04/07/2016 - 17:48

النّسوان تبهدلت

عزيزي أبو الجميل، هل تذكر يوم قلت إنّ النّساء تبهدلن! وأكّدت أنّ إحداهنّ تبهدلت تبهدلت! قل لي بربّك لماذا تبهدلت، وهل يستحقّ الأمر كلّ هذا الذهول الّذي بدا على وجهك يومها؟!

النّسوان تبهدلت

رياح شديدة تهبّ | أليسون باروس يونغ

قبل أيّام نعوه بمكبّر الصّوت من المسجد القريب، وحدّدوا موعد دفنه. فور سماعي نعي هذا الرّجل الّذي تجاوز الثّمانين، شعرت بالتزام للمشاركة في تشييعه، فهو بائع الخضار الأوّل الّذي أذكره منذ طفولتي في مركز القرية... عندما أراه يحدث لي أمران! أوّلًا تملأ أنفي روائح الفاكهة، خصوصًا الشّمّام والموز النّاضج، تلك الرّائحة الّتي تلاشت وما عدنا نشمّها، إمّا لأنّهم ينضجون الثّمار كيماويًّا، وإمّا لأنّ حاسّة الشّمّ عندنا تراجعت مع مرور الزّمن! والأمر الثّاني أذكره وهو يقول بعد عاصفة طيّرت كلّ شيء أمامها، وعلى وجهه أمارات ذهول: "النّسوان تبهدلت".

يومها امتلأ الفضاء غبارًا وتطايرت ألواح الزّنك وسُمعت قرقعة أوانٍ أمام البيوت وعلى السّطوح، وشلعت أغصان وهرب الأطفال رعبًا. كنت في دكّانه تلك اللّحظات، وأذكره بعدما هدأت العاصفة يقول لكلّ من مرّ من هناك: " كلّ شيء طار... والنّسوان تبهدلت". كنت طفلًا ولم أفهم لماذا تبهدلت النّسوان دون الرّجال الّذين رأيت كوفيّاتهم تطير عن رؤوسهم! وما لبث أن أوضح "النّسوان تبهدلت... واحدة منهنّ حاولت الإمساك بفستانها لكنّها... تبهدلت". وأكّد: "تبهدلت يعني تبهدلت". فهمت، أنا الطّفل، من دهشته الكبيرة أنّ ما حدث أمر مذهل، فقد اتّسعت حدقتا عينيه، وبدت ملامحه مذهولة وهو يؤكّد أكثر من مرّة؛ "تبهدلت يعني تبهدلت".

وبقيت هذه الكلمات عن العاصفة والنّساء عالقة في ذاكرتي تستيقظ كلّما رأيته أو ذُكِرَ اسمه أمامي.

مضت سنوات وعقود، لكن كلّما رأيته في الطّريق يمشي الهُوَيْنى قبيل الغروب أو في طريقه إلى المسجد، أحيّيه فيردّ التّحيّة بوقار، وفورًا تداهمني رائحة الموز والشّمام وأتذكّر مقولته "النّسوان تبهدلت"!

أقيمت صلاة الجنازة ووقفت مع المصطفّين، وحاولت الخشوع! الله أكبر... الله أكبر... الله أكبر... الله أكبر... حتّى رائحة الموت لم تتغلّب على رائحة الشّمّام والموز. كان الإمام يدعو للميّت بينما مقولة الرّاحل ترنّ في أذني؛ "تبهدلت يعني تبهدلت". دنوت بضع خطوات، وأطللت على جثمانه المسجّى قبل الدّفن بلحظات، وفوجئت بابتسامة على شفتيه، وكأنّما يقول لي: "يا رجل آن الأوان لتنسى تلك الحكاية"! لكنّها عادت لترنّ في أذني؛ "تبهدلت يعني تبهدلت"، فبدا كأنّه كشّر وقال: "أنتم الكتّاب ما في أوسخ منكم"!

استحيت منه، وقلت اللّهمّ اغفر لحيّنا وميّتنا، اللّهمّ لا تحرمنا أجره ولا تفتنّا بعده!" وما لبثت أن أطرقت مخفيًا ابتسامة!

لم يكن مؤبّنون لأبي الجميل، وعندما رفعوا النّعش وتقدّموا باتّجاه الحفرة الجاهزة لابتلاعه، فجأة رحت أؤبّنه بيني وبين نفسي:       

عزيزي أبو الجميل، هل تذكر يوم قلت إنّ النّساء تبهدلن! وأكّدت أنّ إحداهنّ تبهدلت تبهدلت! قل لي بربّك لماذا تبهدلت، وهل يستحقّ الأمر كلّ هذا الذهول الّذي بدا على وجهك يومها؟! الرّياح رفعت فستان إحداهنّ فظهر شنتيانها من تحت الفستان، فما الّذي دهاك حتّى ذهلت كلّ هذا الذهول؟! عزيزي أبو الجميل؛ يومها لم أفهمك، لكن بعد سنين حلّلت وحلّلت الأمر حتّى فهمته. كان شنتيانها في مرحلة جديدة من مراحل تطوّر الشّنتيان، لقد كان في مرحلة ما فوق الرّكبة. أعلم أنّه كان من طلائع الشّناتين الأولى الّتي ترتفع فوق الرّكبة، كان هذا تطوّرًا دراميًّا في حينه، هي مرحلة ما بعد الشّنتيان الأصليّ الّذي كان يصل إلى الكعبين!

عزيزي أبو الجميل، ربّما تكون نسيت تلك الحادثة...

- أنساها! قلت أنساها.. أنتم معشر الكتّاب ما في أوسخ منكم...

- لا... لا أظنّك نسيتها، أعرف أنّه مستحيل أن تنسى، لعلّه من المشاهد النّادرة الجميلة في حياتك المديدة! لا... ولا أعتقد أنّ الفضائيّات، ورغم كثافة ما تعرضه من عري قد أنستك موقعة الشّنتيان القصير، وتلك العاصفة الهوجاء الّتي جعلتك خالدًا بملامحك المذهولة في ذاكرتي!

التعليقات