19/02/2024 - 12:53

ثقوب في الذاكرة

ثقوب في الذاكرة

من المظاهرات الداعمة لفلسطين في لندن، 21/10/2023 | غاي سمالمان.

 

تخوض إسرائيل ضمن حرب الإبادة الّتي تشنّها على قطاع غزّة وعموم فلسطين، معركة على جبهة رابعة، إضافة إلى الجبهات الثلاث في البرّ والبحر والجوّ؛ بهدف السيطرة على المشهد الإعلاميّ، بشكليه الأكثر انتشارًا بين الجمهور: وسائل الإعلام المؤسّساتيّة، ومنصّات الإعلام الشعبيّ.

قبل ظهور منصّات وسائل التواصل الاجتماعيّ مع بداية الألفيّة الجديدة، كانت إسرائيل قد حسمت معظم معاركها الإعلاميّة تحديدًا في السياق العالميّ؛ عن طريق علاقاتها، ومجموعات ضغطها، والتجييش العالميّ لنصرتها. لكنّ تغيّر المشهد الإعلاميّ أتاح مساحة إعلاميّة أكبر للفلسطينيّين، مثل بقيّة الشعوب المقموعة في جنوب العالَم والمجموعات المضطهدة، وذلك عبر النشر غير المراقب من قِبَل سلطات الهيمنة وأذرعها. الواقع الجديد ساهم في كشف أجزاء مطموسة من الحقائق حول عمليّات قمع الشعوب؛ ما أثار فيها رغبة نفض الظلم عنها. ولعلّ مثال الثورات العربيّة (المعروفة بالربيع العربيّ) هو الأقرب إلى الشعوب العربيّة.

طوّرت إسرائيل، مثل سائر آليّات القمع، تقنيّات جديدة لمحاربة السرديّة الّتي لا تتماهى مع مصالحها ورؤيتها، وخاصّة في حيّز لا تستطيع التحكّم بطبيعة الخطاب المُبَثّ عن طريقه، وذلك بهدف التحكّم بمدى انتشاره وحجم ظهوره، وبالتالي تأثيره. تجلّى ذلك خلال حربها الّتي تشنّها منذ عمليّة «طوفان الأقصى»، في إجراءات التطويع الّتي قامت بها المنظومة الصهيونيّة للشركات المسؤولة عن هذه المنصّات، من خلال الضغط على مالكيها. أبرز الأمثلة كان الضغوطات الّتي أرضخت مالك شركة «إكس» (تويتر سابقًا) لزيارة إسرائيل، توعّد خلالها بمحاربة محتويات فلسطينيّة رغم أنّه وعد العالم بمنصّة حرّة خالية من الرقابة. بالمجمل، وفي كلّ المنصّات، لوحظ - فلسطينيًّا - تقييد أكبر على الحسابات الفلسطينيّة، أو حسابات الداعمين للقضيّة الفلسطينيّة، وصل قمعها أحيانًا إلى درجة الحذف النهائيّ للحسابات، أو حتّى حذف منشورات منها.

طوّرت إسرائيل، مثل سائر آليّات القمع، تقنيّات جديدة لمحاربة السرديّة الّتي لا تتماهى مع مصالحها ورؤيتها، وخاصّة في حيّز لا تستطيع التحكّم بطبيعة الخطاب المُبَثّ عن طريقه...

حذفت منصّة «إنستغرام»، خلال اليوم الثامن عشر من الحرب على قطاع غزّة، حساب «عين على فلسطين» الّذي يُعَدّ أكثر الحسابات الفلسطينيّة متابعة وتوثيقًا للأحداث اليوميّة فيها، وخاصّة بما يتعلّق بالأزمات، وعلى الرغم من استعادته بعد أقلّ من 48 ساعة، إلّا أنّ هذا مؤشّر ذو خطورة. لا تقتصر ظاهرة التقييد والحذف على الحادثة أعلاه، ولا على الحرب الحاليّة فقط، بل سبق أن وُصِفَت خلال أيّار (مايو) 2021 على أنّها "احتلال رقميّ لفلسطين"[1].

تحاول هذه المقالة تسليط الضوء على الأبعاد المستقبليّة لحذف الحسابات والمنشورات الفلسطينيّة، وطرق التحايل عليها أيضًا، تحديدًا في سياق الأزمات والحروب الّتي تعاني منها فلسطين، وأثر ذلك في كتابة ماضي المستقبل.

 

الذكريات وعلاقات القوّة

يصبح الحيّز الرقميّ الّذي تمنحه منصّات التواصل الاجتماعيّ مع تراكم السنوات، بما فيها من أحداث، مكانًا جامعًا للمواقف والآراء الّتي نشرها أصحابها عبرها، وتتحوّل تلقائيًّا إلى مخزنِ ذكريات، تعود طافية للسطح برغبة - أو من دون رغبة – من صاحبها أحيانًا.

لم يقلب ظهور وسائل التواصل الاجتماعيّ شكل العلاقة الخطّيّة الّتي لطالما ميّزت المشهد الإعلاميّ المؤسّساتيّ فقط، والّتي طالما كانت موجّهة من قِبَل مرسل ما إلى متلقٍّ موجود خلف شاشة ما. ولم يساهم أيضًا في تحدّي هيمنة خطاب أحاديّ، يخدم أصحاب المصالح الاقتصاديّة أو الأيديولوجيّة المالكة للمؤسّسات الإعلاميّة والمؤثّرة فيها، كما رأى المفكّر الإيطاليّ أنطونيو غرامشي (1891 - 1937)[2]. بل انخلق مع ظهورها حيّز - نظريًّا على الأقلّ - يستطيع احتمال مواقف وآراء متنوّعة، ذاتيّة وجمعيّة، تجاه قضايا إنسانيّة واجتماعيّة من منظور القاعدة الشعبيّة، يعرض فيه سرديّات من كلّ الأطياف المجتمعيّة وغير منساقة؛ وفقًا لمصالح سلطات الهيمنة.

يجادل المؤرّخ الفرنسيّ غوستاف لوبون في كتابه «فلسفة التاريخ» (2017) بأنّ كتابة التاريخ يجب ألّا تكون فقط حكرًا على الوثائق الصادرة عن المؤسّسات الدولانيّة، بل تتوسّع صلاحيّات المعرفة الأقرب إلى الحقيقة عن الماضي إلى ضرورة التمعّن في القصص، والأمثال الشعبيّة، والحكايات، والمرويّات بكلّ أشكالها، إضافة إلى هياكل اجتماعيّة أخرى مثل العمارة، سواء تُنوقِلت عبر الأجيال أو نُقِلَت عبر الأوراق. لذلك، وبفعل التحوّل المعرفيّ في طريقة رؤيتنا إلى الماضي؛ شهد عصر ما بعد الحداثة اهتمامًا بتوسيع - أو حتّى إعادة - كتابة التاريخ؛ اعتمادًا على محفوظات التاريخ القاعديّ، وليس المؤسّساتيّ فقط[3]. يضيف منتقدون أنّ هذه الحاجة تصبح ملحّة بشكل أكبر في الأماكن أو الفترات الّتي حُرِّكَتْ بموجب التسلّط على كلّ ما هو آخر، تحديدًا عند الحفر المعرفيّ بالشعوب المستعمَرة الّتي سُرِقَتْ أرشيفاتها؛ جزءًا من مشروع سرقة دول الاستعمار الأوروبّيّ لخيراتها.

وسّع الفرنسيّ ميشيل فوكو (1926 – 1984) في مشروعه المعرفيّ، وتحديدًا كتابه «حفريّات المعرفة» (1969)، وسّع مفاهيم القوّة وعلاقات القوّة المجتمعيّة، وذلك من خلال الحفر في صيرورة تشكّل مقبوليّة الخطاب المجتمعيّ؛ الغايات البنيويّة الأوسع للسلطة، وطرق خلقها للمقبوليّة، الّتي صنّفها على أنّها أدوات خادمة لهذه الغايات، مثل السجن، والمدرسة، والبحث الأكاديميّ، وإلخ[4]. يرى فوكو أنّ الأرشيف والأرشيفيّة الّتي عرّفها على أنّها مجمل التناقل المجتمعيّ للخطاب حتّى الوصول إلى صيغته المقبولة، خاصّيّةً إنسانيّة تطوّرت في عصر الحداثة في لبّ ماهيّة هذه المؤسّسات، وبالضرورة مرافقة لها، كانت دومًا تهدف إلى بناء مستقبل مسيطَر عليه.

وسّع الفرنسيّ ميشيل فوكو (...) مفاهيم القوّة وعلاقات القوّة المجتمعيّة، وذلك من خلال الحفر في صيرورة تشكّل مقبوليّة الخطاب المجتمعيّ؛ الغايات البنيويّة الأوسع للسلطة، وطرق خلقها للمقبوليّة،....

وضع الفرنسيّ لهذا السبب جلّ اهتمامه بالعودة إلى الماضي، والحفر المعرفيّ فيه، ابتداء من الوثائق المؤسّساتيّة حتّى تفاصيل الوثائق القاعديّة بجميع أشكالها المتناقلة. بموجب ذلك، ولفهم أعمق لهذه المقبوليّة؛ منح ثقلًا كبيرًا لعاملين اثنين: شحّ الموادّ الّتي رافقت صيرورة تطوّر الخطاب، والفجوات الزمنيّة بين بدايات تشكّله حتّى الوصول إلى نقطة فرضه بالقوّة؛ أساسًا لخلق هذه المقبوليّة. فوفقًا لفوكو؛ يواجه أيّ خطاب عددًا من التهديدات خلال صيرورته، وتتربّع عمليّة الاندثار على عرش أخطر التهديدات، فيرى أنّ قراءة الحاضر الأقرب إلى الحقيقة غير قابلة للتحقّق من دون فهم ماهيّة الصيرورة الّتي أدّت إلى استبدال خطاب بآخر.

يفرّق فوكو بين عمليّات الاندثار الطوعيّ الّذي يتمثّل بارتقاء طبيعيّ لأيّ خطاب اجتماعيّ، وبين الاندثار الممنهج الّذي يفعّله أصحاب السلطة والقوّة لخدمة مصالحهم الأيديولوجيّة، وبقائهم على رأس نظام سياسيّ سلطويّ[5].

 

تدمير الأرشيف والذاكرة

ترتكز أنظمة القمع بماهيّتها على التدمير، ويمتدّ ذلك إلى الذاكرة الجمعيّة؛ ففي النظام الّذي خلقه جورج أورويل في روايته «1984»، لم يكتفِ السلطويّون بالسيطرة على المرافق الحياتيّة والاجتماعيّة للشعب السجين، ولكنّهم عملوا أيضًا على السيطرة على مناحٍ عدّة من الأرشيف والأرشيفيّة؛ فاستخدموا ماكينات سمّوها الثقوب. في هذه الثقوب كانت أيّ وثائق أرشيفيّة كانوا يريدونها أن تختفي من الذاكرة تُرْمى وتُدَمَّر بهدف السيطرة على الوعي العامّ، وعملوا أيضًا على حذف أيّ كلمات معيّنة من قاموس الكلمات اللغويّ للسيطرة على الأرشيفيّة[6].

بالعودة إلى منصّات التواصل الاجتماعيّ، الّتي تتحوّل بحكم طبيعتها إلى مجمّع ذكريات ترافقنا، خاصّة بما يتعلّق بالأزمات الإنسانيّة والحروب، يتحتّم علينا التعاطي مع المنشورات على أنّها شكل جديد من المرويّات، بالضبط مثل كلّ الألوان الأدبيّة الّتي شكّلت قبل الثورة الرقميّة أرشيفات الذاكرة الجمعيّة للشعوب، وتاريخها الاجتماعيّ. ولذلك؛ وُلِدَ مع الأرشيف الجديد الّذي أتاحه ظهور منصّات التواصل الاجتماعيّ عامل ضرورة للحفاظ عليه لحفظ التاريخ؛ فهذا الأرشيف بالضرورة سيشكّل في المستقبل محفورات تساهم في رؤيتنا إلى الماضي؛ رؤية الأجيال القادمة، الأحداث الحاصلة في فلسطين، حرب الإبادة الجماعيّة الصهيونيّة على قطاع غزّة.

يعرّف عدد من المفكّرين إسرائيل على أنّها نظام إحلاليّ؛ فالمحو والاستبدال بكلّ ما هو فلسطينيّ ما لديها، جزء من لُبّ ماهيّتها. امتدّت فكرة المحو تجاه كلّ المرافق الفلسطينيّة الّتي طالتها الأيادي الإسرائيليّة، فمنذ نشأتها اعتمدت استبدال السكّان الأصليّين وشكل أراضيهم، وكلّ ما هو فوقها، فكان للتجمّعات السكّانيّة نصيب، وللساكنين فيها، وللعمارة فيها، وحتّى المرويّات الشعبيّة لم تسلم من هذه العمليّات الممنهجة.

وفي عصرنا الرقميّ الحاليّ، تعمل إسرائيل على محو كلّ المرويّات الّتي تطالها أدواتها، ولا سيّما أكثرها انتشارًا في عصر الرقمنة، منشورات وسائل التواصل الاجتماعيّ.

 

الجبهة الرابعة

تشكّل منشورات وسائل التواصل الاجتماعيّ عن الحرب الّتي تُشَنّ على الشعب الفلسطينيّ، والّتي تُنْشَر بأغلبيّتها من قِبَل الفلسطينيّين أنفسهم، أو المتضامنين معهم، تشكّل المادّة الأساسيّة، والتوثيق المباشر وفي بعض الأحيان، الوحيد للإبادة الجماعيّة الّتي يعيشها أهالي غزّة. تتحوّل هذه الموادّ مع مرور الوقت إلى أرشيف مرويّات الأهالي عن الحرب، وعمود فقريّ لأرشيف عامّ مركزيّ، في عمليّة صناعة سرديّة ماضي المستقبل حول الإبادة الجماعيّة. تعمل إسرائيل منذ اندلاع معركة «طوفان الأقصى» بشكل مكثّف على تدمير هذه المنشورات بطرق عدّة لأسباب غير محدّدة، قد تكون لإدراكها قيمتها على صناعة الحاضر وماضي المستقبل، أو قد تكون امتدادًا لطبيعتها التدميريّة، الّتي انتقلت إلى الحيّز الرقميّ أيضًا مع بنائه.

قام تاريخ الصهيونيّة على التدمير حتّى قبل إعلان إنشاء دولة إسرائيل الرسميّ، واعتُبِر عاملًا أساسيًّا لإنشائها؛ فلا أمل حقيقيًّا في خلق وعي عامّ بأحقّيّة امتلاك أرض على آثار عمرانيّة وخطابيّة باقية لشعب آخر. لذلك؛ طال التدمير الحيّز المكانيّ بكلّ أشكاله، الّذي يشكّل حسب لوبون عاملًا أساسيًّا في كتابة التاريخ. ولم يسلم الأرشيف الورقيّ من بطش الصهاينة خلال النكبة، فدُمِّرت المكتبات، وسُرِق ما فيها من الكتب والجرائد ومذكّرات النخب الفكريّة، وأوراق الملكيّة للشعب الفلسطينيّ[7].

قام تاريخ الصهيونيّة على التدمير (...) فلا أمل حقيقيًّا في خلق وعي عامّ بأحقّيّة امتلاك أرض على آثار عمرانيّة وخطابيّة باقية لشعب آخر...

رافقت عمليّات تدمير الأرشيف وسرقته محطّات عدّة من تاريخ الشعب الفلسطينيّ، كان أبرزها سرقة أرشيف «مركز الأبحاث الفلسطينيّ» في بيروت عام 1982، وظهرت بعد سنوات آثار هذه العمليّات في الذاكرة الفلسطينيّة المثقوبة؛ فمع تأسيس الأرشيف الوطنيّ الفلسطينيّ عام 1994، ظهرت ثقوب في الأرشيف امتدّت منذ سنوات الستّينات حتّى التسعينات. وحتّى خلال إبادة 2023-2024 لم تسلم الأرشيفات من حرب الإبادة الّتي تشنّها إسرائيل؛ إذ طالت الصواريخ الأرشيف المركزيّ بمقرّ بلديّة غزّة؛ الأمر الّذي أدّى إلى إتلاف كلّ محتوياته، وإحداث ثقوب في الذاكرة الغزّيّة، فضلًا على مؤسّسات أخرى وأرشيفاتها.

تحوّلت الموادّ الحافظة لمحتويات الأرشيف في العصر الرقميّ من الورق إلى المنشورات، وعلى ضوء ذلك تعمل إسرائيل في الحيّز الرقميّ أيضًا؛ بهدف تدمير هذه المحتويات. ومع اندلاع الحرب تجنّد العسكر بلباسهم المدنيّ كأبراج مراقبة بنبتكونيّة[8]، خصوصًا في ظلّ انشغال مؤسّسات العسكر في عمليّات مراقبة الغزّيّ، وأصبح الإسرائيليّون بغالبيّتهم جنودًا في كلّ مكان تطاله سلطتهم آليّات قمع للصوت الفلسطينيّ؛ فحوكمت منشورات الفلسطينيّ الموجود في الجامعات وأماكن العمل في الأراضي المحتلّة عام 1948، وحُذِفت مناشيره طوعًا أو مرغمًا خوفًا، وامتنع عن النشر تجنّبًا للعواقب والتحريض. جُنِّد وتطوّع لذلك داعموهم في الخارج؛ بهدف مراقبة أيِّ محتوًى داعم للفلسطينيّين، ورُوقِبت أصواتهم الكاشفة والمعترضة على الإبادة، وحُذِفت محكيّات العصر الرقميّ في كلّ حيّز طالته الرقابة المدنيّة الإسرائيليّة وداعموها.

أمّا في الأماكن الّتي لم تطلها سلطتهم، ففعّلت إسرائيل آليّاتها الضاغطة على الشركات المالكة لمنصّات التواصل الاجتماعيّ؛ لتطويع خوارزميّاتها لمحاربة كلّ خطاب لا يتماهى معها، حيث عملت هذه الخوارزميّات على حذف المنشورات، وتقييد الحسابات أحيانًا وإغلاقها نهائيًّا أحيانًا أخرى. في المقابل، حاول الفلسطينيّ التحايل على الخوارزميّات؛ عن طريق استبدال إشارات أخرى بأحرف، ووضع علامات بين الكلمات وطرق عديدة أخرى. وعلى الرغم من ضرورة فعل ذلك من أجل إكمال النشر عن فلسطين، إلّا أنّ هذه الطرق ستؤدّي إلى ضياع هذا المحتوى عند العودة إليه؛ من خلال محرّكات البحث بحثًا عن التاريخ، ولا سيّما في ظلّ الكمّ الضخم من المنشورات في أرشيف المنصّات في زمن يتّسم بكونه "عصر المعلومات الهائلة"[9].

ولم يكتفِ الإسرائيليّ بذلك، بل استغلّ صواريخه للقتل وإحداث ثقوب في الذاكرة أيضًا؛ فقتل الصحافيّين واغتال عائلاتهم لتدمير رغبتهم في نقل الحقيقة عبر المؤسّسات الإعلاميّة المركزيّة، الّتي توجد أيضًا على هذه المنصّات؛ فعند قصف منزل عائلة مراسل قناة «الجزيرة» في غزّة وائل الدحدوح، في الأيّام الأولى للإبادة الجماعيّة، نشر المصوّر معتزّ عزايزة، صاحب أحد أكثر الحسابات الغزّيّة متابعة على منصّة «إنستغرام»، مناشدة للعالم، كتب فيها: "البارحة، حين رأيت مراسل «الجزيرة» عندما فقد جميع أفراد عائلته، صدّقوني أو لا تصدّقوني، كنت على وشك أن أحذف كلّ شيء هنا، لا أودّ أن أخسر أكثر من ذلك ليرى العالم"، والأمثلة كثيرة.

 

آمنة... جامعة المحكيّات

في رواية «أعراس آمنة» (2004) للكاتب الفلسطينيّ إبراهيم نصر الله، كانت بطلة الرواية تعمل دومًا على جَمْع الحكايات حين تسمعها أو تعيشها، أو حتّى تلك الّتي تجذبها من أخبار الجرائد؛ خوفًا عليها من الضياع. وتتساءل خلال رحلتها عن مصير الروايات الّتي تتعرّض للاندثار مع مرور الوقت، فتقول: "هل تعرف مصير الحكايات الّتي لا نكتبها؟ إنّها تصبح ملكًا لأعدائنا"[10].

يجنّد أعداؤنا من جميع المؤسّسات المدنيّة والدولانيّة بعسكرها، وأدوات إنفاذ قانونها، كلّ الأدوات لأجل إحداث ثقوب في الذاكرة والتاريخ، وذلك بهدف رسم صورة ماضي مستقبل مختلفة عمّا يعيشه الغزّيّ في ظلّ الإبادة. تُشرعن إسرائيل لنفسها أيّ طريقة لإجراء عمليّة المحو؛ استمرارًا لمشروع التطهير العرقيّ والإبادة الجماعيّة الّذي بدأ منذ عقود، فتستغلّ جنودها المدنيّين، أدوات إنفاذ القانون، المؤسّسات العسكريّة، الخوارزميّات، زرع الخوف في قلوبنا. في المقابل، يساعدها أيضًا اضطرارنا إلى التحايل على الخوارزميّات، الّتي ستؤدّي إلى ضياع هذه المحكيّات في كمّ ضخم من المنشورات الّتي تحتويها هذه الأرشيفات. كلّ ذلك، سيؤدّي إلى اندثار أجزاء مركزيّة وتدميرها من التاريخ، تاريخنا نحن، تاريخ الرافضين لآخر قضيّة استعمار استيطانيّ في هذا العصر.

 


إحالات

[1] الاحتلال الرقميّ لفلسطين، الجزيرة، 6/10/2022، آخر دخول: 19/2/2024: https://rb.gy/jtwlde. 

[2] أنطونيو جرامشي (وردت في المتن غرامشي بالغين لا بالجيم)، كرّاسات السجن، ترجمة عادل غنيم، (دار المستقبل العربيّ، 1994).

[3] غوستاف لوبون، فلسفة التاريخ، ترجمة عادل زعيتر، (مؤسّسة هنداوي، 2017).

[4] ميشيل فوكو، حفريّات المعرفة، (المركز الثقافيّ العربيّ، 1987).

[5] مرجع سابق. 

[6] Orwell, G. Nineteen Eighty-Four. (Penguin Classics, 2021).

[7]  رونا سليع، الفيلم "المخفيّ والمسروق – الأرشيف الفلسطينيّ في إسرائيل" للمخرجة "رونا سيلع"، 2017.

[8]  مشتقّ من مصطلح استخدمه ميشيل فوكو في كتابه «المراقبة والمعاقبة».

[9]  ترجمة لمصطلح (Big Data).

[10] إبراهيم نصر الله، أعراس آمنة، (الدار العربيّة للعلوم ناشرون، 2012).

 


 

معتصم زيدان

 

 

طالب ماجستير في «قسم الإعلام» في «جامعة حيفا»، حاصل على البكالوريوس في «الفلسفة والإعلام»، ومهتمّ بالخطاب الثقافيّ عند الشعوب والفئات المقموعة.

 

 

 

 

التعليقات