09/02/2019 - 02:15

العرب الدروز والحركة الوطنيّة الفلسطينيّة حتّى عام 1948

العرب الدروز والحركة الوطنيّة الفلسطينيّة حتّى عام 1948

 

"العرب الدروز والحركة الوطنيّة الفلسطينيّة حتّى عام 1948"، كتاب لسعيد نفّاع، يتحدّث عن تاريخ العرب الدروز وإسهاماتهم في الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة قبل النكبة عام 1948. يقع الكتاب، الصادر عن "دار الجليل"، في 225 صفحة من القطع المتوسّط، ضمن 23 فصلًا تفصّل المراحل التاريخيّة المختلفة، منذ بداية القرن العشرين وهجرة اليهود المستعمرين إلى البلاد حتّى النكبة، مرورًا بالكفاح المسلّح وجيش الإنقاذ، والتواطؤ وخطّة الترحيل – الترانسفير، والمعارك المتعدّدة الّتي خاضها أو أسهم فيها الدروز.

 

تنشر فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة فاتحة الكتابة وفصله الأوّل بإذن من مؤلّفه.

 

*****

فاتحة

الأقلّيّة العربيّة الفلسطينيّة في الـ 48 "إسرائيل"، والّتي يصحّ فيها الاسم "فلسطينيّو البقاء"، رغم ظروف بقائهم وأسبابه، هؤلاء كانوا - وما زالوا - حالة خاصّة في المشهد السياسيّ الفلسطينيّ والشرق أوسطيّ، قيل عنهم الكثير، وكُتب عنهم الكثير، ولا أحسب مهتمًّا لا يحفظ لهم زاوية في ذهنه أو في مكتبته، في كلّ صغيرة وكبيرة من ملحمتهم الطويلة الدامية.

 

 

يعيش أهل البقاء هؤلاء – ويقارعون - حالة فريدة مستحيلة؛ فهم جزء من شعب مشرّد، ما زالت أواصر القربى بين أفراده من الدرجة الأولى، تريده "دولته" أن يرى في أهله أعداء له مثلما هم أعداؤها، ورغم أنّها المعتدية، وكهؤلاء مطلوب منهم - وبقوّة القانون - أن يفرحوا لحزن أهلهم ويحزنوا لفرح أهلهم!               

ظلّت في بيت البقاء عند عرب البقاء هؤلاء أركان مخفيّة، قلّما ولجتها الأقلام العربيّة، وإن ولجتها محاولة سبرها لم تكن بغالبيّتها موضوعيّة، أمّا تلك الّتي ولجتها الأقلام، وهي غالبًا صهيونيّة أو متصهينة، فقد دأبت على ألّا تضيء من تلك الأركان إلّا الزوايا الموحشة، مثل تلك الزوايا الموحشة كثير في كلّ أركان بيتنا الباقي، لكن الزوايا المليئة بالنور أكثر، وما علينا إلّا أن ننفض عنها الغبار لتشعشع؛ فنحن بأمسّ الحاجة إلى النور في زمن الظلمات هذا.

أتوخّى في هذه الدراسة، أن أستطيع نفض الغبار عن زاوية مهمّة من أركان بيتنا، دأب المتربّصون شرًّا بكلّ البيت، وإن كانوا من أهله أحيانًا، أن يبقوها مظلمة أو في أحسن الأحوال أن يضيئوا جنباتها الموحشة، مثلما يفعلون ببقيّة زوايا أركان بيتنا الباقي، هذه الزاوية عنوان هذه الدراسة: "العرب الدروز والحركة الوطنيّة الفلسطينيّة حتّى عام 1948". 

أتوخّى أن أضع أمام القارئ العربيّ الفلسطينيّ، والعربيّ بعامّة، معلومات، ولا أريد أن أقول حقائق؛ لأنّ الحقيقة يعرفها فقط مَنْ صنعها وليس الكاتب عنها، وصُنّاع تلك الحقائق في الغالب غُيّبوا عنّا، أستهدف أن أضع أمام القارئ الجانب المنير الطاغي وطنيًّا، لدى شريحة من أبناء شعبنا وأمّتنا، العرب الدروز، في المسيرة الوطنيّة الفلسطينيّة حتّى النكبة 1948. لعلّ في ذلك - عدا التزويد بالمعلومة التاريخيّة المنقوصة عند السواد الأعظم من قرّائنا - تعديل ميزانٍ مال على ضوء المؤامرة الّتي تعرّض، وما زال يتعرّض إليها العرب الدروز الفلسطينيّون بعد النكبة؛ نتيجة للسياسة الصهيونيّة، مدعومة بالرجعيّة بينهم، والرجعيّة العربيّة المحلّيّة بعامّة، وتخلّي ذوي قرباهم عنهم. مؤامرة اجتثاث جذورهم العربيّة الفلسطينيّة عبر فرض التجنيد الإجباريّ عليهم لجعلهم - تمامًا كما جاء في الوثائق الصهيونيّة المتكشّفة مؤخّرًا - سكّينًا في ظهر أمّتهم، وقطع طرق العودة إلى أحضان هذه الأمّة. في الفصل الأخير من هذه الدراسة، تناولت هذه المؤامرة بتفصيل أكبر، واضعًا النقاط على الظروف الّتي تمّت بها هذه المؤامرة.     

 

المسيرة الوطنيّة لأيّ شعب هي لمجموع أبناء الشعب، مهما اختلفت انتماءاتهم الثانويّة: عقائديًّا واجتماعيًّا وطائفيًّا ومذهبيًّا، اللهمّ أولئك الّذين ينتقلون إلى متراس الأعداء. وقلّما يشار في الأدبيّات إلى دور شريحة من الشرائح، إلّا إذا حتّمت ذلك دواعٍ موضوعيّة أراها في سياقنا كذلك

 

 أتوخّى من دراستي هذه إعادة تاريخ يشرّف، إلى نصابه عند العرب الدروز الفلسطينيّين أنفسهم، وخاصّة النشء الصاعد. تاريخ لم يُمحَ فقط بمؤامرة أخطر من الأولى، إنّما كان محوه في بعض الأحيان من بين ظهرانيهم، من المتعاونين المدعومين، دافعين تاريخ أهلهم ثمنًا لوظيفة أو مركز. ولم يقتصر الدور على المحو، بل "بندقة" تاريخ، القصد فيه محاولة لمحو الذاكرة القوميّة الحقيقيّة وخلق قوميّة هجينة، أسموها "القوميّة الدرزيّة".

استطاع الوطنيّون العرب الدروز أن يدفنوا هذه المؤامرة، ولكن ليس قبل أن تأخذ في طريقها العديد، وما زالت آخذة الكثيرين، ومحاولات إحياء ما يدفن منها دؤوبة، لا تكلّ ولا تملّ. ولأنّ الصراع ما زال مستمرًّا، وبحاجة إلى بوصلة ودعم وعون لمصارعي الكمّ الهائل من "الكتب" المدعومة من مؤسّسات الدولة المختلفة، أتوخّى من هذه الدراسة أن تكون عونًا لهم، إضافة إلى ما أتوخّاه تجاه النشء العربيّ الدرزيّ؛ ليعرف تاريخه الفلسطينيّ.

كلّ هذا وتداعب عقلي وذهني القناعة بأنّ أقصر الطرق لاستعباد أيّ شعب أو أيّ مجموعة بشريّة، هو بقطع جذورها الحضاريّة، وتشويه أصولها التاريخيّة، وجعل لقمة عيشها رهنًا في يد المستعبد. وأقصر الطرق للحرّيّة الفكريّة والحياتيّة هو ترسيخ الجذور، وتثبيت الانتماء إلى الأصول التاريخيّة؛ وعندئذٍ ستنبت حتمًا الحرّيّة الفكريّة والعزّة الحياتيّة.

لست مؤرّخًا، لكنّي حاولت جهدي أن أتّبع قواعد كتابة التاريخ، معتمدًا على مصادر تاريخيّة، ومن طرفيّ المتراس، مشيرًا إلى أصحابها، مقتبسًا في الكثير من الحالات، مؤيّدًا أو نافيًا حسب اجتهادي ومنطقي، معتقدًا جازمًا أنّ الحقيقة التاريخيّة في النهاية موجودة هناك، في نقطة ما بين المتراسين. لا أنكر أنّي في بعض المحطّات اعتمرت قبّعة السياسيّ غير الحياديّ، ولكنّي حتّى عند ذاك، حاولت أن أبقى متجرّدًا من ميولي وعواطفي، ولا أظنّني نجحت كلّ النجاح، ولكنّي لم أفشل.  

 

شيخ عقل درزيّ من بلاد الشام، 1926 | Library of Congress

 

تردّدت كثيرًا في الفصل الّذي نشرت فيه كذلك "غسيلنا الفلسطينيّ الوسخ"، علّلت ذلك في الفصل نفسه، ومع هذا أرجو ألّا أكون أخطأت في حقّ أحد ممّن ذكرت، فبعض هؤلاء ما زال يدور نقاش حول دورهم، ولمّا ترسُ بعد سفينة براءتهم أو إدانتهم على برّ أمان؛ ولأنّ لهم أبناء وأحفادًا من أبناء شعبنا؛ لا يؤخذون بجريرة مَنْ سبقهم أوّلًا، وثانيًا لا أجد تعبيرًا أبلغ من مثلنا الشعبيّ في مثل هذه الحالات: "كلّ عنزة معلّقة بعرقوبها".  

لا بداية لمسيرات الشعوب الوطنيّة، ولا نهاية لها، ومساراتها غير مقتصرة فقط على مواجهة الأعداء الخارجيّين، إنّما كذلك على مواجهة التحدّيات الداخليّة الّتي تواجه كلّ شعب؛ فالنضال ضدّ الجهل بكلّ أوجهه؛ الثقافيّ منه والاجتماعيّ الطائفيّ، والعشائريّ والحمائليّ، وضدّ الفقر، ومن أجل الرفعة والرقيّ، كذلك نضال وطنيّ.

المسيرة الوطنيّة لأيّ شعب هي لمجموع أبناء الشعب، مهما اختلفت انتماءاتهم الثانويّة: عقائديًّا واجتماعيًّا وطائفيًّا ومذهبيًّا، اللهمّ أولئك الّذين ينتقلون إلى متراس الأعداء. وقلّما يشار في الأدبيّات إلى دور شريحة من الشرائح، إلّا إذا حتّمت ذلك دواعٍ موضوعيّة أراها في سياقنا كذلك؛ فسقت دور هذه الشريحة، "العرب الدروز"، من أبناء شعبنا بحلوه ومرّه؛ من خلال تسلسل محطّات المسيرة الوطنيّة الفلسطينيّة عامّة، بحلوها ومرّها، حتّى تكون الصورة موضوعة في السياق والزمن التاريخيّين للمسيرة بمجملها؛ آملًا أنّي بهذا أكون، قد أضأت زاوية أخرى من زوايا بيتنا الفلسطينيّ الباقي.

                                                                                                  سعيد نفّاع

 

الفصل الأوّل

الدروز، لمحة تاريخيّة

ما من شكّ في أنّ الاجتهادات الفقهيّة، في المذهب الإسلاميّ التوحيديّ "الدرزيّ"، راديكاليّة في بعض جوانبها، والتخوّف من إظهارها إلّا على المعتنقين القادرين من أتباع المذهب، كان وراء الحفاظ عليها سرّيّة، الخوف من الملاحقة، هذه السرّيّة كانت - وما زالت - سببًا وراء كثرة الاجتهادات حول هذه الجماعة، وقد أسهمت كثيرًا في خلق البلبلة حولهم وحول معتقداتهم، وبالذات حول انتمائهم دينيًّا وحتّى عرقيًّا، وقد أسهم الكثيرون منهم، ممّن كتبوا عن أحوالهم في زيادة هذه البلبلة، باتّباعهم "التقيّة" طريقًا في أحسن الأحوال.

التقيّة: من اتّقاء، وهو مبدأ شيعيّ يعني: "الاستتار بالمألوف عند أهله اتّقاء للأذيّة". 

 

 

في سنة 765م، الموافقة لسنة 148ه، توفّي سادس الأئمّة، الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمّد الباقر بن الإمام علي زين العابدين بن الإمام الحسين أخي الإمام الحسن، أبناء الإمام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. بعد وفاة الإمام جعفر الصادق، انقسم أنصار آل البيت، وهم الشيعة العلويّة، إلى قسمين: القسم الأوّل قال بإمامة إسماعيل الابن الأكبر، بينما نادى القسم الثاني بإمامة ابنه موسى؛ فأُطلق على شيعة إسماعيل الإسماعيليّين.

من سلالة إسماعيل، القائم بأمر الله الفاطميّ، أوّل الخلفاء الفاطميّين بالمغرب. وقد انشقّ الدروز عن الإسماعيليّين في مصر، في أيّام الخليفة الفاطميّ الحاكم بأمر الله، حفيد الخليفة القائم حفيد الإمام إسماعيل بن الإمام جعفر الصادق(1).

هنا ظهر مذهب التوحيد سنة 1012م، الموافقة 403ه، وانتشر في المناطق السوريّة بين الإسماعيليّين المعتقدين بإمامة الفاطميّين، ولكنّ الاختلاف في نواحٍ مهمّة جزّأهم؛ فاعتنقت هذا المذهب قبائل تغلب وربيعة وعليّ وشمّر وغيرها من القبائل، الّتي كانت معوانًا لأمير حلب سيف الدولة الحمدانيّ في حربه على الروم، واعتنقه كذلك كثير من قبائل تميم وأسد وعقيل و"معروف" ودارم وطيّئ، وفي الكوفة اعتنقته قبيلة المنتفك، الّتي يرجع أصلها إلى قيس عيلان، ومن أسماء بعض هذه القبائل أُطلق عليهم لقب "بنو معروف" و"بنو قيس"، واعتنقته كذلك قبيلة كتامة، الّتي كوّنت النواة الصلبة لجيش الدولة الفاطميّة، حين قدمت إلى مصر بقيادة جوهر الصقلّيّ باني القاهرة.

في سنة 420ه، الموافقة 1029م، تولّى الأمير رافع بن أبي الليل وعشيرته طيّئ، المعتنقون مذهب الدولة الفاطميّة، إمارة عرب الشام؛ إثر انتصاره في معركة "الأقحوانة" القريبة من طبريّة في فلسطين، إلى أن انقلبت الآية فهُزم؛ ما اضطرّ أتباعه من قبيلته والقبائل أعلاه، إلى العودة عن المذهب إلى مذهب السنّة، ومنهم مَنْ حافظ على مذهبه بالكتمان، ومنهم مَنْ لجأ إلى الجبال الخالية في لبنان ووادي التيم والجليل، فأُطلق على دروز جبل لبنان "آل عبد الله"، وعلى دروز وادي التيم "آل سليمان"، وعلى دروز صفد "آل تراب"(2).

 

ظهر مذهب التوحيد سنة 1012م، الموافقة 403ه، وانتشر في المناطق السوريّة بين الإسماعيليّين المعتقدين بإمامة الفاطميّين، ولكنّ الاختلاف في نواحٍ مهمّة جزّأهم

 

غنيّ عن القول إنّ الاسم الحقيقيّ للدروز هو "الموحّدون"، وأمّا الاسم الشائع "الدروز"، فجاء من اسم "نشتكين الدرزيّ"، أحد دعاة المذهب الّذي ارتدّ لاحقًا عن المذهب، وقُتل على أيدي الموحّدين أنفسهم.     

ظلّ سبر حقيقة المذهب التوحيديّ عصيًّا على المؤرّخين، فاجتهد شيوخهم في الكثير من المناسبات؛ لتبيان أسس المذهب ردًّا وتوضيحًا، فيقتبس الدكتور نبيه القاسم في كتابه "واقع الدروز في إسرائيل"، مقابلة صحافيّة مع الشيخ محمّد أبو شقرا، شيخ عقل الموحّدين الدروز، في لبنان حينذاك، وممّا جاء في أقواله:

"نورد هنا نصّ فقرة من تصريح فضيلة شيخ الإسلام الأكبر، شيخ الجامع الأزهر، المغفور له الشيخ محمود شلتوت، الّذي نُشر على لسانه في 1 أغسطس/ آب 1959: لقد أرسلنا من الأزهر بعض العلماء؛ كي يتعرّفوا أكثر على المذهب الدرزيّ، وجاءت التقارير الأولى تبشّر بالخير؛ فالدروز موحّدون مسلمون مؤمنون".

ويضيف أبو شقرا: "الموحّدون الدروز مذهب خاصّ من المذاهب الإسلاميّة المتعدّدة، وهو كجميع المذاهب الأخرى وليد اجتهادات فقهيّة وفلسفيّة في أصول الإسلام، والمتتبّع لتاريخ مذهب الموحّدين يرى أنّه يمثّل مدرسة فكريّة خاصّة من مدارس الفكر الإسلاميّ"(3).

وتقول الدكتورة نجلاء أبو عزّ الدين: "إنّ الدروز جروا على كتمان مذهبهم عمّن سواهم، وللتقيّة دور في هذا التستّر؛ فالتقيّة هي ستر المذهب إذا تعرّض الفرد أو الجماعة إلى الخطر بسبب المعتقد. وقد أذن القرآن بالتقيّة في ظروف خاصّة، فجاء في القرآن الكريم: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلّا من أُكره وقلبه مطمئنّ بالإيمان} (سورة النحل: 106)، وفي الحديث: "الأعمال بالنيّات". أمّا الشيعة فقد جعلوا التقيّة واجبًا في سبيل مصلحة الجماعة، وإلى جانب التقيّة ثمّة سبب للكتمان أكثر أهمّيّة، وهو الحفاظ على العقيدة؛ كي لا تصل إلى الّذين لم يتهيّؤوا لقبولها؛ فيسيئون تفسيرها ويشوّهون حقيقتها، ويختلط عليهم ما يعتقدونه"(4). 

 

الإمام محمّد شلتوت

 

المثبت تاريخيًّا، بالقدر الّذي يؤخذ التاريخ له إثباتًا، والمُجمع عليه، إلّا من قلّة لا تكتب تاريخًا؛ إنّما مراضاة لحكّام أو مراضاة لأمراض التبعيّة الّتي تعانيها، المثبت والمُجمع عليه أنّ الدروز عرب عرقًا، شيعة إسماعيليّون إسلاميّون أصلًا ومذهبًا، أمّا حاضرًا فهم أقرب إلى السنّة؛ فقد انقسموا عن الإسماعيليّين، كما قيل سابقًا، ومالوا إلى السنّة؛ فهم اليوم بين السنّة والشيعة متأثّرون في اجتهاداتهم - أيضًا - بالفلسفة الإغريقيّة، والشرق آسيويّة، والمصريّة، والديانات السماويّة الأخرى، لكنّ الأساس هو القرآن الكريم، بتفسير باطنيّ للكثير من آياته.

في الأدبيّات التوحيديّة، نجد على سبيل المثال ما يأتي: "فاعملوا بالظاهر ما دام نفعه مستمرًّا وحكمه مستقرًّا، واطلبوا الباطن ما دام مُشارًا إلى مستوره الخفيّ، والعمل بها مقبول، والثواب مأمول".

وفي أدبيّة تخاطب المناهضين للدعوة التوحيديّة، نجد: "أفتناسيتم، أيّها الغفَلة، من فصول دعائم الإسلام، ما أُمرتم بحفظه والحضّ عليه؛ أنّ القرآن مثل لخاتم الأئمّة ...". 

كذلك نجد في أخرى، في توبيخ لداعية مرتدّ: "وأمّا ما طعنت به سيّد الرسل والأمّة، في ذكر أبي لهب عمّه، فما بخس الله، جلّت آلاؤه، بالأنبياء الظاهرين للبشر، بمن ارتدّ عن طاعتهم من أهلهم وكفر... وإنّما حداك على ما أجريت إليه، يا قليل العلم، شيئان: أحدهما أن تجعل مدخلًا للطعن على دين الإسلام، وسببًا لنقض الأنبياء الكرام، والآخر ركاكة عقلك وغلظ فهمك عمّا يتعقّب عليك من المعائب، في هذا المقال، وفي إحدى هذه الجرائم ما يوجب قطع بنانك، وجدّ لسانك، وهدم أركانك ...".

 

"إنّ العقيدة الفاطميّة - الإسماعيليّة مفعمة بالفلسفة الأفلاطونيّة الحديثة؛ فالنظريّات الفلسفيّة اليونانيّة، وغيرها من الأفكار المقتبسة من مصادر خارجيّة، أُدمجت بفضل التفسير الفاطميّ للقرآن في العقائد الإسلاميّة، كما طوّرها الإسماعيليّون، الّذين قالوا إنّ للقرآن معنًى ظاهرًا ومعنًى باطنًا

 

وفي أخرى، نجد توجيهًا لأحد دعاتهم: "واجمع شمل الموحّدين، وكن لهم في نفاسهم وأعراسهم وجنائزهم على السنّة"(5).    

تقول الدكتورة نجلاء أبو عزّ الدين: "إنّ العقيدة الفاطميّة - الإسماعيليّة مفعمة بالفلسفة الأفلاطونيّة الحديثة؛ فالنظريّات الفلسفيّة اليونانيّة، وغيرها من الأفكار المقتبسة من مصادر خارجيّة، أُدمجت بفضل التفسير الفاطميّ للقرآن في العقائد الإسلاميّة، كما طوّرها الإسماعيليّون، الّذين قالوا إنّ للقرآن معنًى ظاهرًا ومعنًى باطنًا، وإنّ التأويل يوصل إلى المعنى الحقيقيّ للنصّ، وتفسير المعنى الحقيقيّ الكامن وراء الظاهر، أمانة أُوكلت إلى الإمام والراسخين في العلم"(6). 

ويقول كمال جنبلاط: "إنّ أساس عقيدتهم قائم على طلب الحكمة؛ فليس سوى الطالبين بمستطيعين قراءة الكتب المقدّسة، الّتي تسمّى ’الحكمة‘، إنّها امتداد للمدارس ’الهرمسيّة‘ اليونانيّة أو المصريّة - مدارس السنّة الباطنيّة - الّتي انتقلت إلى التصوّف الإسلاميّ... يبقى بعد ذلك أنّ الدرزيّة الحقيقيّة هي الحكمة العرفانيّة في اليونان، ومصر، وفارس، والإسلام، في آن معًا"(7).

يرى المتتبّع للمذهب التوحيديّ "الدرزيّ"، أنّ الأدبيّات الفقهيّة الدرزيّة، المجموعة في ستّة كتب لديهم، أسموها "الحكمة"، تحتوي اجتهادات فقهيّة متميّزة في سيرة الخلق ومراحله، ومتميّزة في معتقدات أخرى، وفي لبّها عقيدة تقمّص الأرواح؛ من هنا، من الاختلاف الراديكاليّ عن بقيّة المذاهب في قضايا كالمذكورة، حافظوا على سرّيّة اجتهاداتهم؛ خوفًا من الملاحقة الّتي ميّزت، وما زالت تميّز المجتمعات الّتي لا تتحمّل حرّيّة المعتقد، وخاصّة إذا كان في المعتقد ما يناقض، يخالف أو يجتهد في المعتقد السائد.  

 

مصادر الفصل الأوّل:

(1) أمين طليع، أصل الموحّدين الدروز وأصولهم (بيروت: دار الأندلس)، ص 23.

(2) سعيد الصغيّر، بنو معروف في التاريخ (سورية: القرية)، ص 178.

(3) نبيه القاسم، واقع الدروز في إسرائيل (القدس: دار الأيتام الإسلاميّة، 1976)، ص 222.

(4) نجلاء أبو عزّ الدين، الدروز في التاريخ (بيروت: دار العلم للملايين، 1985)، ص17.

(5) يوسف الدبيسي، أهل التوحيد الدروز، ج3 (بيروت: المركز الثقافيّ اللبنانيّ ، 2006)، ص 100 – 101 + 253.

(6) أبو عزّ الدين، أهل التوحيد، ص17.

(7) كمال جنبلاط، هذه وصيّتي (لبنان، المختارة: الدار التقدّميّة، 1987)، ص 58 + 66.

سعيد نفّاع محامٍ وسياسيّ فلسطينيّ، كان نائبًا في الكنيست الإسرائيليّ بين عامَي 2007 و2013، عن "حزب التجمّع الديمقراطيّ الفلسطينيّ"، وُلد في قرية بيت جنّ عام 1953، ودرس الحقوق في "جامعة تل أبيب".

أطلق سعيد نفّاع عام 2001 "عهد الدروز الأحرار"، الّذي يقضي بعدم الخدمة في جيش الاحتلال الإسرائيليّ، ويروّج لإعادة إدماج الدروز في المجتمع الفلسطينيّ، جزءًا أصيلًا منه. 

 

 

سعيد نفّاع

                                                         

  محامٍ وسياسيّ وأسير محرّر فلسطينيّ، كان نائبًا في الكنيست الإسرائيليّ بين عامَي 2007 و2013، عن "حزب التجمّع الديمقراطيّ"، وُلد في قرية بيت جنّ عام 1953، ودرس الحقوق في "جامعة تل أبيب". أطلق عام 2001 "عهد الدروز الأحرار"، الّذي يقضي بعدم الخدمة في جيش الاحتلال الإسرائيليّ، ويروّج لإعادة إدماج الدروز في المجتمع الفلسطينيّ، جزءًا أصيلًا منه. 

 

 

التعليقات