21/07/2021 - 18:42

إذن... لأقرأ شعرًا لفلسطين وأرفع العَلَم!

إذن... لأقرأ شعرًا لفلسطين وأرفع العَلَم!

من اليمين: عمر رودريجيس، أحمد محسن، ألدانا جوميس

 

كانت الجمعة الأخيرة من شهر حزيران (يونيو) الماضي موعد أمسية شعريّة موسيقيّة، بصحبة عازف الجيتار والموسيقيّ الكولومبيّ عمر رودريجيس، والمغنّية والعازفة الأرجنتينيّة ألدانا جوميس، في مدينة كارتاخينا. عرضت عليّ صديقة كولومبيّة إقامة الأمسية في مقهًى داخل «فندق سيلينا»، وهو أحد أشهر الفنادق الشبابيّة في جميع مدن كولومبيا وأمريكا الجنوبيّة في السنوات الأخيرة.

بعد أن أعلنّا المكان والموعد، أرسل إليّ صديق أيرلنديّ يعلم موقفي من القضيّة الفلسطينيّة خبرًا عن صاحبَي مشروع فنادق «سيلينا»؛ شابّان إسرائيليّان كانا يعيشان في بَنَما منذ عام 2007، يعملان في مجال العقارات، ثمّ بدآ عام 2014 في مشروع سلسلة فنادق تستهدف الشباب المسافرين، لكنّها تكون على مستوًى عالٍ من الخدمات المقدّمة في الوقت ذاته، وبالفعل خلال سنوات قليلة أصبح لهما أكثر من 200 فرع في نحو 20 دولة.

 

 

لم أكن أعلم أيّ شيء من ذلك، حتّى أرسل إليّ صديقي تلك المقالة، الّتي دخلت منها على حسابيهما على إنستجرام، وكانت القاصمة: لهما فرعان في إسرائيل! بلغ بي الغضب كلّ مبلغ، وظللت ليلتي كلّها مهمومًا، أفكّر في إلغاء الأمسية، أو في الوصول إلى المكان، ثمّ إخبار الحضور بموقفي، ومن ثَمّ الانتقال إلى مكان آخر. لكنّني فكّرت في مرافقيّ الموسيقيّ والمغنّية، فكتبت إليهما، وشرحت موقفي، وأخبرتهما بأنّني لن أقدر على ذلك. في البداية أعلن عمر دعمه وتفهّمه، وأخبرني بأنّنا يمكننا صباح اليوم التالي أن نعلن تغيير المكان. لكن الحوار مع ألدانا كان هو الصراع الحقيقيّ والأشدّ وطأة في الأمر كلّه. كتبت لي ألدانا تسألني ماذا حدث، فسألتها إن كانت تعرف شيئًا عن فلسطين. اعتذرت عن عدم معرفتها، وطلبت منّي أن أحكي لها.

 

في مثل هذه المواقف، أقرّر تبسيط الحكاية لأبسط صورة ممكنة، والحديث عمّا قبل وما بعد 1948، والانتقال إلى الحاضر وجرائم الاحتلال المستمرّة منذ أكثر من 73 عامًا. عبّرت ألدانا عن حزنها لذلك، فأرسلت إليها نصًّا لإدواردو جاليانو من كتابه «أبناء الأيّام»:

"14 أيّار/ مايو

دَيْنُ الآخر

في هذا اليوم من عام 1948، وُلِدت دولة إسرائيل.

بعد أيّام قليلة من ذلك، طُرِد أكثر من ثمانمئة ألف فلسطينيّ، ودُمِّر أكثر من خمسمئة قرية.

هذه القرى، حيث كانت تنمو أشجار الزيتون والتين واللوز، وغيرها من الأشجار المثمرة، تقبع مدفونة تحت الطرق السريعة، والمراكز التجاريّة، وحدائق الملاهي. إنّها موتى بلا أسماء؛ فلجنة الأسماء لدى السلطة الجديدة أعادت تعميد الخريطة.

لم يبق إلّا قليل من فلسطين، ومن أجل التهام الخريطة المتمادي؛ تُسْتَحْضَر صكوك ملكيّة، ممنوحة من التوراة بسخاء، وتُبَرَّر بمعاناة الشعب اليهوديّ طوال ألفي عام من الملاحقة.

ملاحقة اليهود كانت، على الدوام، عادةً أوروبّيّة، ولكن الفلسطينيّين هم مَنْ يدفعون ديون الآخرين"[1].

أخبرتني ألدانا أنّها تعشق إدواردو جاليانو، وقد قصدت اختيار جاليانو بعينه لمعرفتي بقيمته عند قرّاء أمريكا الجنوبيّة، ولكونه كذلك أحد كبار الكتّاب المدافعين عن تاريخ الشعوب الأصليّة في أمريكا الجنوبيّة، ولا سيّما في كتابه «الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينيّة». أخبرتني ألدانا بعدها بأنّ هذا هو تاريخ هذه الإنسانيّة، وأنّ طريقنا للمقاومة يكمن في إيجاد أشكال جديدة للعيش والتواصل فيما بيننا. بعد تلك التهيئة بتوضيح السياق أخبرت ألدانا بالأمر، أنّ «سيلينا» ملك لرجلَي أعمال إسرائيليّين، فسبّت، ثمّ أخبرتني بأنّنا لا يمكن أن نحكم عليهما لكونهما إسرائيليّين، وإنّما علينا إيضاح وجهة نظرنا، وإلّا فسنستمرّ في نفس الدائرة، نتحارب على الأرض، وعلى أن يكون الحقّ معنا، ونستمرّ متحاربين.

آنذاك، ولألمي بتحويل كلّ نقاش واضح إلى خطوط عائمة، قرّرت أن أضرب مثالًا يقرّب معاناة أهلي إليها وهي بعيدة، ولا تعرف شيئًا عمّا يحدث. أخبرتها ماذا لو خطفتُ ابنها ذا الأعوام الأربعة - الّذي أعرفه وألاعبه كلّما التقينا - وأخفيته؛ فسمّتني هي قاتلًا. هل سيكون فعلُها ذلك إطلاقًا لحُكم عليّ؟ لم تردّ سؤالي، وأخبرتني بأنّها لا تريد الغناء. أخبرتني بعدها بأنّني أردت بضربي للمثال ألّا تشارك معنا. وفي النهاية تردّدت وأعلنت غضبها. وبعد ساعة، أخبرتني بأنّها راجعت موقفها، وأنّها لم تكن تعلم أنّ أهلي يعيشون هناك. كان هذا غرضي من المثال؛ أن يحسّ مَنْ لا يعرف شيئًا عمّا يعانيه أهلنا بأنّ هذا الألم ألم شخصيّ، أن تحسّ الأمّ بألم الأمّ، والابن بألم الابن. أن يدرك الناس جميعًا أنّ قضيّة كلّ فلسطينيّ هي قضيّة الإنسانيّة جمعاء. كما قال شاعر تشيلي الكبير راؤول زوريتا، في حوار له ترجمتُ بعضه: "إنّ مقتل إنسان واحد يلغي التاريخ بأكمله. ضحيّة واحدة تجعل منّا جميعًا ناجين".

 

ملصق الإعلان عن الحدث

 

ظللت طول ليلتي أستمع إلى قصائد فؤاد حدّاد وأغنيات سيّد مكّاوي عن فلسطين، لتصادف الأمسية مع أيّام انغماسي في شعر حدّاد. واستيقظت في اليوم التالي، وبدأت أتواصل مع صديقتي الكولومبيّة أوديت جِدّي الفلسطينيّة الأصل، مؤسِّسة «معهد الثقافة العربيّة» في كولومبيا، وقد تعاونت معها كثيرًا خلال العام السابق في تدريس اللغة والثقافة العربيّة، وهي أكثر ناشطة كولومبيّة أعرفها حراكًا لنصرة القضيّة الفلسطينيّة، داخل كولومبيا وفي دول أمريكا الجنوبيّة كلّها. بعد الحديث معها، ولم تكن تعرف لا عن السلسلة ولا عن أصحابها، أخبرتني بفكرة كنت قد فكّرت فيها، وهي ذهابي وقراءتي قصائد لنصرة القضيّة الفلسطينيّة. وكنت بالفعل منذ فترة بدأت في تجميع النصوص والقصائد الّتي كتبها كتّاب وشعراء من أمريكا الجنوبيّة عن القضيّة الفلسطينيّة، فكّرت حينذاك في أن أذهب مرتديًا قميصًا، كنت طلبت من صديقة لي – وللأقدار، هي الصديقة نفسها الّتي نسّقت تنظيم الأمسية في ذلك المكان، دون أن تعرف شيئًا عن أصحابه – عليه عبارة «قاومي فلسطين»، بالإسبانيّة «Resiste Palestina»، ويدمى لونُه الأحمر، وكنت قد تجوّلت في شوارع كارتاخينا بهذا القميص، وسمعت الناس يهتفون من نوافذ سيّاراتهم بالعبارة «Resiste Palestina».

جهّزت قصائدي وقصائد مَنْ سأقرؤهم من شعراء كولومبيا وأمريكا الجنوبيّة؛ فأنا لا أحبّ الانفراد بمنصّة الشعر وحدي، وارتديت قميصي الأحمر الجديد، وقرّرت أن أجعل قميص فلسطين إلى جواري طول الأمسية، إلى أن أقرّر الحديث عن فلسطين والاحتلال الإسرائيليّ وجرائم هذا الاحتلال، وفي تلك الفقرة خلعت قميصي وارتديت قميص فلسطين، وقرأت قصيدة لي كتبتها أواخر العام الماضي عن المنفيّين، تحدّثتُ آنذاك عن المنفى، ورمزيّته، عن ملايين اللّاجئين والمنفيّين الفلسطينيّين، وعن كلّ منفيّ وحقّه في العودة، وشرحت أنّني كتبت القصيدة، ابتداءً؛ لظرف شخصيّ مررت به أثناء شهور إقامتي بمدينة بوجوتا، في بيت شاعر كولومبيّ عانى طول حياته المنفى داخل بلده لهويّته الجنسيّة، وأنشأ دار نشر أسماها «منشورات المنفى»، وكان يؤجّر غرفًا في بيت بمركز العاصمة الكولومبيّة، وعشت أنا في إحدى هذه الغرف، الّتي كان يسمّيها «إقامة المنفى». لم أكن أعرف بمصيري الّذي سيجعلني أحد أولئك المنفيّين في ما بعد وأنا أكتب تلك القصيدة:

المنفيّونَ من البيت، من كلّ البيوت، من العائلة، من كلّ العائلات، من الوطنِ الّذي ليس سوى واحدٍ والبقيّةُ منفًى شاسع. المنفيّونَ لـ «العمل في الخارج»، دون أن يعلموا ثمن أن يكونوا أجانب إلى الأبد. المطرودونَ من بيت طفولتهم، لا يبقونَ أبدًا في أيّ بيت. المنفيّونَ في السجون، في أقبية محطّات المترو، المنفيّونَ من رحلات أصدقائهم، وحفلات زفاف حبيباتهم، الّذين يعبرون حدود البلاد المحرّمة والحبّ الممنوع، وحدود ما يعرفونه عن أنفسهم. المنفيّون في سنوات التيه الأربعين الّتي لا تنتهي أبدًا.

الّذين يولدون، ويَحْيَونَ من جديدٍ في المنفى

هم الموتى المنفيّون.

يشي بهم صوتُهم،

وشَعْرُ رأسِهم،

وعَرَجُهُم،
وحبّهم
الخطيئةُ الأولى للمنفيّين.

 

 

ثمّ أتبعتها قصيدة لشاعر إكوادوريّ عنوانها «ذهبتُ باسمِكِ في الأرض»، كتبها هو عن الإكوادور، لكنّني قرأتها عن فلسطين الّتي ذهبتُ باسمِها في الأرض، وعن مصر الّتي لم تُرِدْ أن تغادرني وأنا أبتعد عنها. يقول في بعض أبياتها:

لا يعلم أحدٌ أين بلدي، يبحثون عنه

في حزنٍ من قِصَرِ النظر: لا يمكن أن يكون

بهذا الصغَرِ، وتكون فجيعته بهذا الكِبَر

وزلزاله بهذه الضخامة، وتعذيبه العسكريّ هكذا...

ولا أنا أعلم، أنا الّذي أحبّه رغم أنف قضاة بلادي.

ثمّ حين يقول:

إِنْ لم يبقَ لَكَ من الأرض لتحبّه

سوى الطبيعة، إِنْ لم يَعُدْ لَكَ سوى

سيف نورها القاطع. لكن ليس هذا هو الأمر.

يحدث أنّني لستُ فخورًا بضيعتي، ولا بنهرها

الوحيد الّذي لا يزال نفسه وإن تحمّمتُ فيه مئة مرّة

ولا بالطائرة الورقيّة الّتي تثير التراب في السوق[2].


أنهيت الندوة، وتحدّثت في نهايتها عن موقفي من المكان، وخرجت راضيًا بما فعلت، وإن كانت نفسي وأنا أفكّر وحدي، قبل مشورة الأصدقاء، تميل إلى المقاطعة، لكنّني فكّرت في أن لا أحد ممّن يعملون في المكان، أو يتردّدون عليه، يعرف شيئًا عن ملّاكه، ثمّ فكّرت في ملّاكه إن وصل إليهم ذلك الفيديو، فليهنؤوا بمكانهم الّذي نُصِرَ فيه صاحب الحقّ، وقيل للغاشم ابن الحرام إنّه غاشم وابن حرام في أرضه.

.........

[1] أبناء الأيّام، إدواردو جاليانو، ترجمة صالح علماني، دار دال للنشر، الطبعة الأولى 2013

[2] الترجمة العربيّة للأبيات لكاتب المقالة.

 

 


أحمد محسن

 

 

 

شاعر ومترجم مصريّ مقيم في كولومبيا.

 

 

 

 

التعليقات