01/08/2022 - 13:23

أفكار التغيير واللغة العمياء... مَنْ يقتل كنفاني مرّة أخرى؟

أفكار التغيير واللغة العمياء... مَنْ يقتل كنفاني مرّة أخرى؟

غسّان كنفاني (1936 - 1972)

 

العنوان الأصليّ: Kanafani'’s "Thoughts On Change and the Blind Lamguage”.

المصدر: Journal of Comparative Poetics.

ترجمة: علاء سلامة - فُسْحَة. 

 

قدّم غسّان كنفاني (1936 - 1972) «أفكار عن التغيير واللغة العمياء» أوّل مرّة في محاضرة عامّة في بيروت، في الحادي عشر من آذار (مارس) في عام 1968، ضمن سلسلة من المحاضرات الّتي دُعي إليها عدد من أهمّ الكتّاب والمفكّرين العرب؛ من أجل تقدير آثار هزيمة حزيران (يونيو) 1967 على المجتمع والفكر العربيّين[1]. بذلك؛ يمكننا أن نضع نصّ كنفاني هذا ضمن سياق جسم أدبيّ نظريّ وفكريّ وتاريخيّ وآيديولوجيّ وشعريّ، أعاد التفكير في النجاحات القليلة والهزائم المتكرّرة في التاريخ العربيّ الحديث. هذا الجسم الأدبيّ ظهر مباشرة بعد الحرب الّتي لا تزال، بعد أكثر من عقدين، تعرّف الإنتاج الثقافيّ العربيّ المعاصر. كما يوضّح فيصل درّاج، فإنّ الهزيمة العربيّة في عام 1967 كانت الحدث الأهمّ في التاريخ العربيّ الحديث. بل إنّ أهمّيّتها ونتائجها تتجاوز ما نتج عن قيام إسرائيل في عام 1948. فإذا ما كان قيام إسرائيل يمثّل هزيمة الشعب الفلسطينيّ وضعف الأنظمة العربيّة، في مرحلة تاريخيّة كانت هذه الأنظمة تعتمد فيها تمامًا على القوى الاستعماريّة، فإنّ هزيمة حزيران (يونيو) 1967 كانت رمزًا لهزيمة الثورة العربيّة ككلّ[2].

 

نقد جلد الذات

يميّز نصّ كنفاني «أفكار عن التغيير واللغة العمياء» نفسه، الّذي كُتِبَ في عام 1968، ومرّة أخرى بعد عشرين عامًا من ذلك، بما يتضمّنه من تحليل واقعيّ ونقديّ للنزعة الاستبداديّة الفتشيّة (fetishist) نحو جلد الذات بدعوى ’النقد الذاتيّ‘.

يميّز نصّ كنفاني «أفكار عن التغيير واللغة العمياء» نفسه (...) بما يتضمّنه من تحليل واقعيّ ونقديّ للنزعة الاستبداديّة الفتشيّة (fetishist) نحو جلد الذات بدعوى ’النقد الذاتيّ‘.

غسّان كنفاني معروف في الترجمة الإنجليزيّة لكتاباته الأدبيّة في المقام الأوّل؛ قصصه القصيرة، ورواياته مثل «رجال في الشمس» (1962)، و«عائد إلى حيفا»، و«ما تبقّى لكم»، وهو ما يقع ضمن ’اكتشاف‘ المركز، على الصعيد الثقافيّ، في السنوات الأخيرة للأعمال الأدبيّة الصادرة من مستعمراته السابقة. استيراد هذه ’الموادّ الأوّليّة‘ في الشعر والأدب والدراما، أعطى مادّة ثريّة لصنّاع النظريّات في الغرب، حيث يُعاد تصنيع هذه الموادّ وتحويلها إلى سلع استهلاكيّة للنخب الثقافيّة، قبل أن يُعاد تصديرها إلى أماكن صناعتها الأصليّة. ما يكون إهماله عمدًا في هذه العمليّة هو المساهمة النظريّة والنقديّة القادمة من ’الهامش‘، والقادرة على تحدّي منظور الاتّكال الثقافيّ والاقتصاديّ القائم.

رغم أنّ كتابات كنفاني الأدبيّة قدّمت في حدّ ذاتها نقدًا شديدًا، على أسس الطبقة والإثنيّة، لعلاقات القوّة الاجتماعيّة والسياسيّة المشوّهة، إلّا أنّ كنفاني كان أكثر من ذلك ناقدًا ومؤرّخًا وصحافيًّا ومنظّرًا مهمًّا للمقاومة الفلسطينيّة، حتّى اغتاله ’الموساد‘ الإسرائيليّ، بتفجير سيّارته في بيروت في عام 1972. في آخر ما كتبه كنفاني، الّذي نُشر بعد وفاته، "حول قضيّة أبو حميد وقضايا التعامل الإعلاميّ والثقافيّ مع العدو"، تبدو ملامح تحليل نقديّ راديكاليّ لأنماط النوع الاجتماعيّ في الحركة الثوريّة، والظروف المادّيّة الّتي تحدّد العلاقات بين أطراف معيّنة من الإسرائيليّين والفلسطينيّين ضمن "الصراع في الشرق الأوسط".

«أفكار عن التغيير واللغة العمياء» تقدّم أيضًا قراءة نقديّة للساحة الاقتصاديّة - السياسيّة العربيّة. معجم المصطلحات العلميّة السياسيّة في المقالة، مثل ’الأبويّة‘ و’الحزبيّة‘، والمصطلحات العضويّة المجازيّة مثل ’اللغة العمياء‘ و’الدورة الدمويّة‘، يُظهر بوضوح أهمّيّة التقاطع في أعمال كنفاني بين ما سبق، وقُسّم إلى سياسيّ وثقافيّ. ضمن هذه المصطلحات المفتاحيّة المترابطة، يظهر اهتمام كنفاني بالأجيال القادمة في العالم العربيّ، وإمكانيّات التغيير السياسيّ والاجتماعيّ الّذي تمثّله هذه الأجيال.

 

عناصر السرد لدى كنفاني 

يظهر التزام كنفاني نحو الأجيال الشابّة كذلك في أعماله الأدبيّة، فغالبًا ما تقدّم شخصيّة طفل فيها الإمكانيّات التاريخيّة المزروعة في ديناميكيّات التناقض. في الصفحات الأولى من «رجال في الشمس»، على سبيل المثال، يذكّر ابن أبي قيس أباه بالفارق بين النقد المتعلّم والاستسلام الإيمانيّ. وفي «عائد إلى حيفا» (1969)، طفل فلسطينيّ هو خالد/ دوف، تركه والداه عندما تركا حيفا [خلال تهجير العصابات الصهيونيّة للفلسطينيّين] في عام 1948، وهو الآن جنديّ في الجيش الإسرائيليّ، يذكّر والديه العائدين إلى بيتهما بعد هزيمة عام 1967، وفتح الحدود بين إسرائيل والمناطق الّتي أضحت محتلّة، بخطر التعريف المغالي في علمانيّته للقوميّة. كذلك في قصصه المبكّرة، يقدّم كنفاني طفلًا فلسطينيًّا مثالًا تحرّريًّا لوالده وأستاذه حين يرفض الحتميّة التاريخيّة والسرديّات المنتهية. مثل مفهوم الانتماء عند إدوارد سعيد ربّما، فإنّ جدليّة كنفاني من أجل استعادة ’الدورة الدمويّة‘ إلى الجسد السياسيّ والاجتماعيّ العربيّ والفلسطينيّ تتطلّب إعادة هيكلة لأواصر النسب والتوريث الأبويّة والسلطويّة، وتحويلها إلى أواصر انتماء جمعيّة ديمقراطيّة.

يظهر التزام كنفاني نحو الأجيال الشابّة في أعماله الأدبيّة، فغالبًا ما تقدّم شخصيّة طفل فيها الإمكانيّات التاريخيّة المزروعة في ديناميكيّات التناقض...

سرديّة الهزيمة التاريخيّة الإسقاطيّة وحتميّة إعادة البعث، اللتان يستعرضهما كنفاني في تحليله في «أفكار عن التغيير واللغة العمياء»، حول الشروط المادّيّة والفكريّة في العالم العربيّ مباشرة بعد هزيمة 1967، بالإمكان كذلك إيجادهما ضمن النقاش السياسيّ الأعمّ في تلك الفترة، في أوج حركات التحرّر الوطنيّ في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينيّة، وكذلك في الشرق الأوسط، خاصّة مع نهاية مرحلة الإمبرياليّة الجغرافيّة. الحاجة الّتي أكّدها غسّان إلى فحص ملائم للقوى المادّيّة والسياسيّة الفعليّة لدى ’العدوّ‘، وكذلك لمفاهيمنا الذاتيّة حول إمكانيّاتنا في خضمّ ظروف تاريخيّة محتّمة، هي كذلك أساسيّة في أجندات المقاومة لدى منظّري ’العالم الثالث‘، أمثال أميلكار كابرال من غينيا وفرانز فانون، وكذلك بالنسبة إلى النقاش الطليعيّ والمقاومة الشعبيّة ضمن المنظّمات المقاومة من نيكاراغوا والسلفادور، حتّى الفلبّين والصين.

فحص كنفاني للتناقضات، الكبيرة والصغيرة، الّتي تواجه العالم العربيّ ما بعد الهزيمة، بمنزلة ردّ مباشر ونقديّ لطرح ماو تسي - تونج في عام 1957 "حول التعامل الصحيح مع تناقضات الشعب". اهتمام أطروحة كنفاني بإظهار أهمّيّة الحزب، والتنظيم الحزبيّ، والعمل الحزبيّ، ليس من أجل خلق الكوادر فحسب، بل من أجل خلق ثورة شعبيّة ديمقراطيّة، وفي اجتماع ذلك مع نقد نصّ كنفاني للفتشيّة المتعلّقة بـ ’الزعيم القائد‘، نرى تناظرًا مع أفكار أنطونيو غرامشي حول الثورة والدولة والمثقّف والشعب، وخاصّة كتابه «الأمير الحديث». إنّ المقدّمات النظريّة والإطار التحليليّ التاريخيّ، الّتي يقدّمها كنفاني في «أفكار عن التغيير واللغة العمياء» تجعل هذا العمل متجذّرًا لا في الجدل السياسيّ في العالم العربيّ فحسب، بل في العالم أجمع.

 

مَنْ يقتل كنفاني مرّة أخرى؟ 

حين نقرأ هذا العمل، بعد مرور عشرين عامًا على كتابته، في فترة ما بعد الاستعمار، أو ربّما في فترة الاستعمار الجديد (النيو - استعمار)، نجد لهذه الأفكار صدًى مرّة أخرى، مع بعض التعديلات التاريخيّة المتعلّقة بالإمبرياليّة الاقتصاديّة، و’التخلّف التكنولوجيّ‘، ورأس المال العابر للحدود. ما رآه كنفاني من بشائر في لبنان انتهت مع الحرب الأهليّة والاجتياح الإسرائيليّ، وتحوّلت إلى طائفيّة وصراعات على النفوذ السياسيّ من قِبَل ميليشيات تزداد تفكّكًا، والقوى الّتي تقف وراءها وترعاها. على مستوًى نظريّ أوسع، يقول فيصل درّاج "إنّ السمة الأهمّ في الثقافة العربيّة الطاغية لا تتجسّد في الولاءات السياسيّة أو المواقف الحزبيّة، وإنّما في عدد من الأفكار النمطيّة النابعة من الأيديولوجيا، الّتي تقاوم الهزيمة من مواقع مهزومة". 

تواريخ جديدة أتت بعد عام 1967 في السرد التاريخيّ العربيّ الحديث: 1973، 1975-1976، 1982. لكن، ومنذ كانون الأوّل (ديسمبر) من عام 1987، لم تعُد الروزنامة العربيّة موسومة بتواريخ كبيرة وسنين حاسمة، بل معروضة عبر استمرار الانتفاضة الفلسطينيّة في الأراضي المحتلّة: "أوّل شهر من الانتفاضة، ثاني شهر من الانتفاضة، الشهر العشرون من الانتفاضة …".

الإلحاح الّذي لا تزال أعمال كنفاني تخاطب به القضايا الاجتماعيّة والسياسيّة (...) يطرح سؤالًا جديدًا: لو أنّ كنفاني ما زال حيًّا اليوم، ألن يكون ثمّة من يجدون من الضروريّ أن يغتالوه مرّة أخرى؟

القضايا النظريّة المستعجلة الّتي طرحها كنفاني في «أفكار عن التغيير واللغة العمياء»، قضايا الأبويّة، الحزب، اللغة العمياء، الدورة الدمويّة، الديمقراطيّة، يُعاد الآن رفعها من فلسطين المحتلّة متحدّية بذلك مسيرة التاريخ. في مقالة لفيصل درّاج بعنوان «الانتفاضة: الإبداع السياسيّ والذاكرة الشعبيّة»، وفي مواجهة تحدّيات النظريّة والممارسة ومتطلّبات التاريخ، يدّعي درّاج أنّ "الانتفاضة لا تقدّم كلامًا نظريًّا، ولكنّها تصنع، عبر ممارساتها المختلفة، أسمى أنواع الخطاب النظريّ". يستمرّ بعد ذلك درّاج ويسأل: "ولكن، إذا ما كانت الانتفاضة ممارسة للنظريّة الإبداعيّة من دون كتابتها باللغة المحكيّة، فإنّ ممارسة النظريّة الثوريّة تترك ’للآخرين‘ مهمّة ترجمة ممارساتها إلى الحقل المكتوب، فمتى تكتب الممارسة نظريّتها بنفسها؟"[3].

الإلحاح الّذي لا تزال أعمال كنفاني تخاطب به القضايا الاجتماعيّة والسياسيّة لا في المنطقة فحسب، بل في العالم أجمع، يطرح سؤالًا جديدًا: لو أنّ كنفاني ما زال حيًّا اليوم، ألن يكون ثمّة من يجدون من الضروريّ أن يغتالوه مرّة أخرى؟

 

* تُنْشَر هذه المقالة ضمن ملفّ خاصّ لمناسبة مرور خمسين عامًا على اغتيال الشهيد غسّان كنفاني على يد الاستعمار الإسرائيليّ، تُنْشَر موادّه على مدار شهر تّموز (يوليو) 2022.

 


إحالات

[1] نُشرت هذه المحاضرات لاحقًا في مجلّة «محاضرات الندوة» (حزيران 1968)، ونشرها كنفاني في مجلّة «الهدف»، العدد 919 و 920 (تمّوز 1988).

[2] فيصل درّاج، الوضع الحاليّ للثقافة العربيّة، فلسطين الديمقراطيّة (حزيران 1989)، صفحة 26.

[3] فيصل درّاج، الانتفاضة: الإبداع السياسيّ والذاكرة الشعبيّة، الهدف، العدد 962 (حزيران 1989).

 


 

روزَنَة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من لغات مختلفة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة. موادّ روزَنَة لا تعبّر بالضرورة عن مبادئ وتوجّهات فُسْحَة، الّتي ترصدها وتنقلها للوقوف على كيفيّة حضور الثقافة الفلسطينيّة وتناولها عالميًّا. 

 

 

 

خمسون عامًا على اغتيال كنفاني | ملفّ

خمسون عامًا على اغتيال كنفاني | ملفّ

23/08/2022
مقاومة الانتظار الفلسطينيّ... «الباب» نموذجًا

مقاومة الانتظار الفلسطينيّ... «الباب» نموذجًا

11/07/2022
غسّان كنفاني... الفنّان التشكيليّ

غسّان كنفاني... الفنّان التشكيليّ

01/08/2022
قراءة دون رمزيّة في غرائبيّة «القبّعة والنبيّ»

قراءة دون رمزيّة في غرائبيّة «القبّعة والنبيّ»

25/07/2022
قنديل كنفاني الصغير... النور بين كانط وأفلاطون ونيتشه

قنديل كنفاني الصغير... النور بين كانط وأفلاطون ونيتشه

25/07/2022
أن تكون مثقّفًا مزعجًا

أن تكون مثقّفًا مزعجًا

05/07/2022
شعر الأرض المحتلّة... حوار مع غسّان كنفاني | أرشيف

شعر الأرض المحتلّة... حوار مع غسّان كنفاني | أرشيف

19/07/2022
مأزق الزمن عند كنفاني... إلغاء المستقبل الفلسطينيّ

مأزق الزمن عند كنفاني... إلغاء المستقبل الفلسطينيّ

08/08/2022
"رجال في الشمس" لغسّان كنفاني | ترجمة

"رجال في الشمس" لغسّان كنفاني | ترجمة

19/07/2022
عن الأقلام أكتب... وليس عن الكتب | أرشيف

عن الأقلام أكتب... وليس عن الكتب | أرشيف

24/07/2022
بين شنق سيّد قُطب واغتيال كنفاني

بين شنق سيّد قُطب واغتيال كنفاني

03/08/2022
أدب غسّان كنفاني... حديث في الوعي الثوريّ

أدب غسّان كنفاني... حديث في الوعي الثوريّ

18/07/2022
بين الإعجاب وسهام النقد... كنفاني متخفّيًّا وراء ’فارس فارس‘

بين الإعجاب وسهام النقد... كنفاني متخفّيًّا وراء ’فارس فارس‘

07/08/2022
«أمّ سعد»... الشجرة الإنسان | ترجمة

«أمّ سعد»... الشجرة الإنسان | ترجمة

14/07/2022
المنهج التركيبيّ وولادة الشخصيّة الأدبيّة الفلسطينيّة

المنهج التركيبيّ وولادة الشخصيّة الأدبيّة الفلسطينيّة

22/08/2022
شمس فلسطين الّتي لا تغيب

شمس فلسطين الّتي لا تغيب

04/07/2022
«عائد إلى حيفا»... زيارة مناطق الصدمة

«عائد إلى حيفا»... زيارة مناطق الصدمة

13/07/2022
غسّان كنفاني في فرنسا... حضور شحيح

غسّان كنفاني في فرنسا... حضور شحيح

16/07/2022
صورة أبديّة على حائط عالم ليس لنا

صورة أبديّة على حائط عالم ليس لنا

07/07/2022

التعليقات