08/05/2022 - 23:17

الطفل الّذي شتم السجّانة يوم العيد... ومشاهد أخرى

الطفل الّذي شتم السجّانة يوم العيد... ومشاهد أخرى

Fred Dunn

 

حين تكون تجربة السجن واقعًا يوميًّا يلازمك بكلّ التفاصيل الحياتيّة، في تخطيط برامجك واحتفالاتك وسفرك، وفي قبولك للعمل واختيار نوع عملك ومكانه، وحتّى في تخطيط يوم عطلتك، ويرافقك كالمتلازمة في أحزانك وأتراحك وأيّام العيد... تتعلّم أن تطوّر آليّات في التعامل والتحدّي والمقاومة؛ مقاومة القهر واليأس وعدم الاستسلام له، والبحث المستمرّ عن مقوّمات الحياة ومعالم الفرح، وإن كانت داخل السجن. حينئذٍ يصبح التحدّي سيّد الموقف؛ تحدّي القهر والحزن والضعف واليأس؛ تحدّي كلّ ما هو سلبيّ، والصمود والاستمرار.

بعض هذه اللحظات من تحدّي منظومة القهر هو يوم العيد في السجن، وكيف يتحوّل يوم العيد والدقائق الإضافيّة المتاحة ’أحيانًا‘ إلى معركة إضافيّة يخوضها الأسرى وعائلاتهم، مقابل مصلحة السجون وأنظمتها القمعيّة.

 

15 دقيقة زيادة

تتيح تعليمات السجن وأنظمته إضافة خمس عشرة دقيقة إلى الزيارة العاديّة، فقط إذا صادف يوم الزيارة يوم عيد. والأمر يقع ضمن صلاحيّات مدير السجن، وما يسمّونه ’رفاهيّات‘ يمكن إلغاؤها إن قرّروا ذلك، نوعًا من أنواع العقوبة أو التنغيص، كما فعلوا مع التعليم العالي وغيره من الأمور.

تتيح تعليمات السجن وأنظمته إضافة خمس عشرة دقيقة إلى الزيارة العاديّة، فقط إذا صادف يوم الزيارة يوم عيد. والأمر يقع ضمن صلاحيّات مدير السجن، وما يسمّونه ’رفاهيّات‘...

حارب أهالي الأسرى من أجل زيادة الـخمس عشرة الدقيقة المسموح بها يوم العيد، تضاف إلى الـخمس وأربعين مدّة الزيارة المتاحة للأسير. عمليًّا تشكّل هذه الزيادة ما مقداره زيادة ثلث الوقت الكلّيّ المتاح لزيارة الأسير، الّتي تجري مرّة كلّ أسبوعين. في السجن وحياة الأسر، رغم تشابه الأيّام، إلّا أنّه حين الحديث عن لقاء الأهل فإنّ كلّ دقيقة لها قيمة، ويمكن أن تخوض من أجل تحصيلها معركة.

 

هذه الزيادة إذا حصلت فهي زيادة نوعيّة لا زيادة كمّيّة فقط؛ فالأسير يبني وقته ونظامه بين الزيارتين، ويتحضّر للزيارة أيّامًا قبلها، فإن صادف يوم الزيارة أيّام الأحد كما في «سجن الجلبوّع»، كما خبّرني زوجي أمير، تبدأ التحضيرات، تُغْسَل بدلة السجن وتُجَهَّز (يلبس الأسرى أثناء الزيارة البدلة البنّيّة الّتي تميّز الأسرى السياسيّين من المساجين الجنائيّين بالبدلة البرتقاليّة اللون)، ويليها قصّ الشعر وتهذيب الذقن والشوارب إن وُجِدَتْ، والحلّاق طبعًا هو أحد الأسرى. يبدأ هذا التحضير من يوم الخميس، ومن ثَمّ التعطّر يوم الزيارة، رغم أنّ رائحة العطر لا تصل إلى الطرف الآخر، لأنّ الزيارة تجري من خلف زجاج فاصل مضاعف، والصوت ينتقل عبر سمّاعة هاتف، وتتعطّل رائحة الشمّ عن العمل؛ إذ ينقل الزجاج الصورة، وتنقل السمّاعة الصوت، ويبقى العطر سجينًا خلف الزجاج، إلّا أنّ الأسرى رغم معرفتهم ذلك يتعطّرون، بل يباركون لبعضهم بعضًا قبل الزيارة وبعدها؛ فالزيارة هي بمنزلة ’الهديّة‘.

وأحيانًا تعرف هذه ’الهديّة‘ بالطريقة الصعبة، كما حدث معنا أنّه لا يحقّ لك الحصول عليها لأنّك ابن طائفة أخرى، فجأة نصير طوائف رغم أنّنا كلّنا مصنّفون ’أسرى أمنيّين وعائلاتهم‘.

دخلنا غرفة الزيارات فرحين بعيد الأضحى وباللقاء كمَنْ دخلوا معنا. وكنّا فرحين بزيادة الوقت ’هديّة العيد‘. لكنّ مسؤول الزيارات اهتمّ بأن ينغّص علينا فرحتنا، ويخبرنا بأنّه لا يحقّ لنا زيادة الوقت. انتهت الـ 45 دقيقة، وُقِّفَ عدّاد الزمن المعلّق على الحائط بلون أعداده الحمراء، وفُصِلَت الهواتف الّتي توصل الصوت من كلا الطرفين بين الأسير والعائلة، كان ذلك إلى حين خروجنا من غرفة الزيارات؛ لأنّ "زيادة العيد غير مُسْتَحَقَّة لنا"، هكذا قيل لنا. كان المنظر يشبه الطالب الّذي يُخْرَج من غرفة الصفّ أمام عيون رفاقه. لكنّنا لم نسمح لشعور القهر أن يغلب على اللقاء. ودّعنا الجميع بالابتسام والتحيّة والمباركة بالعيد، وتمنّيات الحرّيّة والفرج القريب، وخرجنا رافعي الرؤوس.

فهمنا (...) أنّه إذا صادف أن يكون الحديث عن عيد الأضحى أو الفطر، وكنت مسجّلًا لدى إدارة السجن أنّك ’مسيحيّ‘، وهو أمر لم تطلبه أنت (...) فلن تحظى بهذه الزيادة...

فهمنا يومذاك من التجربة أنّه إذا صادف أن يكون الحديث عن عيد الأضحى أو الفطر، وكنت مسجّلًا لدى إدارة السجن أنّك ’مسيحيّ‘، وهو أمر لم تطلبه أنت، بل هي واحدة من التصنيفات الإضافيّة الّتي تجريها «سلطة السجون»، فلن تحظى بهذه الزيادة، وتُخْرَج من قاعة الزيارات مع انتهاء الدقائق الـخمس وأربعين الأصليّة، وذلك إمعانًا في القهر والتفرقة.

 

لا تأخذ إدارة السجن، أو لا تريد أن تأخذ، بالاعتبار التكافل الاجتماعيّ والعادات والتقاليد والفرحة المشتركة، الّتي يتقاسمها الأسرى وأهاليهم، كما يتقاسمون الهمّ والحزن الجماعيّين. تعمل إدارة السجن بشكل فظّ على محاولة تقسيم داخليّ إضافيّة بين الأسرى، ولا يكفيها تقسيماتها لهم كفصائل، ومناطق ومجموعات (مواطنين، مقيمين...)، وقدس وضفّة، وغزّة. لكنّنا بوعينا لا نسمح للأمر أن يفرّقنا ويقسّمنا.

 

ساعة العيد

في غرفة الانتظار، جلس طفل لا تتعدّى سنّه الخامسة، ينتظر مع المنتظرين دخول غرفة الزيارات بعد إنهاء إجراءات الفحص الجسديّ. صادف يومها يوم عيد الفطر. كان الطفل منشغلًا بالنظر إلى معصم يده، الّذي كان يرتدي ساعة بدت جديدة وكبيرة على يده. لكنّه كان فرِحًا بها، يلوّح بيده في الهواء أمام أعيننا؛ ليلفت انتباهنا للساعة، ونجح في ذلك.

كانت السجّانة الّتي تفحص النساء قد وصلت، ودعت الوالدة الّتي ترافق الطفل للفحص الجسديّ، وانتبهت للساعة فقالت: ساعة ممنوع.

- بسّ هو بدّه يورجيها لأبوه، هديّة العيد.

- ممنوع.

- بسّ هو طفل، شو بدّه يخبّي يعني فيها.

- ممنوع.

- طيّب كيف إسّا بدّي أقولّه؟ هو فرحان فيها...

 

حاولت الوالدة بحزن أن تطلب من الطفل أن ينزل عن يده الساعة، فرفض وخبّأ يده تحت إبطه. قالت له: عندما نخرج من الزيارة تأخذها. رفض الطفل بشدّة، وقال إنّه يريد أن يريها لأبيه. حاولت الأمّ مجدّدًا دون فائدة. حاولنا نحن الحاضرين في الغرفة، أهالي الأسرى، دون فائدة.

اقتربت السجّانة من الطفل؛ محاوِلةً أن تتحدّث معه بعربيّة ركيكة كي يعطيها الساعة. رفض وصرخ في وجهها. ولمنع لمسها للطفل؛ حاولت الأمّ أخذها... بكى الطفل وصرخ وشتم السجّانة.

كانت المرّة الأولى الّتي أرى صمتًا وحزنًا مخلوطًا بابتسامة، لم يحاول أحد أن يقول للطفل: ممنوع الشتم.

عند خروجنا من غرفة الزيارات، أخذ الطفل ساعته، لبسها، وتأكّد أنّها سليمة، لكنّه استمرّ بشتم السجّانة.

 

كان ما حاولت السجّانة القيام به، بنظر الحاضرين، جريمة؛ فالساعة لم تشكّل خطرًا، بالإمكان كان تمرير جهاز الفحص عليها، والتأكّد من أنّها لا تحتوي ’قنبلة‘ ولا تشكّل ’خطرًا‘. لكنّ السجّانة صمّمت على نزعها من الطفل، ونزع فرحته وفرحتنا، وتنغيص الزيارة.

كان الأهل يحاولون دومًا أن يفصلوا بين ما يمرّون به أثناء الانتظار، ومن ثَمّ الفحص، ومن ثَمّ غرفة الانتظار مجدّدًا، وبين ما يحدث أثناء الزيارة عند رؤية الأسرى. وعمدنا بالعادة ألّا نشارك الأسير بالتنغيصات الّتي تحدث قبل الزيارة؛ كي لا ننغّص عليه فرحة اللقاء الّتي انتظرها طيلة أسبوعين أو شهر.

حاولنا جميعًا التخفيف عن الطفل سرقة ساعته، وتأكيد أنّه سيستلمها في أثناء الخروج، تحاججت مع السجّانة حول الأمر، لكن لا حياة لمَنْ تنادي؛ فهي كالأنظمة الّتي تطبّقها لا مجال فيها لأيّ نوع من الإنسانيّة، حتّى لو كان الحديث عن طفل.

عند خروجنا من غرفة الزيارات، أخذ الطفل ساعته، لبسها، وتأكّد أنّها سليمة، لكنّه استمرّ بشتم السجّانة.

                 

فصح اليهود

انطلقنا من حيفا باتّجاه «الجلبوّع» كعادتنا، وفي الوقت المعتاد. كانت اختناقات الطرق غير طبيعيّة. علقنا بالشارع المؤدّي من الجلمة لمجيدّو، وهو مسار طويل لا رجعة منه، يضاف إلى الحافلات العاديّة، الّتي نحاول الخروج مبكّرين عادة كي نتفادى السواقة خلفها، كانت حافلات المحتفلين بعيد الفصح تملأ الشوارع.

رغم أنّنا خرجنا مبكّرًا بسبب تقديم موعد الزيارة كما قيل لنا، لكن كان من الواضح لي أنّنا سنتأخّر. كلّ دقيقة حاسمة، حاولت الاتّصال بالعائلات كي يبلغوا أسراهم وهؤلاء يبلغون أميرًا – في حال نجاحنا في الوصول في الوقت المحدّد - أنّنا بخير، وأنّنا لم نصل بسبب اكتظاظ الشوارع لا لسوء حصل لنا؛ وهو الأمر الأصعب والأقسى على مَنْ هم في الداخل، وقد صادفناه خلال فترة الأسر مرّات عدّة؛ مرّة يوم احترق الكرمل في حيفا، ومرّة يوم صادف وجودنا في برشلونة، في الشارع ذاته الّذي حدث فيه حادث إرهابيّ. كنت أعرف ما يعنيه القلق للأسير على مصير أهله وسلامتهم.

وأخيرًا، وصلنا بتأخير عشرين دقيقة، وهو الوقت الّذي يكون فيه الأسرى قد دخلوا من البوّابة الخارجيّة للسجن، الّتي أُغْلِقَتْ، وبانتظار التفتيش الجسديّ في غرفة الانتظار الداخليّة. تنفّست الصعداء، سوق نلحّق الزيارة، سنكون آخر مَنْ يُفَتَّش. لكنّي تفاجأت بأنّي لم أجد أحدًا هناك؛ لا أسرى ولا سجّانين. طرقت الباب، وناديت بأعلى الصوت، لم يردّ أيٌّ منهم. لمحت السجّان الّذي يجلس في برج المراقبة. ناديته طالبة بأن يحضر أحد السجّانين ليفتح لنا، مرّ وقت حتّى حضر مسؤول الزيارات، شاحر، ليخبرني بأنّ الزيارات انتهت، وبأنّ فوج الزائرين الأخير قد خرج.

معنى هذا كان أنّنا لن نزور، أنّ الزيارة القادمة ستكون بعد أسبوعين. القلق الأكبر كان أنّ أميرًا لن يعرف أنّنا وصلنا؛ لأنّي لم أتمكّن من الحديث مع إحدى العائلات...

 

سألت: كيف هذا؟ يُفْتَرَض أن يكونوا في الداخل؟ قال: لا، أدخلناهم باكرًا لأنّنا في مساء عيد، ونعمل ساعات أقلّ. فجأة كلّ المماطلات الّتي يقومون بها أثناء الزيارة تختفي عندما يدور الأمر عن مصلحتهم.

طلبت أن يُسْمَح لنا بالزيارة؛ ففي النهاية حضرنا ضمن الوقت الّذي حُدِّدَ لنا مسبقًا. قال: حتّى لا يوجد سجّانات ليفتشنكن. والعادة أن تفتّش سجّانة امرأةٌ امرأةً، هكذا تتطلّب الإجراءات. قلت: لا أبالي؛ فليفتّشني رجل بجهاز التفتيش، أريد أن أدخل الزيارة. قال: ممنوع، لا يُسْمَح لنا.

فجأة تصير قوانينهم وتعليماتهم واضحة، لا يخترقونها ولا يكسرونها!

معنى هذا كان أنّنا لن نزور، أنّ الزيارة القادمة ستكون بعد أسبوعين. القلق الأكبر كان أنّ أميرًا لن يعرف أنّنا وصلنا؛ لأنّي لم أتمكّن من الحديث مع إحدى العائلات؛ إذ فهمت أنّهم كانوا وقتها بالزيارة، والهواتف تُتْرَك خارجًا حيث يُمْنَع إدخال أيّ جهاز حتّى ساعة اليد. معنى هذا أنّ أميرًا سيقلق، ويعتقد أنّ سوءًا حدث لنا. كان الهمّ الأكبر الآن أن أضمن أن يُخْبَر على الأقلّ بوصولنا سالمات.

طلبت من شاحر، وأكّدت ضرورة إعلام أمير أنّنا وصلنا، وأنّنا بخير، ونلتقي بالزيارة القادمة.

وعد بحصول ذلك، لكنّي بقيت قلقة. شعرت آنذاك بالتعب؛ بأنّي أحارب منظومة كاملة من سياسات القهر والقمع، المتمثّلة في النهاية بشخص سجّان ينفّذ الأوامر.

 


 

جنان عبده

 

 

محامية وفنانة تشكيليّة، من سكّان حيفا. ساهمت في تأسيس عدد من الأطر الأهليّة، ولها إسهامات بحثيّة. صدر لها كتاب «الجمعيّات النسائيّة والنسويّة الفلسطينيّة في مناطق 48» عن «مدى الكرمل». تنشط وتكتب عن قضايا الأسرى والمرأة.

 

 

التعليقات