلسطين من جنوب البلاد إلى شمالها قبل نكبتها، إلّا وقد جابتها أخفاف جِمال جمّالي غزّة محمّلة بالفخّار لبيعه فيها.

ليست مبالغة لو قلنا إنّ صناعة الفخّار هي الحِرفة الوحيدة الّتي بقيت حيّة، تنبض بطين غزّة في رملها على مرّ العصور إلى مطلع القرن الحاليّ؛ فقد عرفت غزّة عبر تاريخها حِرَفًا وصناعات وأشغالًا ازدهرت فيها، ثمّ اندثرت بفعل دوران الزمن وتداول الدول على المدينة، مثل صناعة الزجاج ومصابن الزيت والنسيج وغيرها. كلّها قضت إلّا الفخّار من بينها، الّذي ظلّ لسان حاله عن تقلّبات زمن المدينة، إذ يُقال: "فخّار يطبّش بعضه"، فقد وُلِدَتْ غزّة وفخّارها، وبقيا معًا.

 

الفخّار بوصفه شاهدًا

يُعَدّ الفخّار عمومًا، شاهدًا على أثر الإنسان في المكان، وصناعته من أقدم الحِرف والأشغال اليدويّة الّتي استدلّ عليها الإنسان؛ بغرض قضاء حاجاته اليوميّة عبر جبل طين الأرض ودعكه وتحويله إلى أشياء. بينما الفخّار في غزّة المدفون شظايا في رمالها، ليس شاهدًا على قِدَم المدينة وعراقتها فقط، إنّما يدلّ على شهرة فخّار غزّة ذاته، فقد ذُكِر فخّارها في أسفار العهد القديم سبع مرّات، وثلاث مرّات في أسفار العهد الجديد. كما ذُكِر أيضًا في عام 727 ق.م، وقد ذاع صيت الفخّار الغزّيّ عند فراعنة مصر كذلك[1].

في «تلّ العجول»، حيث النواة البكر لتوطّن مدينة غزّة القديمة، أو ما يُطْلَق عليه ’حضارة وادي غزّة‘، تمثّلت بأنماط حضاريّة فخّاريّة، منها ما عُرِف بـ ’الجعارين‘ المصنوعة إمّا من الأحجار الكريمة وإمّا من الفخّار. ولأنّ تلّ العجول جنوب غزّة، كانت همزة الوصل مع حضارة الوجه البحريّ في مصر؛ فقد تعرّضت صناعة الأواني الفخّاريّة في هذه الأخيرة إلى تحوّل حضاريّ؛ فأصبح فخّارها يُصْنَع من ’الطفْل‘ تأثّرًا بـ «تلّ العجول» بعد أن كانت تُصْنَع من طمي النيل[2].

كان الفخّار من أهمّ مظاهر الحياة الطقوسيّة المتّصلة بعبادة الآلهة الكنعانيّة في ساحل فلسطين، وذلك عبر الزهريّات...

لم يكن فخّار غزّة قديمًا يُصْنَع لأغراض أداتيّة مثل أواني الحاجات المنزليّة كما صار عليه لاحقًا، إنّما كان الفخّار من أهمّ مظاهر الحياة الطقوسيّة المتّصلة بعبادة الآلهة الكنعانيّة في ساحل فلسطين، وذلك عبر الزهريّات، وهي أوانٍ فخّاريّة كانت تُسْتخدَم في طقوس العبادة؛ ففي الأعياد الّتي كانت تخلّد ذكرى موت أدونيس، كان الكنعانيّون يصنعون صور الربّ من الطين المحروق؛ أي الفخّار، الّذي كان النساء يصفّنه على أبواب معابد أدونيس، ثمّ يقمن بالنواح على تلك الصور الفخّاريّة برقصات مشفوعة بالغناء الحزين[3]. في هذا الحدث أيضًا، كانت البذور السريعة (القمح) الّتي تُسْتنْبَت في بضعة أيّام، وتذبل بنفس السرعة من قوّة شمس حزيران (يونيو)، كانت تُبْذَر في زهريّات الفخّار[4]. وقد ظلّ هذا التقليد المتعلّق باستنبات القمح في أوانٍ فخّاريّة قائمًا في فلسطين، حتّى مطلع القرن الماضي في عيد الحصاد؛ إذ أشار إليه غوستاف دالمان في موسوعته عن فلسطين «العمل والعادات».

كما كانت الأكفان (المومياءات)، وكذلك التوابيت الفخّاريّة، من أقدم الآثار الفخّاريّة الحضاريّة الّتي عُثِر عليها في غزّة، والّتي ترجع إلى الفترة الواقعة بين القرنين العاشر والسابع قبل الميلاد[5]، حين عودة الإنسان للطين كان يجري تجسيدها من الطين نفسه عبر الفخّار أكفانًا وتوابيت.

وتعود شهرة فخّار غزّة وجودته لطينة تراب أرضها، الّذي - وحسب عارف العارف - كان خاليًا من الحديد[6]. ثمّ إنّ ثقافة خزن زيت الزيتون والنبيذ، وكذلك دبس العنب، الّتي اشْتُهِرَت فيها غزّة على مرّ العصور، هو ما دفع أهلها إلى احتراف صنعة الفخّار فيها منذ القدم؛ إذ يحفظ الفخّار الزيوت والمؤن، ويحافظ على برودتها، ومسامات الفخّار تسمح بترشيح الماء لتبريده؛ ومن هنا كانت جِرار الماء فخّارًا دائمًا.

 

ما بين الفخّار والخزف

ليس الفخّار هو الخزف، مع أنّ كليهما يُصْنَع من الطين، وكلاهما يُعَرَّضان للنار، حتّى يأخذا الشكل النهائيّ المُعَدّ للاستخدام؛ فمصدرهما واحد هو الطين، غير أنّ الفارق بينهما يكم في أنّ الفخّار بعد شيّه بالنار للمرّة الأولى يُطْلى بطبقة رقيقة تُسَمّى ’جليز‘، ثمّ يُحْرَق بالنار للمرّة الثانية فيصبح خزفًا. ومعظم أنواع الفخّار مساميّ، وتسمح بنفاذيّة الماء من خلالها، بينما الخزف غير مساميّ دائمًا، والخزف يمتاز باللمعان، ويُصدر رنينًا عند النقر عليه، كما أنّه صلب لا يخترقه السكّين، وهذه ميزات لا تتوفّر في الفخّار. غير أنّ الفخّار أقدم في تاريخ صنعه من الخزف؛ لأنّ هذا الأخير ليس إلّا مرحلة متطوّرة من الفخّار ذاته[7].

تُعْجَن طينة الفخّار بعد اختيار تربتها المناسبة؛ فجودة الفخّار محكومة بتربة طينه أوّلًا وأخيرًا، وبعد عجنها تُشَكَّل بالشكل الّذي يريده الفواخيريّ. كان تشكيل الآنية الفخّاريّة قديمًا بواسطة اليد، ثمّ صار الدولاب أو العجلة يُسْتعْمَل في تدوير الطين، ويستخدم الصانع معه أصابعه في عمليّة التدوير، وإذا لزم الأمر استخدم أداة. ثمّ تأتي مرحلة التجفيف تحت أشعّة الشمس، وبعد التجفيف يُشْوى الفخّار في النار داخل أتون أو فرن، تكون درجة حرارته مشروطة بنوع تربة العجينة ليصبح فخّارًا.

تُعْجَن طينة الفخّار بعد اختيار تربتها المناسبة؛ فجودة الفخّار محكومة بتربة طينه أوّلًا وأخيرًا. وبعد عجنها تُشَكَّل بالشكل الّذي يريده الفواخيريّ...

وإذا كان المقصود من الآنية خزفًا تُطْلى بمادّة زجاجيّة، وتُحْرَق مرّة أخرى؛ فتصبح آنية خزفيّة جاهزة للاستعمال. يشترك في ’كار‘ الفواخير في غزّة جملة من الصنّاع، منهم: العجّان الّذي يعجن طينة الفخّار، والخزّاف الّذي يشكّل، والتوّان الّذي يتولّى عمليّة الشيّ بالنار، وكذلك الرسّام الّذي كان يتولّى عمليّة الزخرفة والطِّلاء.

تاريخيًّا، وفي فلسطين، هناك أنواع تربة مستخدمة في عجن طينة الفخّار، مثلًا: التربة الحمراء أو البنّيّة، وهي تربة خشنة وسميكة يُصْنَع منها أقلّ أنواع الفخّار جودة، بينما اعتبر البعض التربة البيضاء أجود أنواع التربة لصناعة الفخّار، تُصْنَع منها جِرار الماء عادة[8]. إلّا لغزّة وعجينة فخّارها كان رأي آخر.

 

أسمر يا فخّارنا

حين داهم نابليون في حملته على فلسطين عام 1799 مدينة غزّة، استوقفته مدافع البارود المنصوبة فوق أسطح بيوت المدينة؛ ممّا دفعه إلى إعطاء إشارة الاستعداد لجيشه من أجل قصفها، لولا أن تنبّه في اللحظة الأخيرة إلى أنّها مزاريب ماء. كان أهالي غزّة يصنعون مزاريب ماء الشتاء من الفخّار الأسود؛ ممّا جعل نابليون يظنّها مدافع بارود استعدّت لقتاله[9].

كانت شهرة فخّار غزّة في لونه الأسود، أو الأسمر بتعبير أهالي المدينة وقضائها، وهو امتداد للفخّار الكنعانيّ المحروق الّذي أشرنا إليه سابقًا. ولم يُعْرَف الفخّار أسود إلّا في غزّة؛ لأنّ طينته كانت تُعْجَن من تربة سمراء تميّزت فيها بعض المواقع المحيطة بغزّة[10]. كما كان تدخينه يجري بدخان أتون شوائه، وهذا - فضلًا على خشونته - ما كان يعطيه قوّة ومتانة للحدّ الّذي استخدم فيه أهالي غزّة شقف فخّارهم المكسّر في بناء عقود منازلهم، وجدران بيوتهم، والأسوار المحيطة فيها. وحين هُدِّمت بيوت غزّة على إثر ما حلّ بالمدينة خلال الحرب العالميّة الأولى، كان الفخّار المستخدَم في بنائها يغطّي وجه أرض المدينة[11].

ما الّذي لم يؤدّه الفخّار في حياة الغزّيّين ومقتضياتهم؟ فالأواني على اختلاف أشكالها؛ من قدور الطهي، وصحون، وزبادي، وجِرار، وأباريق، ومزاير الماء، وخوابي الزيت والحليب، والكشاكيل، ولقنات العجين والغسيل، وحتّى المزاريب وأنابيب المجاري، كلّها كانت من الفخّار. إنّ التلّ الّذي صار اسمه في غزّة «تلّ الزهور» بعد أن كان يُسَمّى طوال التاريخ العثمانيّ للمدينة بـ «تلّ السكن»، هو ذات الموقع الّذي أُقيمت فيه فواخير غزّة تاريخيًّا[12]. وقد أُطْلِق عليه «تلّ السكن» نسبة إلى أفران شواء طين الفخّار، كما ارتبطت صناعة فخّار غزّة بحيّ بني عامر فيها[13].

التلّ الّذي صار اسمه في غزّة «تلّ الزهور» بعد أن كان يُسَمّى طوال التاريخ العثمانيّ للمدينة بـ «تلّ السكن»، هو ذات الموقع الّذي أُقيمت فيه فواخير غزّة تاريخيًّا...

ومن الأسماء الغزّيّة الّتي ارتبطت بالفخّار، وعلى دولاب الخزّاف تاريخيًّا: أسرة قعوة، وإبراهيم الشوبكي، وخلف الأقرع، ومحمّد فلفل، وعبد ربّه الغداوي، والحاجّ عبد الفتاح المشهراوي، وإبراهيم الزنوتي، وأبو عبيد الأزعر، ومعهم السيّدة أمّونة صالح وغمش[14]؛ ممّا يؤكّد دور النساء في هذه الصنعة.

كان إذا ما ارتحل الغزّيّ، وأقام في بلد غير مدينته، فإن لم يُعْرَف بكنية ’الغزّاويّ‘ قيل عنه ’الفواخيريّ‘؛ ففي عريش سيناء على حافّة البحر المتوسّط، كان أهلها مقسومين في تركيبهم الاجتماعيّ بين: العرايشيّة والفواخيريّة. الفواخيريّة مهاجرون تعود أصولهم إلى مدينة غزّة، وقد جاؤوا العريش بعد بناء قلعتها للتجارة مع حاميتها بالفخّار الّذي احترفوا صناعته في غزّة، فنزلوا العريش وأقاموا وظلّوا يُعْرَفون باسم ’الفواخيريّة‘[15].

 


إحالات

[1] عارف العارف، تاريخ غزّة (القدس: دار الأيتام، 1943)، ص 274.

[2] سليم عرفات المبيّض، غزّة وقطاعها: دراسة خلود المكان وحضارة السكّان (القاهرة: الهيئة المصريّة العامّة للكتب، 1987)، ص 48.

[3] كونتنوج، الحضارة الفينيقيّة، ترجمة: محمّد عبد الهادي شعيرة (شركة مركز كتب الشرق الأوسط، 2001)، ص 44.

[4] مرجع سابق، ص 45.

[5] المبيّض، غزّة وقطاعها، ص 89.

[6] العارف، تاريخ غزّة، ص 274.

[7] طه حسن الزعارير، الصناعات والحرف في جنوب بلاد الشام: في العصرين الأيّوبيّ والمملوكيّ (عمّان: وزارة الثقافة الأردنيّة، 2021)، ص 271.

[8] مرجع سابق، ص 272.

[9] عارف العارف، تاريخ غزّة، ص 274.

[10] نعوم شقير، تاريخ سينا والعرب (المملكة المتّحدة، مؤسّسة هنداوي، 2018)، ص 192.

[11] عارف العارف، تاريخ غزّة، ص 274.

[12] مرجع سابق، ص 274.

[13] سليم عرفات المبيّض، غزّة وقطاعها، 430.

[14] مرجع سابق، ص 430.

[15] نعوم شقير، تاريخ سينا، ص 192.

 


 

علي حبيب الله

 

 

 

باحث في العلوم الاجتماعيّة، حاصل على ماجستير فلسفة التاريخ من «الجامعة الأردنيّة»، وماجستير في الدراسات العربيّة المعاصرة من «جامعة بير زيت». يعمل في مجال الاستكمال التربويّ في القدس.

 

 

 

التعليقات