25/08/2021 - 13:52

كيف عبّر الفلسطينيّون عن نكبتهم بالفنّ؟

كيف عبّر الفلسطينيّون عن نكبتهم بالفنّ؟

ماهر ناجي، جني الزيتون الفلسطينيّ | متحف فلسطين، الولايات المتّحدة

 

المصدر: medium.com

ترجمة: خالد السيّد - فُسْحَة.

 

شهد العقد الماضي تغييرات مهولة على مدى انتشار تاريخ الفنّ الفلسطينيّ؛ ليس لأنّ الفنون الفلسطينيّة متدنّية المستوى، بل على العكس تمامًا، قدّم الفلسطينيّون فنًّا بهيًّا طوال القرون القليلة المنصرمة. ولكن لم تُتَح فرصة وصول هذه الأعمال الفنّيّة إلى العالم إلّا حديثًا. عام 2009 تحديدًا، نُشِرَت - ولأوّل مرّة - نسخة إنجليزيّة لدراسة الفنّان التشكيليّ والمؤرّخ الفلسطينيّ كمال بُلّاطة (1942-2019)، الصادرة بعنوان «الفنّ الفلسطينيّ: من الـ 1850 حتّى الوقت الحاضر». وُلِدَ بُلّاطة في القدس، لكنّه أمضى معظم حياته في المنفى؛ عاش في بيروت وإيطاليا والمغرب والولايات المتّحدة وفرنسا؛ إذ مُنِعَ مثله مثل كثيرين من أبناء جيله وشعبه، من العودة إلى مدينته ومنزله. وفي آخر مقابلة أجراها قبيل وفاته قال: "طوال مسيرتي مع الرسم، كان النور عاملًا مركزيًّا، ربّما هو نور القدس الّذي كنت أبحث عن استعادته طوال الوقت".

 

 

يجمع الكتاب مؤلّفات الفنّان السابقة عن الفنّ الفلسطينيّ، نُشِرَ معظمها بالعربيّة، وهو يستعرض أكثر المناقشات اكتمالًا وشمولًا حول تاريخ الفلسطينيّ، المتاحة بالإنجليزيّة على الأقلّ؛ ولذا فهو يستحقّ أن يلقى رواجًا على أوسع نطاق. وسأعطي في هذه المقالة لمحة عن أعمال بُلّاطَة، تبرز أهمّيّته الملحّة.

تنقسم هذه التحفة الفنّيّة أربعة أجزاء أضيفت إليها مقدّمة موجزة، ولكن محفّزة، كتبها الناقد الفنّيّ والمنظّر الفذّ جون بيرغر، تكملها رسومات مؤرّقة لنجل بيرغر، إيف بيرغر، لفلسطينيّين محتجزين خلف أسلاك شائكة.

يُعَدّ الكتاب تتويجًا لثلاثة عقود من عمل بُلّاطة الميدانيّ، وأبحاثه، وامتهانه فنّ الرسم؛ ولهذا، فإنّه يجتذب الفنّان كما الباحث إلى ما يطرحه. ويبدأ، كما يجب على أيّ مجهود تأريخيّ للفنّ الفلسطينيّ أن يفعل، بـ "الكارثة الوطنيّة (النكبة) الّتي أدّت إلى اقتلاع الشعب الفلسطينيّ وتهجيره" (صفحة 27)، ونهب كنوز فلسطين الفنّيّة الّتي سبقت قيام دولة إسرائيل.

 

غلاف كتاب «الفنّ الفلسطينيّ: من الـ1850 حتّى الوقت الحاضر»

 

وبدل أن يخوض في كتابه من خلال تسلسل زمنيّ تصاعديّ منذ هذه النقطة التاريخيّة، يأخذنا بُلّاطَة إلى رحلة في التاريخ. في الفصل الأوّل «من الرسم الدينيّ حتّى العلمانيّ»، يناقش بُلّاطَة ولادة فنّ المراسم (فنّ الأستوديو) وتطوّره في فلسطين، مع التركيز بشكل خاصّ على القدس العثمانيّة. وفي إحدى المفاجآت غير المتوقّعة للكتاب، يناقش بُلّاطَة دور الأيقنة (علم رسم الأيقونات) الروسيّة والبيزنطيّة في "إنارة مشوار تقليد الرسم المحلّيّ" في الكنائس الأرثوذكسيّة العربيّة، ومن ثَمّ تأثيره في الفنّ العلمانيّ أيضًا (صفحة 32).

وبعد التأريخ الّذي يقدّمه بُلّاطَة عن منشأ الرسم العلمانيّ من رحم الرسم الدينيّ، يأتي الفصل الثاني «ذاكرة المقاومة» المكوّن من أربعة أجزاء؛ ليتناول حقبة ما بعد النكبة عام 1948. تزامنت تلك الفترة الّتي تجسّد فيها أشدّ أشكال معاناة الشعب الفلسطينيّ، مع ظهور التجريد في الفنّ الفلسطينيّ. مستندًا إلى أعمال المنظّر في ما بعد الاستعماريّة هومي بهابها، يتتبّع بُلّاطَة بأدقّ تفصيل، الجوانب المتعدّدة الّتي تربط ظهور التجريد في الجماليّات الفلسطينيّة؛ بما يصفه بابا بتحدّيات "تجميع الماضي غير المتذكّر؛ لإضفاء معنًى لصدمة الحاضر" (صفحة 123).

 

منى حاطوم، «نقطة ساخنة» | ويكيبيديا

 

يبدأ الفصل الثالث «فنّ من الغيتو»، كما هو متوقّع، مع حرب الأيّام الستّة عام 1967 (النكسة)، ولكن كما هي الحال مع أقسام الكتاب الأخرى الّتي تبدأ بحرب، وتفتح آفاقًا جماليّة جديدة، يستكشف بُلّاطَة داخل حدود أحياء الفقر الفلسطينيّة الّتي أنتجتها النكسة، أشكالًا من الفنّ لم يعِ العالم وجودها قطّ.

في هذه المرحلة من الكتاب، وبشكل ملحوظ، تظهر النساء ليكملن قصّة بُلّاطَة. وفي مراجعة مسيرة زولا السعدي (1905-1988)، مرورًا بصوفي حلبي (1906-1998) وجوليانا سيرافيم (مواليد عام 1934)، ووصولًا إلى منى حاطوم (مواليد عام 1952)، وجد بُلّاطَة أنّ "الفنّانات العربيّات كان لهنّ دور مركزيّ في تشكيل تاريخ الفنّ العربيّ المعاصر" (صفحة 181). وفي هذا السياق، يلفت المؤلّف إلى أنّ الاعتراف والاحتفاء بالفنّانات العربيّات في العالم العربيّ، غالبًا ما تجاوز التقدير الّذي حصلت عليه نظيراتهنّ الغربيّات.

يكسر الفصل الرابع «استحضار المكان» نمط استهلال السرد بالحديث عن الحرب؛ ليبدأ بطفولة المؤلّف، مستعرضًا على وجه التحديد ذكرياته عن القدس قبل الاحتلال الإسرائيليّ. ومن ثَمَّ يسرد بُلّاطَة «الرحلة البدويّة» الّتي خاضها (صفحة 311) قبل أن يحدّد مكانه داخل فنّ هامشيّ. وباتّساق مع الفصول الثلاثة السابقة، تستدخل صفحات الفصل الرابعة، وبكثافة أكبر، السيرة الذاتيّة فاتحةً للحديث عن مقتطفات أدبيّة (درويش، أبولينير، كامو)، والنظريّة الأدبيّة (دولوز وغوتاري)، والفنّ (ماتيس، كلي)، والتصوّف في الإسلام والمسيحيّة (الجُنَيد، والقدّيس يوحنّا الدمشقيّ). وفي خطوة شيّقة، يتوقّف بُلّاطَة عن الحديث بصفته مراقبًا خارجيًّا كما كان يفعل طوال حديثه عن تاريخ الفنّ الفلسطينيّ، مستعينًا بذلك بروائع أعماله الاستثنائيّة، كرسوم توضيحيّة للمواضيع الّتي يتناولها الفصل الرابع.

 

غلاف كتاب «تأمّلات حول المنفى» لإدوارد سعيد

 

في ختام حكايته عن الفنّ الفلسطينيّ في العصر الحديث، الّتي أدمج فيها قصّة حياته، يستدعي بُلّاطَة كتاب «تأمّلات حول المنفى» لإدوارد سعيد (نُشِرَ لأوّل مرّة عام 1984)؛ لتأكيد الرؤية المزدوجة الّتي تعكس الحداثة الفلسطينيّة؛ إذ كتب سعيد أنّه في حين أنّ "معظم الناس يدركون بالأساس ثقافة واحدة، وبيئة واحدة، وموطن واحد"، فإنّ "المنفيّين يدركون اثنين من كلّ شيء على الأقلّ، ويؤدّي هذا التعدّد في الرؤى إلى إدراك بُعْد متزامن" (صفحة 331).

إنّ الوضعيّات الزمانيّة المختلفة، والثقافات ووسائل الإعلام المتعدّدة الأكثر روعة، الّتي تتداخل في قراءات بلاطة لماضي الفنّ الفلسطينيّ وحاضره، تجعل من اللاجئ الفلسطينيّ المهمّش حالة عالميّة.

أمّا عن العمل بشموليّته، فأدعو الفنّانين والباحثين والقرّاء المهتمّين بالثقافة الفلسطينيّة، إلى الاشتباك مع كتاب «الفنّ الفلسطينيّ: من الـ 1850 حتّى الوقت الحاضر»، قدر الإمكان؛ فكلّ لقاء مع النصّ سيولّد فهمًا جديدًا للثقافة البصريّة الفلسطينيّة، وسيقدّم نظيرًا لمجالات أخرى من التراث الثقافيّ الفلسطينيّ، مثل أشعار محمود درويش وفدوى طوقان. يقدّم بُلّاطَة لنا، شكلًا ملموسًا للمآسي الّتي ألمّت بالشعب الفلسطينيّ، ولا سيّما التحدّيات الّتي يواصل فنّانوه هزمها.

 

جبرا إبراهيم جبرا، زيت على خشب | ويكيبيديا

 

ومع ذلك، فإنّ أيّ قارئ اطّلع على الإبداعات الفنّيّة المتجسّدة في لوحات إسماعيل شمّوط، ونبيل عناني، ومبارك سعيد، وجوليانا سيرافيم، وتمام الأكحل، وجبرا إبراهيم جبرا (أشهر كاتب نثريّ)، ومصطفى الحلّاج، وتيسير بركات، وجمانة الحسيني، وتصوير أحلام شبلي، والّذين يُلْقون بظلالهم على تماثيل حنّا المسمار، سيندهش من إصرار الفنّانين الفلسطينيّين، وقدرتهم على تطوير ثقافتهم في ظلّ أقسى الظروف، وغالبًا في المنفى.

يدّعي بُلّاطَة أنّه طالما استمرّ ازدهار المخيال الفلسطينيّ كما يفعل في الإبداعات المرئيّة، فإنّ الرجاء بمستقبل أفضل للفلسطينيّين سيحظى بموطئ متين. يجب أن يشكّل نشر أعمال بُلّاطَة الخلّابة بالإنجليزيّة، حافزًا لتقديم المنح العلميّة والدراسيّة المستقبليّة للتمعّن أكثر في الفنّ الفلسطينيّ ما قبل عام 1850، وكذلك لمزيد من العمل المقارن حول الفنّ الفلسطينيّ في الوقت الحاضر. ذلك من شأنه أن يساهم في تعميق فهمنا لمحنة الفلسطينيّين وإثرائه، من زاوية نظر غالبًا ما هُمِّشَت في النقاشات السياسيّة؛ وهي الإبداع الفنّيّ.

 

كمال بُلّاطَة، في البدء كان العالم | مؤسّسة بارجيل للفنون​​​​

 


الكاتبة: ريبيكا روث جولد، وهي كاتبة مهتمّة بالشعر، والسياسة، وحقوق التأليف، والقوقاز، وإيران، وفلسطين.

 

روزَنَة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من الإنجليزيّة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة. موادّ روزَنَة لا تعبّر بالضرورة عن مبادئ وتوجّهات فُسْحَة، الّتي ترصدها وتنقلها للوقوف على كيفيّة حضور الثقافة الفلسطينيّة وتناولها عالميًّا. 

* بعض الموادّ البصريّة الواردة في موادّ روزَنَة، قد تكون من اختيارات هيئة التحرير، لا المصدر الأصل.

 

 

التعليقات