05/09/2021 - 12:06

فرنسيس بونج... تجربة العيش كلّها تحدث في الجسد

فرنسيس بونج... تجربة العيش كلّها تحدث في الجسد

فرنسيس بونج (1899-1988)

 

يُعَدّ فرنسيس بونج (1899-1988) أحد أهمّ شعراء فرنسا في القرن العشرين، وقد اكتسب لقب «poète des objets» (شاعر المادّة أو شاعر الأشياء)، بعد إصداره ديوانه الأهمّ «La parti pris des choses» (الانحياز إلى الأشياء) عام 1942. كلّ قصيدة في هذا الديوان تقريبًا تدور حول وصف شيء محدّد: راديو، حقيبة، شمعة. أو تدور حول وصف كائن: فراشة، حمام، ضفدع... إلخ؛ فهو مسحور بالأجسام، سواء جمادًا كانت أو طبيعة، مندهش بتفاصيلها، ومأخوذ بحضورها، وما ينتجه من معانٍ مباشرة وخفيّة. بالنسبة إليه مهما بدت الأشياء بسيطة فهي تحمل معنًى قيّمًا في ذاتها؛ إذ يقول: "إنّ التفاصيل النوعيّة لكلّ شيء أو مادّة، هي مثل صفات بطل في رواية". وهو يحاول دائمًا في وصفه الاقتراب قدر الإمكان من الواقع، دون أن يستثني الإغراءات الأدبيّة المفاجِئة، خلال عمليّة الكتابة: "أحاول أن أكون أكثر أصالة، أن أكون صادقًا مع شعوري، أن أكون حقيقيًّا في الكتابة: أقدّم بالضبط ما أفكّر فيه في الحصان، الصندوق، الخبز. هذا ما كنت أفكّر فيه دائمًا، يتعلّق الأمر بعدم التهاون مع ذلك، لكن من الصعب جدًّا أن تكون نقيًّا تمامًا؛ لأنّك تقع على اكتشافات لصياغات أدبيّة أو فنّيّة جميلة جدًّا، وهي أجمل من شعورك! لذا؛ عليك ألّا تكتفي وتتوقّف عند هذا الحدّ. إذا لم يكن الأمر جيّدًا، يجب عليك ألّا تقبل به حتّى لو بدا قريبًا من نفسك. من الصعب جدًّا أن تكون صادقًا، هذا يعني أن تكتب انطباعات مستهلكة، أو تعبيرات غير شعريّة، قد تبدو طفوليّة أو سطحيّة".

وقد أشاد سارتر وبريتون بكتابه، وقال ألبرت كامو عنه: "جعلني الكتاب، ولأوّل مرّة، أشعر بأنّ الشيء الجامد هو مصدر لا يُضاهى للانفعال والحساسيّة والذكاء". ولم ينخرط بونج في السرياليّة الّتي كان لها حضور أدبيّ كبير في تلك الفترة، بل كان قريبًا من أعلامها دون أن ينتمي إليهم، وقد وصفه أحد أهمّ المختصّين بشعره الشاعر جان ماري كليز Jean Marie Cleize بأنّه ظلّ "سرياليًّا عن بُعْد".

كتب بونج نصًّا بعنوان «إلى المادّة الحالمة»، وقد كان جزءًا من عمل فنّيّ (آرت بوك)، بالمشاركة مع فنّان تشكيليّ. وشراكة كهذه مع فنّان تشكيليّ أمر غير مستبعد بالنسبة إلى شاعر يعبّر عن هوسه بالمادّة؛ حضورها، صفاتها، وكلّ ما قد تثيره من مشاعر وأفكار ورؤًى؛ فمُجْمَل تجربته الأدبيّة - بلا شكّ - مصدر ثريّ بالنسبة إلى التشكيليّين والعاملين في الفنّ البصريّ؛ لبنائه علاقة موحية وخلّاقة بالموادّ المحيطة، ولتمعّنه العميق في صفاتها وتفاصيلها، وقدرته على وصفها بلغة تشريحيّة، ومن خلال توظيفاتها الفنّيّة المتعدّدة.

ينتمي بونج إلى عالم الشاعر اللاتينيّ القديم لكريتيوس Lucrèce، الّذي عاش في القرن الأوّل قبل الميلاد، وهو صاحب القصيدة المطوّلة «في طبيعة الأشياء»، الّتي عبّر فيها عن هوسه بطبيعة المادّة وخصائصها، مستوحيًا أفكاره من الفيلسوف اليونانيّ أبيقور صاحب الفلسفة الطبيعيّة. ومثلما دمج الشاعر اليونانيّ لكريتيوس المعرفة الأبيقوريّة الفلسفيّة الجافّة بالرؤية الشعريّة، فإنّ بونج دمج الرؤية الفلسفيّة بالعبارة الشعريّة ذات اللغة الوصفيّة الواقعيّة والاستعارات الدقيقة. أمّا أبيقور فهو مُلْهِم لمفاهيم مادّيّة طغت على الفلسفة والأدب في القرن العشرين، كما لدى ماركس في مادّيّته التاريخيّة، وكما لدى بونج في مشروعه الشعريّ. فمن الجدير بالذكر هنا أنّ ماركس قدّم أطروحته في الدكتوراة عن مفهوم الفلسفة الطبيعيّة لدى هذا الفيلسوف اليونانيّ القديم، وقارنها بمذهب الفيلسوف اليونانيّ دميوقريطوس الّذي صاغ النظريّة الذرّيّة للكون.

بونج بهذا المعنى «شاعر مادّيّ»، يمنح الأشياء حين يصفها هالة جديدة ومزايا محسوسة. نصوصه مغرقة في نثريّتها، ووصفها الحسّيّ، وتفاصيلها المادّيّة؛ لذا، فترجمتها إلى لغة أخرى صعبة، ولا تخلو من المغامرة، فقد تبدو عند ترجمتها نصوصًا جافّة لاستطرادها في سرد نثريّ تفصيليّ. وكان بونج يرفض أن يسمّي نصوصه قصائد، وأن يُدْعى شاعرًا. وقد ظلّ في العشرين سنة الأولى من كتابته للشعر غير معروف، ولم يلتفت إليه أحد، حتّى أنّه قال: "لعشرين سنة كاملة، كنت أكتب في صحراء"، ثمّ اعتُرِفَ به لاحقًا. وما يميّز بونج ويجعله شاعرًا فريدًا أنّه يخرج عن أحد التقاليد المؤسّسة لهويّة الشعر، وهو بُعْدُه الروحيّ! فما يهمّ بونج هو البُعْد الجسديّ للإنسان لا بُعْدُه الروحيّ. يقول بهذا الشأن: "العلاقة بالعالم هي قبل كلّ شيء مادّيّة"، ثمّ يضيف: "تجربة العيش كلّها تحدث في الجسد".

 

متعة الأبواب

Les plaisirs de la porte

الملوك لا يلمسون الأبواب

إنّهم لا يعرفون هذه السعادة: أن تدفع أمامك لوحًا أليفًا برفق أو بخشونة، ثمّ أن تلتفت نحوه لإعادته إلى مكانه.

وأن تحيط بابًا بذراعيك.

... السعادة بأن تضع يدك على مقبض من البورسلين، هذا الحاجز العالي قبل الولوج إلى الغرفة، وهذا الالتقاء السريع الّذي من خلاله، للحظة، تقف الخطوة، تنفتح العين، ويستقرّ الجسم كلّه في بيت جديد.

بيدٍ لطيفة ما زال يمسك به، قبل أن يدفعه بقوّة فينغلق على نفسه؛ لتضمن ذلك صفقة مُحْكَمَة جيّدة التزييت.

 

 

تتفكّك الأشجار داخل هالة من الضباب

Les arbres se défont à l’intérieur d’une sphère de brouillard

في الضباب الّذي يحيط بالأشجار، تُسْرَق الأوراق منها، فقد أصابها القلق بسبب الأكسدة البطيئة،

وجزعت بسبب ذهاب النَّسْغ لصالح الزهور والفواكه، فحرارة آب الشديدة كانت أقلّ اهتمامًا بها.

في اللحاء، القنوات تزداد اتّساعًا بحيث تؤدّي الرطوبة الّتي تصل حتّى الأرض إلى فقدان الاهتمام بالأجزاء الحيّة من الجذع.

فتتناثر الزهور، وتسقط الثمار، في سنّ مبكّرة،

حيث تَهاوي صفاتها الحيّة وأجسامها أصبح تمرينًا مألوفًا للأشجار.

 

 

المحار

L’Huître

المحار بحجم حصاةٍ متوسّطة، يبدو أكثر صلابةً، وأقلّ تجانسًا في اللون، وبلونٍ أبيضَ لامع. هو عالمٌ مغلقٌ بعناد. ورغم ذلك، يمكن فتحه: عليك أن تمسكه بقطعة قماش، وأن تستخدم سكّينًا كاسرًا وغير حادّ، وأن تحاول ذلك مرّات عدّة. الأصابع الفضوليّة قد تُقْطَع، وقد تتكسّر أظافرها: إنّه عمل فظّ. الضربات الّتي نسدّدها له تطبع غلافه بدوائرَ بيضاء، كأنّها نوعٌ من الهالات.

نجد في الداخل عالمًا كاملًا، نشربه ونأكله: تحت قبّةٍ زرقاء، بالمعنى الدقيق للكلمة، داخل الصدفة. تتدلّى السماوات فوق السماوات، ولا نجد تحتها غير حوض، وكيسًا أخضر لزجًا، يتدفّق وينحسر في الرائحة وتحت البصر، مرتديًا دانتيل أسودَ على الجوانب. أحيانًا، ونادرًا، يقع لؤلؤٌ حيٌّ في الحلق، ليجد المرء فيه زينته على الفور!

 

 

الحقيبة

La valise

ترافقني حقيبتي إلى جبال فانواز، وقد أصبح معدنها لامعًا وجلدها السميك عَبِقًا. مسكتها براحتَي يديّ، تحسّست ظهرها، وعنقها، ووجهها؛ فهي مثل صندوق يشبه كتابًا مليئًا بكنز من الطيّات البيضاء: ملابسي الفريدة، وقراءاتي المعتادة، وأبسط أدواتي. نعم، هذا الصندوق مثل كتاب، وهو مثل حصانٍ مخلصٍ أكثر من ساقيّ. أربط الحقيبة، أحملها، أضعها على مقعدٍ صغير، أضع سرجًا ولجامًا، ولجامًا وحزامًا، أو أربطها في غرفة الفندق الّذي يُضْرَب به المثل.

نعم، فبالنسبة إلى مسافرٍ حديث، حقيبته بقايا حصان!

 

 


أنس العيلة

 

 

 

شاعر وكاتب فلسطينيّ مقيم في باريس، أصدر عدّة مجموعات شعريّة تُرجمت إلى الفرنسيّة، آخرها "عناقات متأخّرة". ينشر مقالاته في مجلّات ثقافيّة وأكاديميّة.

 

 

 

التعليقات