16/01/2022 - 14:01

بدو النقب وبئر السبع: 100 عام من السياسة والنضال | فصل

بدو النقب وبئر السبع: 100 عام من السياسة والنضال | فصل

كتاب «بدو النقب وبئر السبع» للباحث منصور النصاصرة

 

صدرت حديثًا ترجمة كتاب «بدو النقب وبئر السبع: 100 عام من السياسة والنضال»، عن «مركز الملك فيصل للدراسات الإسلاميّة»، للباحث الفلسطينيّ منصور النصاصرة، وكان الكتاب قد صدر «جامعة كولومبيا» في نيويورك. تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة فصلًا من الكتاب بإذن من الكاتب.

 


 

ازدادت النقاشات العلميّة في العقود الأخيرة حول الشعوب الأصلانيّة والأقلّيّات القوميّة، وخاصّة ما يتعلّق بمنظومة العشائر العربيّة في الشرق الأوسط وعلاقتها بالدولة ما بعد الكولونياليّة. وفي سبيل المساهمة في هذه النقاشات المستمرّة، يقدّم هذا الكتاب تحليلًا شاملًا ومعمّقًا لعرب جنوب فلسطين خلال فترات الحكم العثمانيّ والانتداب البريطانيّ والحكم العسكريّ الإسرائيليّ. ويركّز بشكلٍ أساسيّ على العرب في قضاء بئر السبع منذ إقامة إسرائيل والنكبة في العام 1948، مرورًا بفترة الحكم العسكريّ الإسرائيليّ حتى فترة ما بعد أوسلو وإلى يومنا هذا[1].

 

إشكاليّة الأدبيّات السابقة

ومنذ أن قدّم الباحث والموظّف الحكوميّ الفلسطينيّ عارف العارف توثيقًا تاريخيًّا لبعض جوانب تاريخ عرب النقب وبئر السبع الاجتماعيّ في ظلّ حقبة الانتداب البريطانيّ، لم تُبذل جهود حقيقيّة لتوثيق المحطّات التاريخيّة النضاليّة لعرب النقب وقضاء بئر السبع. وفي هذه المرحلة المفصليّة في القضايا الشرق أوسطيّة وظهور القبليّة والحمائليّة كجزء من المنظومة السياسيّة، يمثّل هذا الكتاب أولى المحاولات لتوثيق وقائع التاريخ وآليّات الصمود النقباويّة خلال القرن الأخير في منطقة جنوب فلسطين (بلاد غزّة وقضاء بئر السبع). كما يوثّق الكتاب أيضًا أهمّيّة دراسات الإمبراطوريّة والمناطق الحدوديّة بين شرق الأردنّ وجنوب فلسطين وسيناء، وأيضًا محاولة فهم دور القانون الدوليّ في حماية الأقلّيّات القوميّة والأصلانيّة.

يمثّل الكتاب أولى المحاولات لتوثيق وقائع التاريخ وآليّات الصمود النقباويّة خلال القرن الأخير في منطقة جنوب فلسطين، الّتي تُسمّى بلاد غزّة وقضاء بئر السبع، وأهمّيّة دراسات الإمبراطوريّة والمناطق الحدوديّة...

إنَ الأدبيّات الأكاديميّة الّتي تتناول قضايا عرب النقب وقضاء بئر السبع محدودة نوعًا ما، كما أنّها تكشف عن فجوات مدهشة؛ فقد واجهتْ عمليّة كتابة وتوثيق التاريخ الفلسطينيّ في النقب - والّتي تشكّل مكوّنًا أساسيًّا في الأدبيّات المتوفّرة - قيودًا معيّنة، الأمر الّذي يقود إلى استخلاص أنّه لم يتمّ اعتبار تاريخهم وسياساتهم محطّ أهمّيّة حتّى في الأدبيّات الفلسطينيّة، ويمكن تحديد هذه القيود (والّتي تمتدّ منذ العقود الأخيرة من حقبة الإمبراطوريّة العثمانيّة ومن ثمّ فترة الانتداب البريطانيّ إلى الحكم  العسكريّ الإسرائيليّ) عندما يتمّ نقاش مسألة العرب قضاء بئر السبع؛ لأنّ أغلب الدراسات العلميّة الّتي تغطّي هذه الفترات تفتقر إلى التحليل النقديّ المعمّق وإلى استعمال وثائق وراويات شفويّة يَكشف عنها  الكتاب لأوّل مرّة.

يسعى هذا النصّ، استنادًا إلى بياناتٍ أرشيفيّة نادرة تمّ جمعها من لندن، إيرلندا الشماليّة، أكسفورد، عمّان، القدس وإسطنبول، وعملٍ ميدانيّ مكثّف في قضاء بئر السبع، المملكة البريطانيّة المتّحدة والأردن، إلى إجراء دراسة نقديّة حول العرب البدو الأصلانيّين الفلسطينيّين والطريقة الّتي صمدوا فيها في وجه أشدّ سياسات الدولة صرامة منذ أواخر العهد العثمانيّ حتّى يومنا هذا. وإذا ما نظرنا إلى جزء كبير من الدراسات الإسرائيليّة والأدبيّات الفلسطينيّة الموجودة والّتي تتناول قضيّة عرب النقب، سنلاحظ أنّ تجربتهم قُدِّمت على أنّها «سلبيّة» وفاعليّتهم السياسيّة على أنّها «مسلوبة». على الرغم من ذلك لم تكن هذه تجربتي كباحث وبعد أن طرقت أبواب أرشيفات عديدة في العالم، ولذلك أردت أن أفهم التطوّر المبكّر للسياسات العثمانيّة والبريطانيّة تجاه عرب النقب وبئر السبع حتّى أمتلك فهمًا أعمق حول كيفيّة تفسيرنا للسياسات والوضع الراهن في قضاء بئر السبع. وحتّى يتسنّى لنا فهم ما هو فريد في حالة عرب قضاء بئر السبع، سأتطرّق إلى بعض المجتمعات العربيّة البدوية والشعوب الأصلانيّة الأخرى في المنطقة وتجربتهم مع الدول الّتي يقطنون فيها اليوم.

 

ما وراء سلبيّة الصورة الاستشراقيّة

وكي نستطيع أن نستوعب الوضع العامّ لعرب النقب وبئر السبع بين العام 1948 واليوم بوضوح أكبر، من المهمّ أن نرى كيف قاوموا منظومة سلطة الحكم العسكريّ الإسرائيليّ وصمدوا في قراهم التاريخيّة حتّى يومنا هذا. أتمنى أن أقوم بتعميق فهم حالة عرب النقب كجزء عضويّ من أبناء الأقلّية الفلسطينيّة الأصلانيّة في البلاد عن طريق تقديم رؤية محلّيّة نقديّة متجدّدة، لردم الفجوة الّتي تركها العديد من الباحثين في الأدبيّات الفلسطينيّة والإسرائيليّة.

وعلى الرغم من أنّ البحوث التقليديّة والاستشراقية أظهرت عرب النقب وبئر السبع ضحايا أو متلقّين سلبيّين، من المهمّ أن تتمّ إعادة فهمهم كناشطين في الدفاع عن مجتمعهم وهويّتهم وفي الردّ الممنهج على المحاولات الاستعماريّة الرامية إلى إخضاعهم والسيطرة على حياتهم وأراضيهم التاريخيّة.

يتحدّى هذا الكتاب الفكرة العرفيّة عن خضوع العرب البدو لمنظومة الحكم العسكريّ؛ حيث تبيّن من البحث الميدانيّ والأرشيفيّ أنّ عرب النقب يمتلكون قدرات هامّة أدّت إلى صمودهم الأسطوريّ حتّى اليوم. والفرضيّة التي سيتمّ تقصّيها هنا تدّعي أنّه رُغم الاعتقاد السائد، كانت قوّة وصمود عرب النقب تفوق التوقّعات، وأنّهم لعبوا دورًا مهمًّا في رسم مصيرهم ومستقبلهم في قراهم التاريخيّة حتّى اليوم. ثمّة عددٌ قليلٌ من الدراسات الّتي تتناول تاريخ ونضال فلسطينيّو قضاء بئر السبع، وخصوصًا في فترة الحكم العسكريّ (1948-1967). يمكن ملاحظة تهميش الديناميكيّات والوقائع الحقيقيّة في علاقة عرب النقب والدول المتعاقبة خلال ثلاث فترات من الزمن.  

لا يهدف هذا الكتاب إلى عرض تاريخ وسياسات عرب النقب وبئر السبع فقط، وإنّما الإشارة إلى أنّهم في كلّ مرحلة تاريخيّة لم يكونوا خاضعين لسياسات الهيمنة الكولونياليّة الاستعماريّة، سواءً في زمن العثمانيّين أو البريطانيّين، ولا حتّى في فترة الحكم العسكريّ الإسرائيليّ منذ العام 1948؛ بل على العكس من ذلك، فقد قاوموا هذه الهيمنة بعدّة طرق  وآليّات صمود منظّمة ويوميّة.

 

ما بين الفترة العثمانيّة والاستعمار البريطانيّ

يسعى هذا الكتاب إلى المساهمة في النقاشات العلميّة في ما يتعلّق بعرب النقب وقضاء بئر السبع في أربعة محاور رئيسة هي:

 أوّلًا: يساهم في النقاش الدائر حول المجتمعات العربيّة البدويّة في جنوب فلسطين منذ أواخر العهد العثمانيّ، عبر معالجة طبيعة العلاقة بينهم وبين الحكومة العثمانيّة في إسطنبول، وينصبّ التركيز الأساسيّ للكتاب في الجزء الأوّل على سياسات العثمانيّين تجاه عرب قضاء بئر السبع منذ العام 1900 إلى العام 1917، أي بعد إعادة تأسيس مدينة بئر السبع كمركز سياسيّ واداريّ لجنوب فلسطين. وقد كان تخطيط مدينة بئر السبع على يد العثمانيّين وعلاقتها بغزة، الخليل، القدس ومدن الساحل الفلسطينيّ مركزيًّا بالنسبة لهذه الفترة.

يتحدّى الكتاب الفكرة العرفيّة عن خضوع العرب البدو لمنظومة الحكم العسكريّ؛ حيث تبيّن من البحث الميدانيّ والأرشيفيّ أنّ عرب النقب يمتلكون قدرات هامّة أدّت إلى صمودهم الأسطوريّ حتّى اليوم...

ثانيًا: يقدّم الكتاب فهمًا جديدًا لمنظومة الحكم الكولونياليّ البريطانيّ في جنوب فلسطين ولعلاقتها مع عرب قضاء بئر السبع، عن طريق فحص تصوّر السلطات الاستعماريّة لمنظومة العشائر ومحاولة إخضاها إلى الهيمنة الكولونياليّة. وبالنظر إلى الديناميكيّات بين الدولة المستعمِرة والمجتمعات البدويّة في المناطق الحدوديّة مثل منطقة شرق الأردنّ وسيناء وبئر السبع، ومقارنتها مع كيف كان يُنظر للعرب البدو من قبل مجتمعات مختلفة في فلسطين، يلقي هذا الكتاب ضوءًا جديدًا على طبيعة علاقات القوّة الاستعماريّة مع أصحاب البلاد الأصلانيّين في جنوب فلسطين. في هذة الجزئيّة يتطرّق الكتاب إلى محاكم العشائر في مدينة بئر السبع واعتراف الإنجليز بالأراضي في قضاء بئر السبع وحتّى سقوط مدينة بئر السبع ودحر الإنجليز من بئر السبع إبّان الثورة الفلسطينيّة. في هذة الجزئية يتمّ الكشف عن وثائق عثمانيّة وبريطانيّة ومقابلات نادرة أُجْرِيَتْ في بريطانيا حول ملكيّة الأراضي وعلاقة بئر السبع بمدينة غزّة، الخليل والقدس.

ثالثًا: يوفّر الجزء الأهمّ من هذا الكتاب فهمًا أوسع للعلاقة ما بين الحكومة الإسرائيليّة-  والعرب البدو خلال فترة الحكم العسكريّ منذ 1948 إلى 1967، وحتّى وقتنا هذا. إضافةً إلى ذلك، يفحص هذا الجزء النقاشات المستمرّة حول الحقوق الأصلانيّة لعرب النقب وملكيّة الأراضي المتنازع عليها حتّى اليوم. وبالربط بين قضيّة عرب النقب والنقاشات النظريّة حول المقاومة والأصلانية، يساهم هذا الكتاب في التطوّر المستمرّ في حقل سياسات الشعوب الأصلانيّة والأقلّيّات القوميّة في العالم ويسهم في عملية تقصّي إذا ما كان هذا الجانب القانونيّ يساعد في فهم الحالة العربيّة في النقب.

وتسلّط هذه الدراسة الانتباه إلى الاستراتيجيّات المختلفة الّتي يتّبعها عرب النقب لمقاومة النظام القمعيّ للحكم العسكريّ بما حدث في منطقة المثلّث والجليل حينها، من خلال البحث في أنماط المقاومة اليوميّة الّتي تتبنّاها المجتمعات الأصلانيّة في البلاد كآليّة صمود هامّة وتاريخيّة.

رابعًا: يُكمل هذا الكتاب النقاش حول نضال عرب النقب المستمرّ في سبيل الاعتراف بحقوقهم التاريخيّة منذ اتّفاقيّات أوسلو للسلام حتّى اليوم. يركّز هذا القسم على قضيّة أهل النقب منذ سنوات التسعينيّات والمخطّطات الإسرائيليّة الحاليّة (المعروفة بمشروع «برافار») لترحيل نحو 40.000 فلسطينيّ عن أراضيهم وقراهم التاريخيّة، ويقدّم في هذا الخصوص مصدرًا مهمًّا حول تاريخ عرب النقب أصحاب الأرض، وسبل نضالهم ضدّ منظومة السيطرة الإسرائيليّة.

 

مقاومة الحكم العسكريّ الإسرائيليّ 

يقوم النصّ في البداية بالتّأسيس لقاعدة نظريّة، ويعرّف بالمفاهيم الرئيسة المستخدمة خلال الكتاب.

 يقدّم الفصل الأوّل مفاهيم علاقات القوّة بين الأقلّيّات الأصلانيّة والدول الاستعماريّة، الأمر الّذي سيساعد في شرح مفارقة القوّة، وتعطي هذه المقاربة أمثلة على أساليب المقاومة والنضال لدى أقلّيّات وشعوب أصلانيّة أخرى في العالم، بغيّة رؤية أيّ منها قد طُبّق في حالة عرب النّقب في نضالهم المستمرّ ضدّ منظومة الهيمنة حتّى اليوم. يجري هذا الفصل فحصًا نقديًّا لمفاهيم الأصلانيّة في المنظور الدوليّ والهويّة الفلسطينيّة ومدى مواءمتها للسياق، والهدف منها هو توسيع النقاش حول الأصلانيّة القانونيّة والحالة النقباويّة عن طريق طرح التساؤل التالي:" هل من الممكن اعتبار عرب النقب مجموعة أصلانيّة في النقب بموجب القانون الدوليّ وما هي إاشكاليّات هذا الطرح؟".

بينما يقدّم الفصل الثاني لمحة سريعة عن منظومة العشائر والدولة في الشرق الأوسط، ويركّز بعدها على تاريخ الحكم العثمانيّ في جنوب فلسطين خلال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ويفحص أيضًا علاقة العثمانيّين مع عرب النقب في جنوب فلسطين، مركِّزًا بالأساس على أساليب الحكم الّتي اتّبعها العثمانيّون للسيطرة على هذة المنطقة الحدوديّة والمركزيّة. أسلّط الضوء في هذا الفصل على تحدّي عرب قضاء بئر السبع السياسات العثمانيّة القمعيّة ومقاومتها. ويعتبر تشييد مدينة بئر السبع بوصفها رمزًا للحكم العثمانيّ في الصحراء محوريًّا في هذا الفصل، إضافة إلى علاقتها مع مدن غزة، الخليل والقدس. بيّن هذا الفصل دور العشائر في إدارة مدينة بئر السبع وأيضًا بناء البيوت الفلسطينيّة في المدينة، ودور صحيفة الصحراء المصوّرة الّتي صدرت في المدينة آنذاك.

يجري الكتاب فحصًا نقديًّا لمفاهيم الأصلانيّة في المنظور الدوليّ والهويّة الفلسطينيّة ومدى مواءمتها للسياق، والهدف منها هو توسيع النقاش حول الأصلانيّة القانونيّة والحالة النقباويّة

يتطرّق الفصل الثالث إلى العلاقات البريطانيّة الاستعماريّة مع أهل جنوب فلسطين ويقارنها مع وضع مجتمعات بدويّة أخرى في المنطقة (منطقة شرق الأردن وسيناء بشكلٍ أساسيّ)، ويولي هذا الفصل اهتمامًا خاصًّا للنقاش الدائر حول السياسات الّتي تعاملت بها الدولة المستعمِرة مع ملكيّة البدو للأراضي، ويتناول المحاكم الإقليميّة بين شرق الأردن، سيناء وبئر السبع. إضافة إلى ذلك، يعطي هذا الفصل تركيزًا كبيرًا لمنظومة الشرطة الفلسطينيّة الاستعماريّة، وذلك ما يسلّط الضوء أيضًا على الدور الفعّال للبدو في المؤسّسات الفلسطينيّة في القدس، غزّة ويافا، وعدم انقطاعهم عن بقيّة الشعب الفلسطينيّ. يؤرّخ الفصل كذلك لبعض جوانب التاريخ الاجتماعيّ للعائلات الفلسطينيّة الّتي قَدِمَتْ من غزّة، المجدل، القدس، الخليل، نابلس وبيت لحم للاستقرار في مدينة بئر السبع. أمّا الفصل الرابع، فيقدّم سردًا تاريخيًّا معمّقًا لأطماع الحركة الصهيونيّة في جنوب فلسطين ومنطقة النقب مرورًا بنكبة مدينة بئر السبع وتهجير أهلها عام 1948.

في حين يتناول الفصل الخامس تأسيس منظومة الحكم العسكريّ الإسرائيليّ في الفترة الواقعة بين 1948 و1950 بوصفه نظام سيطرة على الأقلّيّة العربيّة الفلسطينيّة. ومن خلال التركيز على منطقة النقب وأيضًا قرى المثلّث والجليل، يكشف الفصل عن علاقة إسرائيل المعقّدة مع السكّان الأصلانيّين خلال سنواتها الأولى من خلال محاولة فهم منظومة الحكم العسكريّ كأداة استعماريّة للسيطرة على الأصلانيّين. أقوم في هذا الفصل بفحص الأيّام الأولى للحكم العسكريّ، بالإضافة إلى سلسلة من أولى السياسات الإسرائيليّة في التعامل مع العشائر الباقية في أراضيها بعد النكبة ومحاولة إعادة تشكيل البنية العشائريّة من جديد.

يتناول الفصل السادس الآليات التي انهتجتها إسرائيل لإعادة تشكيل وهندسة بنية هذه العشائر العربيّة ومستقبلها، فقد حاول الحكم العسكريّ أن يسيطر على عرب النقب من خلال تأطيرهم ضمن نظام قبليّ جديد، ومن خلال اللجوء إلى حِيلٍ قانونيّة عديدة بغية قمعهم ومصادرة أراضيهم.

 

الممارسات الاستعماريّة حتّى «مشروع برافر»

يدّعي هذا الفصل بأنّ السياسات الرئيسيّة الّتي طُبّقت على عرب النقب في بداية الخمسينيّات بعد أن تمّ حصرهم في منطقة عسكريّة مغلقة - المصطلح العربيّ لها هو «السياج» أو «منطقة الحكم العسكريّ» - قد تضمّنت فصل العشائر النقباويّة عن بقيّة الفلسطينيّين في إسرائيل ومحاولة  الإبقاء على الموالين منهم، طرد العشائر البدويّة من غربيّ  وشماليّ النقب نحو منطقة السياج الصحراويّة، تعيين مخاتير ومشايخ جدد ومصادرة الأراضي في النقب عن طريق سنّ العديد من القوانين وسياسات التسجيل. وعلى سبيل المثال، تتناول التقارير الأرشيفيّة في «الأمم المتحدة» حقوق البدو كحقوق مجتمع أصلانيّ وكلاجئين أيضًا.

يقيّم الفصل السابع بقاء وصمود العرب في النقب تحت الحكم العسكريّ وعلاقة المحسوبيّة الّتي نمت بين شيوخ العشائر والمسؤولين الإسرائيليّين، كما يسلّط الضوء على سياسات إسرائيل في اختيار المخاتير عن طريق اختبار سياسة الأراضي المؤجّرة ودورها في توفير تصاريح السفر لأبناء العشائر. وأفحص هنا الأساليب المستخدمة من قبل مشايخ النقب لمقاومة الحكم العسكريّ من خلال عدم التعاون مع هذه المنظومة الكولونياليّة الصارمة والتعسّفيّة. وعلى صعيدٍ آخر، ثمّة موضوع آخر مهمّ يتعلّق بالعلاقات عبر الحدود كآليّة انتهجها عرب النقب للبقاء في أراضيهم والتواصل مع العشائر الّتي هُجِّرَتْ قسريًّا.

يتناول الفصل الثامن المرحلة الثانية من الحكم العسكريّ الإسرائيلي من العام 1956 إلى العام 1963، ويتحرّى السياسات المعدّلة الّتي قدّمها الحكم العسكريّ بعد العام 1956، كما يشرح المسائل الرئيسيّة في هذه المرحلة الّتي تلت «مجزرة كفر قاسم»، والنقاش بالغ الأهمّيّة حول مطالبة عرب النقب بالأراضي. يدّعي هذا الفصل بأنّ أصوات البدو كانت راسخة وواضحة بالمطالبة بأراضيهم، وبحقّ العودة لأراضيهم ولقراهم التاريخيّة.

يحاجج الكتاب أنّه على الرغم من الإعلان الرسميّ في السادس من تشرين الثاني لعام 1966 بانتهاء الحكم العسكريّ، إلّا أن ديناميكيّاته قد استمرّت، وأنّ وظائفه استُبْدِلَتْ بأجهزة دولة أخرى، والّتي مثّلت شكلَا جديدًا للسيطرة العسكريّة على عرب النقب...

يتمحور الفصل التاسع حول الخطط الإسرائيليّة لتوطين عرب النقب قسريًّا في مراكز حضريّة، ويفحص كيف قاوم أهل النقب هذه المخطّطات بوصفها آلية سيطرة على أراضيهم. يستطلع هذا الفصل أيضًا المراحل الأخيرة للحكم العسكريّ والإعلان عن نهايته الرسميّة في عام ١٩٦٧. وقضيّة أخرى ذات أهمّيّة هنا هي البناء غير المخطّط من قِبل عرب النقب لإثبات ملكيّتهم لأراضيهم (كأحد أهم جوانب الصمود) وتصاعد حملات المطالبة بأراضيهم. ويحاجج أيَضًا أنّه على الرغم من الإعلان الرسميّ في السادس من تشرين الثاني لعام 1966 بانتهاء الحكم العسكريّ، إلّا أن ديناميكيّاته قد استمرّت لعدّة سنين تالية، وأنّ وظائفه استُبْدِلَتْ بأجهزة دولة أخرى، والّتي مثّلت بدورها شكلَا جديدًا للسيطرة العسكريّة على عرب النقب. كما أحاجج بأنّ التشريعات العسكريّة قد انتهت أخيرًا فقط بعد حرب العام 1967 وليس في العام 1966، أي أنّ الحكم العسكريّ ونظام التصاريح انتهى فعليًّا في أواخر 1967.

يعالج الفصل العاشر عهد ما بعد الحكم العسكريّ ويفحص البُنى الجديدة وأذرعة الحكم لتشجيع البدويّة الاستيطان القسريّ، ويناقش الديناميكيّات الحاليّة بين السلطات الإسرائيليّة وعرب النقب، خصوصًا «مشروع برافر»، وردّود فعل أهل النقب والداخل الفلسطينيّ على المشروع. ويحاجج بأنّ تدويل النضال النقباويّ، إلى جانب دعم المجتمع الفلسطينيّ الكامل في إسرائيل، قد أَحْبَطَ ترحيل البدو من قراهم التاريخيّة.

ويتناول هذا الفصل أيضًا الوضع النقباويّ منذ اتّفاقيات أوسلو والسنوات الأخيرة من النضال المستمرّ من أجل تحصيل الاعتراف بأراضيهم وقراهم التاريخية.

يختتم الكتاب بالبحث في أساليب المقاومة والنضال اليوميّة الّتي انتهجها عرب النقب وبئر السبع ضدّ الحكم العسكريّ، ويمثّل الفصل مساهمة في مجال نضال الشعوب القوميّة ضدّ المنظومات الاستيطانيّة. ويتطرّق هذا الفصل أيضًا إلى الوضع الراهن لعرب النقب وبئر السبع، ويُسلّط الضوء على سياسات النكران المستمرّ لحالات الملكيّة النقباويّة للأراضي في نظام القضاء الإسرائيليّ. كما يبرهن كيف يدعم الإنكار المستمرّ لحقوق عرب النقب الفكرة القائلة بأنّ الحكومة الإسرائيليّة لن تجلب العدالة للقضيّة النقباوية عبر نظام قضائيّ يستمرّ في تجاهل مطالب أهل النقب الشرعيّة، والاعتراف بحقوقهم وقراهم التاريخيّة الّتي اعترفت بها الخرائط العثمانيّة والبريطانيّة بشكل واضح.

 


إحالات

[1] يستخدم أهل النقب الأسماء التاريخيّة «بئر السبع» و«النقب» في الإشارة إلى منطقة جنوب فلسطين. استُخْدِمَت أيضًا أسماء تاريخيّة أخرى للإشارة إلى هذه المنطقة أهمّها كان «بلاد غزّة». وتبلغ مساحة النقب 12.577 كيلو متر مربّع، ممتدّة ما بين بئر السبع والعقبة، وهي مساحة تعادل نصف مساحة فلسطين التاريخيّة (Dabbagh 1965, 116-122). وكما ذُكِرَ في «معجم البلدان»، فقد كانت بئر السبع مقرّ القائد الإسلاميّ وحاكم مصر عمرو بن العاص، بين السنوات 658-664 الميلاديّة. وتظهر مسمّيات عديدة في وثائق الأرشيف البريطانيّ لهذه المنطقة مثل «Beersheba»، وهي التسمية المقابلة لـ «بئر السبع». الاسم العربّ التاريخيّ لهذه المنطقة، والّتي أطلِق عليها في نهاية الفترة العثمانية هو قضاء بئر السبع. سوف أستخدم في هذا الكتاب «بئر السبع»، «النقب» و«جنوب فلسطين» بشكل متبادل للإشارة إلى المنطقة الّتي سكنها بدو النقب وبئر السبع عبر القرون الأخيرة منذ حكم الدولة العثمانيّة وقبلها.


 

منصور النصاصرة

 

 

 

محاضر في «العلاقات الدوليّة والعلوم السياسيّة» في قسم «السياسة والحكم» في «جامعة بن غوريون» في بئر السبع. نشر العديد من الدراسات والكتب منها: «بدو النقب وبئر السبع» (2018)، «دراسات المدن في الشرق الأوسط» (2019)، «بدو النقب والكولونياليّة» (2015).

 

 

التعليقات