14/12/2019 - 17:46

عام رائد وحش الجليديّ... السرود بمواجهة الوحشيّة

عام رائد وحش الجليديّ... السرود بمواجهة الوحشيّة

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

إنّ فهمًا للرواية لا بدّ من أن يضع أحماله – بعضها - على كتف التخيّل، باعتباره الأهمّ في بنائها، ولا يكاد ينجو سرد مهما علَت واقعيّته من تلك الكذبة المقنّعة والمُقنعة؛ ولهذا فإنّ وسم عمل بـ "الغرائبيّ" وقراءته من هذا المنظور، يُعَدّ إخلالًا بالقراءة الآخذة بمقوّمات الرواية أيًّا كانت، ما لم تُجنَّس كلّيًّا على أنّها كذلك - أي غرائبيّة بالمطلق - في فراق تامّ مع الواقع المعيش أو التخييليّ لواقع عاشته الشخوص.

 

الضدّ بالضدّ

انطلاقًا من هذا التقديم المقتضَب والشخصيّ كرأي، فلنتّفق على أنّ رواية "عام الجليد" (المتوسّط، 2019) لرائد وحش، تلعب لعبتها في عالم صغير لم يُسمَّ، غير أنّه لا يتمايز عن قرنائه من الأمكنة، والمتتبّع سيتعرّفه بجغرافيّته النفسيّة، بصراعاته غير المركّبة، بقصصه، بشخصيّاته النموذجيّة وغير النموذجيّة، بأحداثه الرئيسيّة المكتملة بذاتها، وأحداثه الّتي تتنامى وتتنافس لتصل القمّة أو القاع، لو عرفنا جهد رائد وحش في مداورة الجحيم والجنّة معًا، وفي إظهار كمّ القبح أو الجشع في السلطات الصغيرة، كما لو أنّ إدانة مضمرة للتابوهات - السلطة بمعناها المطلق ضمنها - تطلّ برأسها مواربة، وهذا يعني لجمًا شكليًّا للكتابة الأوّليّة عن مفاهيم صار التدليل عليها بعُري، ضرب من إعادة المكرّر، لا المهمل والمنسيّ.

لا تسلم كتابة سيريّة أو متتبّعة حيوات الشخصيّات والأحداث، إلّا وترتدّ إلى الصغير الّذي كنّا، أو مجموع الصغار الّذين شكّلوا المشهد آنذاك، وإعادة تركيبه بنسيان مفاصل منه أو بإضافة ما لم يكن، والمحصّلة انتصار للكتابة الفنّيّة

هذه المداورة للثنائيّات إظهار للضدّ بالضدّ: الجمال بالقبح، والسيّئ بالحسن، والحياة بالموت، سواء ذلك الميكانيكيّ والمجازيّ الّذي تتّضح علاماته من خلال أمراض بعض الشخصيّات، أو تهويمات بعضها المقتربة من المرض!

 

عالم صغار/ عالم كبار

أكاد أكون في قراءتي الدارسة، غير القارئ المتذوّق الّذي ذهب إلى توصيف "عام الجليد"، بكونها رواية تأخذ من الصغار مادّتها الخامّ وتتوجّه إليهم؛ فهنا أيضًا مقاربة وجدانيّة أكثر منها نقديّة. أدحض هذه الفكرة، ومن خلال تبيئة الرواية وشروط بنائها؛ إذ لا تسلم كتابة سيريّة أو متتبّعة حيوات الشخصيّات والأحداث، إلّا وترتدّ إلى الصغير الّذي كنّا، أو مجموع الصغار الّذين شكّلوا المشهد آنذاك، وإعادة تركيبه بنسيان مفاصل منه أو بإضافة ما لم يكن، والمحصّلة انتصار للكتابة الفنّيّة على حساب الكتابة التصويريّة التقريريّة.

إذا كان رائد هو نفسه "سبارتكوس" أو "زمهرير"، فكلّهم بطل واحد، لهم المقولة ذاتها، والهواجس ذاتها، في علاقتهم بذواتهم، وعلاقتهم بذوات محيطة، من والس إلى راديو، إلى الجدّ والعمّ، ووكيل المزرعة المهووس بالدمى. إنّه عالم من زاوية طفل مختلف له أسئلته الكثيرة، ليست وجوديّة بقدر ما هي حقيقيّة في انتمائها إلى عالم الطفولة، وما فعله صاحب الرواية هو إلباس تلك الأسئلة معنًى وجوديًّا من مفهوم الكبار، لكن بلغة الصغار الّذين شكّلوا وعيه الجديد وهو يقرؤهم قراءة جديدة، شبه محايدة.

لعلّي سأُوفَّق في ما لو قلت إنّ السرود جاءت من عالم الطفل إلى عالم الكبير، ومن عالم الكبير إلى عالم الطفل، في علاقة جدّ حسّاسة وملتبسة وتبادليّة، ويمكن القول إنّ الراوي/ السارد/ المؤلّف/ الطفل، جميعهم تواطؤوا ليخلقوا ذلك الالتباس الّذي تشاكل مع الغرائبيّة، في حين لم تكن غرائبيّة، إنّما عالم فيه الأصحّاء، والمرضى الّذين لهم عقدهم وتهويماتهم الآخذة شكل الأسئلة القلقة أو الفلسفة أو تفسير القبح بمواجهة الجماليّ.

السرود جاءت من عالم الطفل إلى عالم الكبير، ومن عالم الكبير إلى عالم الطفل، في علاقة جدّ حسّاسة وملتبسة وتبادليّة، ويمكن القول إنّ الراوي/ السارد/ المؤلّف/ الطفل، جميعهم تواطؤوا ليخلقوا ذلك الالتباس الّذي تشاكل مع الغرائبيّة، في حين لم تكن غرائبيّة

إنّ تحميل اللغة وفق سويّات أبطالها، وضياع المسافة الفاصلة بين سبارتكوس الطفل وسبارتكوس الناضج/ المعيل، أَدخل الحوارات في مواضع عدّة في شرك التنظير، رغم ما يشيعه الموضوع من تمهيد لإعطاء جرعة زائدة للقبول، بلغة احترافيّة تفوق الأسئلة وتتفوّق على الطفل.

وقد يتغاضى القارئ عن الثغرة هذه، رادًّا الأمر بكلّيّته إلى كثافة الرواية الّتي ارتأت الاقتصاد في المساحة، بدلًا من احتلال مساحات شاسعة من الورق، كانت ستجعل الحركة حرّة، لكنّها في الوقت ذاته فضفاضة!

 

مركزيّة "عام الجليد"

لا يفترق الشكل والمحتوى، والمتن والهامش، وتفاصيل الشخصيّات الصغيرة وقضاياها، وهلوساتها وصحواتها، وسطحها وعمقها، وتكاد المقاربة الوجدانيّة لهذا العمل تكون المخرج إلى دخول أسلس وأعمق لمتابعة تحوّلات الرواية وشخوصها الرئيسيّين والثانويّين، ومعرفة مصائرهم الفجائعيّة. أمّا الاشتغال على رسم الشخصيّة مقنّنةً بالضروريّ، فكثَّفَ الرواية ضمن مساحة ضيّقة، جعل الضربات موحية ولمّاحة أكثر منها تفصيليّة، بأقلّ قدر من الفضفضة، لكن أيضًا في غياب ذلك التبرير الصحّيّ لارتفاع منسوب الخطاب، ذلك الخطاب الّذي يبدو عاليًا على بيئة السرد في "عام الجليد"، أو متعاليًا على شخصيّاته وأحداثه؛ أي أنّ ما هو غير مستحبّ في عمليّة تُنبّه الشخصيّة الطفلة لحالها، وبالتالي الدخول في منطقة حذرة تفوق وعيها في المكثّف الّذي رأيناه، هو جائز في التفلّت من الاقتصاد اللغويّ والحدثيّ والشخصيّاتيّ في ما لو ذهب التوسّع أفقيًّا، في خلاف مع العموديّ الّذي نجده ديدن الشغل في "عام الجليد".

تُقسَم الرواية إلى "بول الشيطان، تنويمة للأب الصغير، في بلاد العجائب، الاستحضار الصيفيّ، سبارتكوس اللاجئين"، عناوين لافتة، تتفارق عن تسمية أبواب؛ فالجدران الفاصلة معدومة أو شبه معدومة، الموضوع الرئيسيّ تتناسل عنه الثانويّات، الشخصيّات تتنامى، كلّ هذا في وحدة دلاليّة أو وحدات دلاليّة تلتقي في نقطة مركزيّة، في غاية المركزيّة.

إذا كان المتخيّل يحضر، فهو يحضر كاستعادة لا من عدم، بل بالعلاقة بعالم كان وما زال مستمرًّا، والراوي الّذي هو شاعر هو راءٍ ومستمع وشخصيّة فاعلة في النصّ وخارجه، ومَنْ يتعرّف الراوي شخصيًّا فسيعرف فيه "الحكّاء" الّذي ينتقي حكايته بأناقة

"عام الجليد" رواية تخصّ أشخاصها، كُتبت من أجلهم؛ وعلى ذاك فإنّ الخلطة (الكوكتيل) أو الرواية "مكبّ الكتابة" غير موجود في طرح رائد لمشروعه؛ فالحكاية تبدأ، تتصاعد، لتنتهي في مناخ تشويقيّ حواريّ، لم يقلّل من وهجه ذلك التحميل المعرفيّ للأبطال ولغتهم.

 

الشاعر/ الراوي

يتخلّص صاحب الرواية في "عام الجليد" من النظرة النمطيّة إلى الشاعر الراوي، يرسم مكانه وناسه في حيّز الحدث وليس دائمًا باللغة، وإذا كان المتخيّل يحضر، فهو يحضر كاستعادة لا من عدم، بل بالعلاقة بعالم كان وما زال مستمرًّا، والراوي الّذي هو شاعر هو راءٍ ومستمع وشخصيّة فاعلة في النصّ وخارجه، ومَنْ يتعرّف الراوي شخصيًّا فسيعرف فيه "الحكّاء" الّذي ينتقي حكايته بأناقة، ويخرجها من وصفها حكايةً بحتةً إلى أهمّيّتها في حياة السرد.

رائد وحش في "عام الجليد"، يأخذ لسان الكبار وحالهم ليتحدّث عن الصغار، ويأخذ لسان الصغار وحالهم ليتحدّث عن الكبار.

 

 

محمّد المطرود

 

شاعر وناقد من سوريا، يكتب في الصحافة الثقافيّة العربيّة، له خمسة كتب مطبوعة آخرها "اسمه أحمد وظّله النار". تخرّج في كلّيّة التربية، نظّم وشارك في العديد من المهرجانات الشعريّة وأسّس منتدى "حالة" الإبداعيّ. مقيم في ألمانيا بعد أن تحصّل منحة أدبيّة من مؤسّسة Heinrich boll

 

 

التعليقات