26/02/2024 - 09:53

الملفّ الجنوب الأفريقيّ أمام ’محكمة العدل الدوليّة‘... قراءة ثقافيّة

الملفّ الجنوب الأفريقيّ أمام ’محكمة العدل الدوليّة‘... قراءة ثقافيّة

لافتة فصل عنصريّ في جنوب أفريقيا، عام 1960 | Getty.

 

في التاسع والعشرين من كانون الأوّل (ديسمبر) 2023، تقدّمت جنوب أفريقيا بقضيّة أمام «محكمة العدل الدوليّة»، تتّهم فيها إسرائيل بارتكاب جريمة إبادة جماعيّة ضدّ الفلسطينيّين، في مخالفة لالتزاماتها الدوليّة بموجب «اتّفاقيّة منع جريمة الإبادة الجماعيّة والمعاقبة عليها»، لعام 1948. جاءت الوثيقة المقدّمة أمام المحكمة في أربع وثمانين صفحة، فصّلت فيها جنوب أفريقيا حيثيّات دعواها؛ من وقائع وخلفيّات تاريخيّة وجغرافيّة واجتماعيّة، إضافة إلى التفصيل في الناحية القانونيّة وشروطها ومدى انطباقها، وخاتمة بجملة من الادّعاءات والمطالب، بعضها مستعجل في هيئة تدابير احترازيّة، وبعضها الآخر يتعلّق بحيثيّات القضيّة بعد النظر فيها موضوعيًّا؛ الأمر الّذي قد يستغرق أعوامًا للبتّ فيه.

يأتي هذا المقال في استقراء ثقافيّ لنصّ الوثيقة ذاتها، ودلالاتها، والإشارات الغنيّة الّتي تحملها، والّتي ستشكّل قطعًا حجر أساس، ليس فقط في أيّ تحرّك قانونيّ مستقبليّ يتعلّق بالقضيّة الفلسطينيّة، سواء أمام القضاء الدوليّ ممثّلًا بـ «محكمة العدل الدوليّة»، و«محكمة الجنايات الدوليّة»، وأيّ محاكم دوليّة خاصّة أخرى، أو أمام القضاء الوطنيّ للدول أعضاء المجتمع الدوليّ، الّتي قد تنظر في مظالم الشعب الفلسطينيّ تحت مظلّة الاختصاص العالميّ، ولكن أيضًا في التحرّكات الشعبيّة والثقافيّة المناصرة للقضيّة الفلسطينيّة إقليميًّا ودوليًّا.

 

المظلمة الممتدّة والمتّسعة

التصوّر القانونيّ للإبادة الجماعيّة محدّد للغاية، وصوره حصرت متطلّباتها «الاتّفاقيّة الدوليّة لمنع جريمة الإبادة الجماعيّة والمعاقبة عليها» (1948)، وأردف عليها «ميثاق روما» المؤسّس لـ «محكمة الجنايات الدوليّة» (1998). ورغم أنّ جنوب أفريقيا توجّهت إلى «محكمة العدل الدوليّة»، في استجابة مباشرة للمقتلة المستمرّة في قطاع غزّة، منذ السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، وفي ظلّ عدد هائل من القتلى والجرحى والدمار العميم، في مدّة زمنيّة قياسيّة جعلت هذه المقتلة الأقسى والأعنف في التاريخ المعاصر، إلّا أنّ الوثيقة المقدّمة إلى المحكمة توسّعت زمنيًّا ومكانيًّا في التأطير للجريمة الدائرة، في محاولة لوصل الأرض الفلسطينيّة من قطاع وضفّة أوّلًا، وتوحيد العدوّ وسياسته الرسميّة ثانيًا، والتدليل على التكرار والعود الزمنيّ منذ النكبة الأولى ثالثًا.

يظهر الأسلوب الجنوب الأفريقيّ في التدليل على التماسك الفلسطينيّ ووحدة المظلمة جليًّا في سطور الوثيقة؛ فقد أكّدت الأخيرة امتداد أقسامها على وحدة الجماعة الفلسطينيّة: المطلب المحوريّ في تعريف جريمة الإبادة الجماعيّة، الّتي تستدعي وجود جماعة إثنيّة أو قوميّة أو عرقيّة أو دينيّة مميّزة، يسعى مرتكب الجريمة إلى تدميرها جزئيًّا أو كلّيًّا، مشيرة بشكل مباشر إلى كون فلسطينيّي القطاع جزءًا من الكلّ الفلسطينيّ، الّذي عانى هو الآخر سياسات تدميريّة، مفصّلة في مظلمته الممتدّة إلى الضفّة الغربيّة؛ من فصل عنصريّ، وتطهير عرقيّ، وضمّ للأراضي، وسياسات تمييزيّة، وإنكار لحقّ تقرير المصير.

تجاوزت الوثيقة السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) وما يُسمّى بـ ’غلاف غزّة‘ على عجالة، راسمةً هالة شديدة السطوع على القطاع والضفّة الغربيّة طيلة 75 عامًا من الفصل العنصريّ...

تجاوزت الوثيقة السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) وما يُسمّى بـ ’غلاف غزّة‘ على عجالة، راسمةً هالة شديدة السطوع على القطاع والضفّة الغربيّة طيلة 75 عامًا من الفصل العنصريّ، و56 عامًا من الاحتلال العسكريّ، و16 عامًا من حصار القطاع الخانق، الّتي سبقت التاريخ المذكور ومهّدت له، ومن ثمّ الأسابيع المظلمة الّتي تلت التاريخ، وما وقع فيها من جرائم يصعب تكييفها مجتمعة، بغير جريمة الإبادة الجماعيّة، أمّ الجرائم الدوليّة. وقد بيّنت الوثيقة أنّ الانتهاكات والجرائم الإسرائيليّة في الضفّة الغربيّة؛ من استيطان، وضمّ للأراضي، وسيطرة على القدس، وتهجير قسريّ، وتدمير ممنهج للجماعة الفلسطينيّة، تمثّل "في حدّ أدنى، السياق المهمّ لانتهاك إسرائيل لاتّفاقيّة الإبادة الجماعيّة في حقّ الفلسطينيّين".

وبالمثل، أطّرت الوثيقة لتاريخ الانتهاك الإسرائيليّ في قطاع غزّة ما قبل السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر)، راسمة صورة شديدة القتامة للاستهداف الإسرائيليّ الممنهج لتدمير الجماعة الفلسطينيّة في القطاع. وعلى الرغم من أنّ الوثيقة أقرّت في بدايتها المتطلّبات المحدّدة لجريمة الإبادة الجماعيّة، ووجوب تفريقها عن بقيّة الانتهاكات من جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانيّة، إلّا أنّها بيّنت في إشارات متتالية التراكم الإسرائيليّ الزمنيّ والمكانيّ لمنهجيّة تدمير الجماعة، في سياسات امتدّت لخمسة وسبعين عامًا، وختمت في قسم الطلبات العامّة بالمطالبة بوقف سياسات الإبادة الجماعيّة على الكلّ الفلسطينيّ دون تمييز، بينما ركّزت على فلسطينيّي القطاع بشكل خاصّ في طلبات التدابير الاحترازيّة لطبيعتها المستعجلة.

 

النكبة نقطة انطلاق

خالفت الوثيقة الّتي قدّمتها جنوب أفريقيا التقليد الدوليّ المتّبع في العقود الماضية؛ بتجاوزها الإطار الزمنيّ لاحتلال 1967 باتّجاه الإطار الأوسع، أي النكبة. وقد ورد ذكر النكبة في غير موضع على امتداد الوثيقة، وبتجلّيات وتأطيرات مختلفة، راسمة في كلّ مرّة دلالة مختلفة تجمعها صفتها نقطة لمنطلق الألم الفلسطينيّ الممتدّ، وهو ما صرّحت به الوثيقة معتبرة "النكبة نقطة تحوّل في التاريخ والوجدان الفلسطينيّ".

وعلى الرغم من أنّ الوثيقة احترمت التقاليد الدوليّة في ما يخصّ صفة إسرائيل الدوليّة، مؤكّدةً الالتزامات المترتّبة على هذه الصفة، وعلى رأسها وجوب الامتثال أمام «محكمة العدل الدوليّة»، في اختصاصها في نظر خصومات الدول حول تفسير الاتّفاقيّات الدوليّة والالتزامات الدولانيّة المترتّبة عليها، إلّا أنّ النكبة وردت بداية الوثيقة مؤشّرًا على الامتداد الزمنيّ لسياسة الفصل العنصريّ أوّلًا. ثمّ وردت بعدها في إشارة إلى انحدار الغزّيّين الحاليّين، الّذين قد تدفع بهم السياسة الإسرائيليّة القائمة في القطاع إلى التهجير باتّجاه مصر، من صُلْب فلسطينيّين مرّوا بمنهجيّة مماثلة من التهجير والطرد القسريّ من أراضيهم وقراهم وبلداتهم، الّتي "تشكّل اليوم دولة إسرائيل".

مرّة أخرى، وردت النكبة في إشارة إلى التصريحات الرسميّة والعسكريّة الإسرائيليّة، الّتي تشكّل عصب الركن المعنويّ لجريمة الإبادة الجماعيّة وهي النيّة؛ فرأت الوثيقة مصداقًا لمنظور مسؤولين أمميّين وحكومات عديدة في الوعيد الإسرائيليّ بارتكاب نكبة ثانية في قطاع غزّة؛ في إشارة واضحة لنيّة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعيّة؛ الأمر الّذي يحيل إلى اعتبارها؛ كون النكبة قد انطوت فعلًا على نيّة مماثلة. وجاءت الإشارة الأوضح في ذلك لتصريح عزرا ياشين، الجنديّ السابق في جيش الاحتلال، الّذي أشارت إليه الوثيقة بالضلوع في مذبحة دير ياسين إبّان النكبة (1947-1949)، في ربط مباشر بين تصريحه الّذي اعتبرته تحريضًا مباشرًا على ارتكاب الجريمة، وبين ضلوعه السابق في سياسات مشابهة.

لم تفصح الوثيقة باعتبار النكبة عمليّة مستمرّة انطوت على نيّة بيّنة بالإبادة الجماعيّة والتدمير المادّيّ للجماعة الفلسطينيّة، وما تمثّله السياسات الإسرائيليّة على امتداد 75 عامًا من استمرار للمخطّط الأوّل بالاستعمار الاستيطانيّ الإحلاليّ، الّذي يسعى إلى الاستيلاء على الأرض، وتدمير الشعب الأصلانيّ وقتلهم وتهجيرهم؛ لِما في ذلك من تحدٍّ مباشر للنظام العالميّ، وما تعاهدت عليه مؤسّسات القانون الدوليّ من إقرار بشرعيّة الوجود الإسرائيليّ. على الرغم من ذلك، اعتبرت الوثيقة النكبة في حدّها الأدنى حدثًا تاريخيًّا مشحونًا بنيّة الإبادة الجماعيّة وسياساتها، وما ينطوي عليه تكرارها، أو التحريض على تكرارها، من نيّة مبيّتة بارتكاب الجريمة مرّة أخرى.

 

فسيفساء المقتلة

استطاعت الوثيقة، على امتداد أربع وثمانين صفحة، أن تحيط بالصورة الكبرى للجريمة الدائرة في القطاع، على اختلاف حيثيّاتها ومستوياتها وأبعادها المباشرة والممتدّة، دون أن تضحّي بقدرتها التصويريّة للمعاناة أو باختزال الفظائع في أنماط عامّة، ووصف مجرّد يضعف من وقعها الأخلاقيّ والإنسانيّ. في دوران مفصّل مع المتطلّبات والشروط القانونيّة لاستيفاء جريمة الإبادة الجماعيّة لركنها المادّيّ المتمثّل بالسياسة الرامية إلى تدمير الجماعة كلّيًّا أو جزئيًّا؛ من قتل لأفرادها، أو إيقاع ضرر مادّيّ ومعنويّ كبير عليهم، أو توفير ظروف حياة صعبة قادرة على تدميرهم، أو اتّخاذ إجراءات من شأنها أن تمنع الولادات بينهم. استطاعت جنوب أفريقيا أن تخرج الألم الفلسطينيّ في أعنف صوره، مفصّلًا ومكتملًا، وأن تمنح الضحايا وجوهًا وأسماء وأصواتًا وصفات.

ما جزّأته الشاشات على امتداد شهور ثلاثة من صور المقتلة المستفحلة، أخرجته الوثيقة في نسيج متين يدور حول المتطلّبات القانونيّة؛ فظهرت أكثر صور الموت فجاجة...

ما جزّأته الشاشات على امتداد شهور ثلاثة من صور المقتلة المستفحلة، أخرجته الوثيقة في نسيج متين يدور حول المتطلّبات القانونيّة؛ فظهرت أكثر صور الموت فجاجة من المتفجّرات والقذائف والأسلحة الكيميائيّة المحرّمة دوليًّا، وظهرت إلى جانبها صور الموت الصامت البطيء بالتجويع والتعطيش والتمريض. طفت المقتلة في ما يشبه الفسيفساء المتراصّة، وقد أحاطت الوثيقة بأبعادها النفسيّة والاجتماعيّة البعيدة الأمد، بما تشكّله من اختلال في البنية الاجتماعيّة الّتي مزّقت الجماعة وأفقدتها توازنها البشريّ والمادّيّ.

وقد استعانت الوثيقة بتصريحات المسؤولين الأمميّين، إضافة إلى اعتمادها - بشكل أساسيّ - على تقارير «الأونروا»، و«اليونيسف»، واللجان والأذرع الأمميّة الأخرى، وأخبارها؛ لتوثيق الممارسات الإسرائيليّة في الإبادة الجارية، وأيضًا بتقارير لجان التحقيق ولجان تقصّي الحقائق السابقة في القطاع، وما رافقها من تحليلات لمؤسّسات متخصّصة في الأمن الغذائيّ والصحّة، والطفولة والنسويّة، والأمراض النفسيّة والعقليّة والإعاقات المتنوّعة؛ لتدلّل على الصدمات النفسيّة والبدنيّة الّتي نجمت عن حروب أقلّ وطأة ووحشيّة من الدائرة حاليًّا.

ظهر الأطفال الخدّج الّذين قتلهم الاحتلال في «مستشفى النصر»، والأمّهات اللواتي بقر الاحتلال بطونهنّ في «مستشفى كمال عدوان»، والأمّهات اللواتي خسرن أملهنّ في أطفال جدد بعد عمليّات الاستئصال الّتي مررن بها، والأطفال الّذين قُطِعَتْ أطرافهم دون تخدير، والرضّع الّذين يعانون من الجفاف وسوء التغذية. كما ظهرت القبور الجماعيّة، وانقطاع الأوكسجين عن غرف العناية المركّزة، والجثث المتحلّلة في الشوارع وطوابير البحث عن الخبز وشربة الماء، وصدمات الكوارث، والنسب غير المسبوقة من التوتّر والتشنّج والخوف الشديد.

ولم تكتفِ الوثيقة بوصف الجاري، لكنّها استبقت التهديدات الإسرائيليّة وحذّرت من خطورة سياسات إغراق الأنفاق، وغيرها من تكتيكات القتال على مستقبل القطاع ومصير أهله.

 

الإبادة الثقافيّة: استشرافٌ للآتي

ركّزت الوثيقة على إثبات ركنَي جريمة الإبادة الجماعيّة بصورتها العامّة: المادّيّ والمعنويّ، وجاءت أقسامها تفصيلًا لخلفيّات الجريمة التاريخيّة والجغرافيّة والمجتمعيّة، والممارسات الإسرائيليّة المختلفة وأين ينضوي كلٌّ منها في المعيار المادّيّ للجريمة. ورغم ذلك، لم تخلُ الوثيقة من إشارات قويّة باتّجاه التدليل على وقوع جريمة أكثر تخصّصًا؛ جريمة الإبادة الثقافيّة. وبخلاف الإبادة الجماعيّة بمعناها العامّ، الّتي تركّز على التدمير المادّيّ للجماعة؛ من قتل وإضرار وتعقيدات للحياة اليوميّة المعيشة، تنحو جريمة الإبادة الثقافيّة باتّجاه تدمير الجماعة؛ باتّباع سياسات ممنهجة؛ لتدمير اللغة والعادات والقيم والعناصر الثقافيّة الّتي تميّز جماعة عن أخرى، والّتي تشكّل الهويّة الحضريّة للشعب الأصلانيّ. تحتاج الإبادة الثقافيّة إلى وقت أطول من تلك الّتي تحتاج إليها الإبادة الجماعيّة، وقد ترافق الأخيرة مثلما حصل في البوسنة والهرسك إبّان جرائم الصرب في أوائل تسعينات القرن الماضي.

ترتكز إشارات جنوب أفريقيا على التفصيل في التدمير الإسرائيليّ الممنهج لمؤسّسات النظام المدنيّ الغزّيّ؛ من قصر عدل، ومحاكم، وأرشيف قانونيّ، ومجلس تشريعيّ، ومبنًى مركزيّ للأرشيف. وفصّلت في استهداف إسرائيل للمكتبات العامّة، ودور النشر، والجامعات، والمؤسّسات التعليميّة والثقافيّة والفنّيّة، والمتاحف، والمساجد والكنائس، ودور الفنّ، والمباني الأثريّة.

أشارت الوثيقة إلى المنهج الإسرائيليّ لا في تدمير التراث الغزّيّ فحسب، بل أيضًا في تدمير مَنْ خلق التراث واستهدافهم؛ من صحافيّين، ومعلّمين، ومثقّفين، وأكاديميّين، وفنّانين وموسيقيّين...

من ناحية أخرى، أشارت الوثيقة إلى المنهج الإسرائيليّ لا في تدمير التراث الغزّيّ فحسب، بل أيضًا في تدمير صنّاع التراث واستهدافهم؛ من صحافيّين، ومعلّمين، ومثقّفين، وأكاديميّين، وفنّانين وموسيقيّين ومغنّين، وصانعي أفلام، وحكّائين، وشخصيّات عامّة، وذوي ذكاء حادّ، وحرفيّين، وطهاة. وتساءلت الوثيقة عن أثر كلّ هذا التدمير في المجتمع الغزّيّ، والمستقبل الّذي ينتظر أطفالًا فقدوا مدارسهم ومعلّميهم وكتبهم وركائز ثقافيّة في مجتمعاتهم المحيطة.

الأثر الأبعد من المقتلة الطاحنة الدائرة يظهر على شاكلة تساؤلات، وإشارات واضحة حول الاختلال الّذي ولّدته الإبادة الجماعيّة على الناحية الثقافيّة، وما لخّصته الوثيقة بالمحاولات الإسرائيليّة "لمحو ذكريات الفلسطينيّين، وتاريخهم، ومستقبلهم".

 

نحو نظام عالميّ لا تقوده أمريكا

ظهرت السلطة الأخلاقيّة، الّتي تستمدّها جنوب أفريقيا من تاريخها الحافل بالنضال ضدّ قوى التمييز والفصل العنصريّ، وهي ما زالت تقول كلمتها في الجريمة الإسرائيليّة في قطاع غزّة، في غير مكان من الوثيقة. فبينما لم تصرّح الوثيقة مباشرة بدور الولايات المتّحدة ودول أوروبّا الغربيّة بتمويل الحرب على القطاع ودعمها وتسليحها، كرّرت الوثيقة استنادها إلى مبدأ (Jus Cogens)، أو ما يُعْرَف بـ ’القواعد القطعيّة الآمرة‘، الّتي تُعَدّ مبادئ أساسيّة تتوافق على إلزاميّتها أعضاء المجتمع الدوليّ قاطبة. في إشارة إلى ما ينجم عن هذا المبدأ من مسؤوليّة دوليّة بإنفاذه، وهو أيضًا ما عبّرت عنه نصوص «اتّفاقيّة منع جريمة الإبادة الجماعيّة والمعاقبة عليها»، الّتي تحمّل الدول المصادقة لا مسؤوليّة احترام قواعدها فحسب، إنّما أيضًا مسؤوليّة ضمان احترام بقيّة الدول لهذه القواعد.

في المقابل، استندت الوثيقة إلى التحرّكات الدوليّة لدول العالم اللاغربيّ، الّتي تشكّل في مجموعها دولًا مناوئة للنظام العالميّ الحاكم بقيادة أمريكا؛ فوردت في معرض التوصيف دول مثل بوليفيا وكمبوديا وكوبا وإيران وتركيّا والجزائر وفنزويلا، وقد وصفت الدائر بالإبادة الجماعيّة. وبرزت قوًى دوليّة ذات وزن مثل مجموعة «البريكس» (BRICS) المكوّنة من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، الّتي عبّرت في اجتماعها الاستثنائيّ في 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، عن مخاوفها العميقة والعالميّة تجاه ما يحصل في الشرق الأوسط؛ في إشارة إلى الحرب الممتدّة في القطاع والجنوب اللبنانيّ.

وفي الوقت الّذي استدعت فيه جنوب أفريقيا الماضي الأليم للقارّة السمراء، وتجربتها الخاصّة في الإبادة الجماعيّة في رواندا تسعينات القرن الماضي، مشيرة إلى الصمت العالميّ الّذي ضاعف عدد الضحايا آنذاك، ومؤكّدة في الوقت نفسه أنّ جنوب أفريقيا لن تقف متفرّجة أمام ما يحدث في القطاع، أجرت الوثيقة عددًا من المقارنات توحّدت فيها مأساة الضحايا من الشعوب، وقد أقرّت للمقتلة في القطاع بالتفوّق على الدمار في حلب خلال أربعة أعوام من الجرائم الممنهجة في الأخيرة بين 2012 و2016، ودمار ماريوبول في أوكرانيا، وحتّى دمار ألمانيا على يد الحلفاء في الحرب العالميّة الثانية.

وفي الكفّة الأخرى تشير الوثيقة إلى الفشل الذريع الّذي مُنِي به «مجلس الأمن»، في القيام بدوره في حفظ السلم والأمن الدوليّين؛ في إشارة إلى الاصطفاف الأمريكيّ في الدرجة الأولى إلى جانب آلة الإبادة الإسرائيليّة، وما يعانيه هذا النظام الإمبرياليّ من إشكاليّات تهدّد السلام العالميّ.

 

رواية الضحايا

تضمّنت الوثيقة عددًا من المبادئ المستترة، الّتي تُعَدّ مفصليّة في الصورة الّتي تكيّف فيها جنوب أفريقيا الصراع، والّتي ستنعكس على المنهج الّذي ستنتهجه في التقاضي والسير في متن الدعوى من الآن فصاعدًا. يأتي على رأس هذه المبادئ نظرة جنوب أفريقيا إلى المقاومة الفلسطينيّة؛ فالوثيقة لم تذكر مصطلح ’الإرهاب‘ ولو على سبيل الإشارة إلى الرواية الإسرائيليّة، وهو بالأصل ليس مصطلحًا قانونيًّا على الرغم من الضجّة الكبيرة الّتي تثيرها الدول الكبرى حوله، وما يُبْنى عليه من تحرّكات دوليّة وخروقات جسيمة لقواعد القانون الدوليّ. كما لم تتطرّق الوثيقة إلى ’حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها‘، وهو الأساس الّذي بُنِيَت عليه كامل الرواية الإسرائيليّة والغربيّة المساندة لها.

ذكرت الوثيقة ما حدث يوم السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) باختصار في نصف صفحة، مشيرة إلى مهاجمة مقاتلي «حماس» وفصائل فلسطينيّة أخرى أهدافًا عسكريّة وأخرى مدنيّة إسرائيليّة؛ لتعود بعد أسطر قليلة بإدانة مهاجمة المدنيّين وأخذ الرهائن، دون الإشارة إلى الإدانة لكامل العمليّة. وفي نهاية الوثيقة، عادت جنوب أفريقيا وألمحت إلى ملاحظتها لعدم اختصاص المحكمة بالمطالبة بالإفراج عن الرهائن، لكنّها تعتقد أنّ السير الإيجابيّ في القضيّة لصالح الفلسطينيّين سيسهّل جهود إعادتهم.

قد لا تُعَدّ الوثيقة الجنوب الأفريقيّة أمام «محكمة العدل الدوليّة» ثوريّة بالمعنى الراديكاليّ للكلمة، لكنّها تحدّت المنظومة القائمة، ورفضت الرواية الّتي أحكمت شباكها النظم الضالعة في المقتلة...

وفي مواقع أخرى، اقتبست الوثيقة عددًا من التقارير الأمميّة لمقرّرين خاصّين ولجان تقصّي حقائق سابقة، ترفض فيها الخلط بين الأذرع المدنيّة لحكومة «حماس»؛ من مجلس تشريعيّ، ومراكز شرطة، ومكاتب حكوميّة ووزارات، وبين الذراع العسكريّ للحركة. وركّزت أيضًا في غير موضع على إشارة تلك الجهات الأمميّة إلى السياسة الممنهجة لجنود الاحتلال باستهداف الأعيان المدنيّة، والخلط المقصود بين المدنيّ والعسكريّ، ما يشير إلى تلقّيهم تعليمات بالخصوص وليس انفراد الصدفة أو العشوائيّة أو ظروف المعركة بالقرار؛ الأمر الّذي يُعَدّ تحدّيًا للمنطلقات الإسرائيليّة الأمريكيّة في عمليّاتها الّتي تضع ’تدمير «حماس»‘ هدفًا معلنًا للحرب الدائرة.

أخيرًا، حملت الوثيقة الّتي تقدّمت بها جنوب أفريقيا في طيّاتها جرأة كبيرة وفهمًا شاملًا للواقع الفلسطينيّ، وإحاطة بكلّ جوانب الصورة على قتامتها وتعدّد ظلالها وزواياها. واعتمدت رواية الضحايا، ونظرت عميقًا في وجدانهم وذواتهم، وعلاقتهم العضويّة ببيوتهم وأرضهم وذكرياتهم وتاريخهم وتطلّعاتهم المستقبليّة. وقد أورثها تاريخها الخاصّ حساسيّة في تقييم المأساة، وانحيازًا إلى الجماعات والشعوب ضدّ نظام تعدّدت وجوهه وجوهره واحد.

قد لا تُعَدّ الوثيقة الجنوب الأفريقيّة أمام «محكمة العدل الدوليّة» ثوريّة بالمعنى الراديكاليّ للكلمة، لكنّها تحدّت المنظومة القائمة، ورفضت الرواية الّتي أحكمت شباكها النظم الضالعة في المقتلة، وأسّست لتاريخ جديد تشير فيه أصابع الاتّهام نحو المجرمين، وتسمّيهم بأسمائهم دون مواربة، بعد تاريخ طويل من الحصانة الدوليّة، والإفلات من متطلّبات العدالة، حيث سيكون لهذه الكلمة ما بعدها في نضالات الشعوب.

 


 

هبة بعيرات

 

 

 

محامية فلسطينيّة ممارسة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة. حاصلة على درجة الماجستير في القانون الدوليّ وحقوق الإنسان. لها ديوان شعريّ منشور بعنوان «بيت بيوت»، ومجموعة قصصيّة منشورة بعنوان «سحابة واحدة لكلّ ما تبقّى».

 

 

 

التعليقات