18/09/2018 - 14:11

"ما وراء الجبهات" ... طبّ نفسيّ تحت الاحتلال

الدكتورة سماح جابر | Al Jazeera

 

المصدر: ORIENT XXI.

ترجمة: فريق تحرير روزَنَة - فُسْحَة.

 

"ما وراء الجبهات" يوميّات نُشرت في مارس (آذار) الماضي؛ لتكون الكتاب الأوّل للطبيبة النفسيّة والكاتبة الفلسطينيّة سماح جبر. تُحلّل جبر في كتابها هذا، الصدمة Trauma العابرة للأجيال، الّتي وسمت الذاكرة الجمعيّة الفلسطينيّة، ووقفت شاهدًا يمنع سقوط المعاناة في دوّامة الصمت، الّتي قد تستهلك نفَس المقاومة.

صدر الكتاب بالتعاون بين منشورات PMN، وHybrid Pulse، بالتزامن مع إطلاق فيلم ألكسندرا دول Alexandra Dols الوثائقيّ، الّذي حمل نفس الاسم "ما وراء الجبهات". وعلى الرغم من أنّه الكتاب المطبوع الأوّل لسماح جبر، إلّا أنّ مشوار كتابتها قد بدأ منذ نهاية التسعينات، ولا سيّما في الصحف الناطقة بالإنجليزيّة مثل ـThe Washington Report، وMiddle East Affairs، وMiddle East Monitor، وThe New Internationalist، وبعض هذه الكتابات الّتي أُنجزت منذ 2003 حتّى اليوم، جُمع ليشكّل هذا الكتاب.

 

 

يتميّز الكتاب بأسلوب كتابة حيّ، يتفاعل مع الانفجارات الّتي يتحرّك على إيقاعها اليوميّ في فلسطين المحتلّة، ويجمع شهادات أتت على شكل سرديّات حياتيّة يوميّة، ويقدّم تحليلًا لتعقيدات الحياتَيْن الشخصيّة والسياسيّة وتداخلاتهما. إنّه نمط كتابة دقيق، ومنقوش، ومترسّخ القناعات، ومرتبط بالتجربة الميدانيّة، إنّها كتابة طوارئ ضروريّة بين نشاطات جبر الكثيرة؛ كونها طبيبة ومعالجة نفسيّة.

تخرّجت سماح جبر في "جامعة القدس"، وفي جامعتَي "باريس السادسة" و"باريس السابعة"، وفي "المعهد الإسرائيليّ للطبّ النفسيّ التحليليّ"، وتُدير اليوم "وحدة الصحّة العقليّة" في الضفّة الغربيّة المحتلّة، المسؤولة عن خدمات الصحّة العقليّة في المنطقة، وتدرّس عددًا من المهنيّين الفلسطينيّين والدوليّين، وتقدّم خدماتها للمساجين والأسرى أيضًا. تقول في هذا الصدد: "لا يوجد سوى 30 طبيبًا ومعالجًا نفسيًّا تقريبًا، في كلّ الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة"، وهو أمر يوضّح بجلاء حجم المهمّة الّتي تقع عليها وعلى زملائها.

 

ما يؤثّر في السلامة العقليّة

في الوقت الّذي تُوثَّق فيه بشكل جيّد تبعات الاحتلال الإسرائيليّ: اغتيالات، وتوقيفات، وسجن، وتعذيب، وتدمير للأنفس والممتلكات؛ تبقى نتائج كلّ هذا، على الصحّة البدنيّة والعقليّة والنفسيّة للفلسطينيّين، غير موثّقة بشكل دقيق، ومساحة لا تزال مفتوحة على الاكتشاف.

يخترق كتاب "ما وراء الجبهات"، بالذات، مساحة التدمير الشاسعة وغير المدوّنة هذه، مساحة يعود إليها السكّان، عندما لا يكونون في الخطّ الأوّل للمواجهة والمقاومة الوطنيّة.

يوثّق الكتاب الشَّرَك الدائم الّذي تنصبه استفزازات جيش وحشيّ وابتزازاته، ومستوطنين يصل عنفهم إلى درجات قصوى. تبدأ جبر السرد برواية قصّة راعٍ لا تتجاوز سنّه ثمانية عشر عامًا، كان يرعى غنمه فوق أرضٍ في ملك عائلته، شرق مدينة الخليل، قبل أن تهاجمه مجموعة من المستوطنين بشكل وحشيّ، مُهشّمين رُكبَتَيه بالأحجار، تاركينه على حافّة العذاب، وبعد هذا الاعتداء الصادم، سيصبح الراعي شخصًا آخر، أخرس فاقدًا القدرة على التواصل.

 

 

في الكتاب، نجد قصّة فاطمة أيضًا، الّتي حطّمتها الآلام، وجعلتها في رحلة ممتدّة من طبيب إلى آخر، دون أن تستطيع وضع حدّ للصورة الّتي تلازمها، وتخنقها؛ صورة جمجمة ابنها المفتوحة، الّذي قُتل أمام منزلها. إنّها واحدة من قصص المراهقين الّذين يُوقفون وتُساء معاملتهم، حتّى داخل منازلهم، دون أن يستطيع آباؤهم وأمّهاتهم التدخّل للدفاع عنهم.

بهذه الشهادات؛ تريد سماح جبر كسر حالة الصمت والتجاهل عالميًّا. تقول شارحة: "إنّني أضع كلمات على الجروح". تحارب الكاتبة لتوثيق آثار هذه الوحشيّة وتسجيلها؛ لتوصل صوت هذه التجارب وتُفهِمَها، سواء إلى أولئك الّذين يحاولون غسل أيديهم منها، أو إلى الفلسطينيّين أنفسهم أيضًا؛ كي يستطيعوا ترميم ذواتهم ومواجهة الاحتلال، بدل أن يعيدوا إنتاج التعذيب والإهانة في وجه بعضهم بعضًا؛ بالصمت القاتل للأجساد.

 

على خطى فرانز فانون

لا تستخدم سماح جبر سوى الأدوات الّتي تَعْلمها، تلك الأدوات الّتي خدمت فرانز فانون في زمانه؛ ليحارب الهيمنة الاستعماريّة: موارد الطبّ والعلاج النفسيَّين لخدمة المتضرّرين. أمّا هذه الطبيبة فلا يشكّل الفهم الذاتيّ، وفهم أهداف الخصم "فهمًا بديلًا عن وسائل المواجهة الأخرى، بل لا يعدو أن يكون هذا الفهم؛ محاولة لإيضاح هذه الوسائل فقط"، ولا سيّما تلك الّتي يجب توظيفها من طرف المهنيّين؛ فالعلاج والإصلاح الفرديّ يمرّ عبر الاعتراف بضرورة العدالة لكلّ الشعب الفلسطينيّ. بالنسبة إليها، يجب أن يأخذ العمل العياديّ/ "الإكلينيكيّ"، بمحمل الجدّ، السياق السوسيو -سياسيّ الفلسطينيّ، والصدمات النفسيّة المنتقلة من جيل إلى جيل منذ النكبة: "تحرّر الفلسطينيّين النفسيّ ليس في حاجة إلى طبيب يُعالج أمراضًا أو يصف أدوية؛ لسبب وحيد وبسيط: الفلسطينيّون مستعمَرون لا مرضى!"، تقول مُذكِّرةً ومحمّلةً - في نفس الوقت - المسؤوليّة للقادة الفلسطينيّين الّذين باستسلامهم أسلموا الشعب إلى حالة اكتئاب جماعيّ.

باستماعها لقصص الناس، مع عمل مركّز بشكل خاصّ على النساء، تُكابد سماح جبر لتطوّر أدوات عملها - الطبّ النفسيّ - لتمكّن الناس من وسائل تساعدهم على مواجهة الواقع. وعند جبر لا يمكن فصل مشروع التحرّر الوطنيّ عن الصحّة الجيّدة للشعب الفلسطينيّ، الّذي يواصل مقاومة تختفي وراءها الصدمات بشكل دائم.

أخيرًا، قد تكون الكتابة أيضًا أداة للترميم والتحرّر.

 

 

روزَنَة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من الإنجليزيّة والفرنسيّة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، بإشراف المترجمين، أسامة غاوجي ومعاد بادري.

موادّ روزَنَة لا تعبّر بالضرورة عن مبادئ وتوجّهات فُسْحَة، الّتي ترصدها وتنقلها للوقوف على كيفيّة حضور الثقافة الفلسطينيّة وتناولها عالميًّا. 

* الصور والفيديوهات الواردة في هذه المقالة من اختيارات هيئة التحرير، لا المصدر الأصل.

 

 

التعليقات