02/05/2016 - 14:57

ابن خلدون الحداثيّ

تجلّت حداثة ابن خلدون في أطروحاته الاقتصاديّة الّتي لامست مفهوم الاقتصاد الحديث، فهو عدّ السّوق محرّكةً للنّشاط الاقتصاديّ قبل خمسة قرون من تبلور أسس نظام الرّأسماليّة الغربيّة، كما دعا إلى عدم تدخّل الدّولة في حياة النّاس الاقتصاديّة.

ابن خلدون الحداثيّ

لا نريد في هذه المقالة أن ندقّق في مسألةٍ واحدةٍ، أو أن نطرق جميع أبواب الفكر الخلدونيّ، إنّما هدفنا استقراء بعض المظاهر الحداثيّة الّتي أبدعها هذا المفكّر في عصره، وتردّدت أصداؤها في العصور اللّاحقة، فالعديد من الدّراسات لا تزال قاصرةً عن فهم أدبيّاته والتّأصيل لمنهجيّته، فأين نجد أفكار الحداثة في ثنايا النّصّ الخلدونيّ؟ وهل يمكن القول إنّ ابن خلدون مفكّرٌ حداثيٌّ، بعد تجاوزنا مرحلة الإصلاح،  'النّهضة و الحداثة'؟

رائد العُمران

رغم أنّ الحداثة نمت في أوروبا بشكلٍ متسارعٍ منذ القرن السّادس عشر الميلاديّ، إلّا أنّ ترحال الثّقافات في بلدان حوض المتوسّط، كان العامل الأبرز في ذلك النّموّ ، فما النّظريّات الّتي طرحها  ابن خلدون  لتنتقل شرقًا وغربًا، سوى نموذجٍ أمثل لذلك التّرحال، فالرّجل وليد مرحلةٍ تميّزت بتزاحم  الأحداث السّياسيّة والتّغيّرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة في العالم العربيّ والإسلاميّ بعامّة، وشمال أفريقيا بخاصّة، خلال القرن الرّابع عشر الميلاديّ، وقد خاض تجربةً في حياته مكّنته من امتلاك ثقافةٍ سياسيّةٍ واجتماعيّةٍ واقتصاديّةٍ واسعةٍ، فبحث في أزمات المجتمعات ومشاكلها ليكتب أفكارًا جديدةً اختلفت عن كتابات المفكّرين التّقليديّين من قبله. كما أنّه حاول أن يقدّم حلولًا لبعض المشاكل الاجتماعيّة، انطلاقًا من تلك التّجارب الّتي عاشها،[1] فهو أقام بناءً علميًّا محكمًا جعل الكثير من المفكّرين المعاصرين يعتبرونه الرّائد الأوّل في  علم الاجتماع البشريّ. 

فكرة الدّولة

تبرز المظاهر الحداثيّة الخلودنيّة في آرائه و نظريّاته المستفيضة حول مسألة  'الدّولة والمُلك'، ليستخلص أفكارًا جاءت في مرحلة النّهضة والإصلاح، كنظريّات ميكافيلي في كتابه 'الأمير'، لا سيّما فيما يتعلّق بتحليلاته للبنية الاجتماعيّة لنظام الحكم والسّلطة. وبالرّغم من أنّه يلتقي مع مكيافيلي في آرائه حول الاستبداد ومنافسة الملك للرّعية في التّجارة، إلّا أنّ العالم الاجتماعيّ لودوفيج جمبلوفيتش، يؤكّد أسبقيّة ابن خلدون فيقول: 'إنّ فضل السّبق يرجع بحقّ إلى العلّامة الاجتماعيّ العربيّ، ابن خلدون، فيما يتعلّق بالنّصائح الّتي أسداها ميكافيلي للحكّام في كتابه، الأمير.'[2] فابن خلدون كتب للدّولة رغبةً منه في التّغيير، مشبّهًا تطوّر المجتمع بالكائن الحيّ، فظهور 'الدّولة' بالمعنى الحديث للكلمة، كان في القرن التّاسع عشر الميلاديّ،  لكن ابن خلدون تناول هذا المفهوم قبل ذلك بمدّةٍ طويلةٍ،  ليس مصطلح 'دولةٍ' من قبيل تداول السّلطة  فحسب، إنّما بإيراده المفهوم الحقيقيّ 'للدولة وقد تحدّث عن مظاهرها من عصبيّةٍ، واستبداد الحاكم، ومركزيّة الجهاز الإداريّ، وفرض الاحتكار الجبائيّ، والعنف الشّرعيّ من طرف صاحب الدّولة، كما أكّد على أهمّيّة الاجتماع والسّلطة في قيام كيان الدّولة، 'الاجتماع للبشر ضروريٌّ، وهو معنى العمران الّذي نتكلّم فيه، وإنّه لا بدّ في الاجتماع من وازعٍ حاكمٍ يرجعون إليه.'[3]

وفي إطار ذلك التّنظير المبكر، عَدَّ المؤرّخ محمّد الزّعبي نصوص المقدّمة، مصدرًا لعلم اجتماع الدّول النّامية اليوم، كما أنّ استمرار البنيات القروسطيّة تدلّ على أنّ فكر ابن خلدون وبيئته لا يزالان معيشين حتّى اليوم (البداوة، الاقتصاد الحضريّ والرّعويّ، الملكيّة المشاعيّة، العصبيّة الدّينيّة والطّائفيّة).[4] 

الاقتصاد السّياسيّ

 كذلك تجلّت حداثة ابن خلدون في أطروحاته الاقتصاديّة الّتي لامست مفهوم الاقتصاد الحديث، فهو عدّ السّوق محرّكةً  للنّشاط الاقتصاديّ قبل خمسة قرون من تبلور أسس نظام الرّأسماليّة الغربيّة، كما دعا إلى عدم تدخّل الدّولة في حياة النّاس الاقتصاديّة، وعدّ تدخّلها إفسادًا للمجتمع الحضريّ، كما عدّ العمل الإنسانيّ العنصر الرّئيسيّ الّذي يؤدّي لثراء الأمم، 'لا بدّ للرّزق من سعيٍ وعمل،'[5] وبيّن العلاقة المتينة بين العمران والصّنائع في قيام الحضارة، 'إنّ الصّنائع تكتمل بكمال العمران الحضريّ وكثرته،'[6] كذلك رأى أنّ الدّولة تلتجئ إلى الجباية وفرض السّلطة الاحتكاريّة زمن الأزمات، فتشتري الموادّ الزّراعيّة والصّناعيّة بأبخس الأثمان، وتبيعها بالغلاء دون مراعاةٍ لوضعيّة السّوق.[7]

ما طرحه ابن خلدون من آراء تخصّ هيمنة النّظام السّياسيّ على الاقتصاديّ، والاحتكار، وكساد السّلع والغلاء، كلّها مواضيع شغلت بال الاقتصاديّين الإصلاحيّين في أوروبا، كفرانسوا كيزناي وآدم سميث، اللّذين وضعا عديد القواعد الاقتصاديّة المشابهة لنظريّاته الّتي طرحها قبل خمسة قرون، وذلك جعل المفكّر الإيطاليّ استيفانوا كولوزيوا يقول: 'إنّ المفكّر العربيّ العظيم اكتشف مبادئ العدالة الاجتماعيّة والاقتصاد السّياسيّ، قبل كونسيدران وماركس وباكونين بخمسة قرون.'[8]

ليس دفعةً واحدة...

يمكننا القول ختامًا، إنّ ابن خلدون من عباقرة الفكر الإنسانيّ الّذين يزدادون لمعانًا كلّما ارتقى العقل البشريّ، وهو الرّجل الّذي عبّر عن بواكير الفكر الحداثيّ في زمانه، بما تمتّع به من وعيٍ وبُعدٍ في النّظر؛ فقد تبرعمت الكثير من المظاهر الحداثيّة في كتاباته، بدءًا من نظريّاته حول الدّولة والاقتصاد والمجتمع، إلى استشرافاته المستقبليّة، فهو كتب ليبني الدّولة، وطرح نظريّاتٍ اقتصاديّةً جاءت نفسها في مرحلة الإصلاح في أوروبا خلال القرن التّاسع عشر، ولولا ذلك البعد الحداثيّ، لما تكرّرت دعوات المفكّرين في العالم لاستنطاق فكره اليوم، وذلك إن دلّ على شيءٍ، إنّما يدلّ على أنّ الحداثة لم تنشأ دفعةً واحدةً، بل تطوّرت عبر الحقب والحضارات، بخلاف ما ألحّ على إثباته المستشرقون الغربيّون، أنّ الحداثة منتجٌ حضاريٌّ انفردت به الحضارة الغربيّة.

يمكن، بالتّالي، القول إنّ شخصيّة ابن خلدون وآراءه تمثّل منبعًا من ينابيع  الحداثة، وأصلًا من أصولها، وهو يكتسب بحقّ، لقب رائد العمران البشريّ، فلا تزال آراؤه مرجعًا لمفكّري الشّرق والغرب حتّى يومنا هذا.

* طالب ماجستير في معهد الدّوحة للدّراسات العليا، برنامج التّاريخ.

. حسين رشوان، علم الاجتماع بين ابن خلدون وأوجست كونت (الإسكندريّة: المكتب الجامعيّ الحديث، 2008)، 30 و 31.  [1]

. عمّار النّهار، 'الحقيقة المعتم عليها بين ابن خلدون وعمالقة الغرب، الباحثون 73، (2014). [2]

. عبد الرّحمن ابن خلدون، المقدّمة، تحقيق محمّد تامر، ط 1 (القاهرة: مكتبة الثّقافة الدّينيّة، 2005)، 243 .[3]

. صالح مشوش، علم العمران الخلدونيّ، ط 1 (واشنطن: المعهد العالّمي للفكر الإسلاميّ، 2012)، 132 و133.[4]

. ابن خلدون، ن.م.، 308.[5]

. ن.م.، 324. [6]

. الكبير بزّاوي، ندوة حول التّجارة في علاقتها بالمجتمع والدّولة عبر تاريخ المغرب. ج.1 (الدّار البيضاء: جامعة الحسن الثّاني، 1989)، 42.[7]

[8]. عبد الرّحمن ابن خلدون، المقدّمة، تحقيق وشرح عبدالله الدّوريش. ط 1. ج.1 (دمشق: دار يعرب، 2004)، 73.

 

التعليقات