08/12/2016 - 16:16

المثقّف الحقيقيّ: عن صادق جلال العظم

وقد يتساءل القارئ: لماذا أصرّ على نعته حصرًا بالمثقّف الحقيقيّ، بينما يمكن الاكتفاء بوصفه مفكّرًا؟ فذلك لأنّ المثقّف الحقيقيّ هو الذي ينفعل ويتفاعل بإيجابيّة مع الهمّ العامّ، ويساهم في إنتاج المعرفة وإعلاء شأن العقل، وهو ينشد الحقيقة لذاتها، أي لكونها تدفع وعينا للتعامل العقلانيّ مع شؤون واقعنا بما يضمن تجاوز رتابته وتحدّياته وعقده، دون أن يرجو من ورائها أيّ غاية نفعيّة أو مادّيّة.

المثقّف الحقيقيّ: عن صادق جلال العظم

صادق جلال العظم

تمامًا كما في عزّ شبابه وقمّة اندفاعه وعطائه، أي حينما عَدّه الكثيرون محرّكًا عالي الجودة في تقليب المياه الآسنة، ومثيرًا لعواصف النقد المشحون والمنازلات الفكريّة الصارمة، هكذا حاله اليوم وهو يتوسّد فراش الموت. إنّه المثقّف الحقيقيّ صادق جلال العظم، الذي تربّت أجيال كاملة على أدبيّاته الثوريّة؛ نقدًا ذاتيًّا بعد الهزيمة، ونقدًا للفكر الدينيّ، ودفاعًا عن المادّيّة والتاريخ، مرورًا بالاستشراق معكوسًا، ووصولًا لذهنّية التحريم. وقد استلهمت من معارفه وحججه وجرأته ضرورات التغيير والانتفاض على ترسّبات الثقافة السائدة، والبنى الاجتماعيّة التقليديّة.

منهج متماسك

ليس مهمًّا هنا موافقتنا أو معارضتنا لآرائه واستنتاجاته كافّة، بل المهمّ التزامه بمنهج بحثيّ علميّ متماسك، مكّنه من تسلّق قمم عسيرة، ليطلّ منها على مواقع كانت مستورة عن الاستدلال. لم يكن في قاموسه أمر مفهوم ضمنًا، أو مقدّس يأبى على التفكيك والنقد، ولم ينتظر رضى السلطان عنه وأفكاره، فيما هاجسه الأساس بقي منصبًّا على استجلاء الحقائق، وتحديد معيقات النهضة، وطرح البدائل التي تؤمّن النهوض للأمّة وتجاوز واقع تعاستها.

صادق جلال العظم، والذي أطلق جدلًا وحراكًا فكريًّا هائلًا في حينه، أوقعته فريسة للملاحقات الشعبويّة والمحاكمات المتعاقبة، لم يكترث بتاتًا لتبعات وأثمان مواقفه، وظلّ لصيقًا بمدرسته العقلانيّة اليساريّة. وخلافًا لغالبيّة رفاقه من المفكّرين الكبار، لم يقتحم سؤال النهضة وميدان نقد التراث حذو النعل بالنعل كما فعلوا، أي بالولوج لبنيته الداخليّة من بوّابة الموروث الفكريّ العربيّ الإسلاميّ برموزه وفضائه الدينيّ والتاريخيّ والاجتماعيّ، بل ظلّ متعلّقًا بشعار 'قتل القديم نقدًا وفكرًا'، انطلاقًا من نظرته الماركسيّة الأمميّة المتجدّدة المتجاوزة لخصوصيّة موروثنا الثقافيّة.

نيران الخصوم والأصدقاء

لعلّ هذا التفرّد المنهجيّ ما جعل من إسهاماته المعرفيّة، في العقدين الأخيرين، ذات طبيعة نخبويّة وأبقاها في هامش السياق العام للمشروع النهضويّ المتلاطم، وقد تكون هذه الخاصّيّة أيضًا هي التي اجتذبت نحوه نيران الخصوم من التيّارات الإسلاميّة، وكذلك النيران الصديقة لبعض المثقّفين المغرورين ممّن اشتعلت في صدورهم نار الغيرة والتنافس الهدّام، حيث شهدنا كيف قامت الدنيا ولم تقعد عندما تناول صاحبنا كتاب 'الاستشراق' لإدوارد سعيد، بالنقد والتقييم.

من المحزن، بل من المخزي، أن تتعرّض هذه القامة الثقافيّة، وهو على سرير الفراق، لفيض لا ينتهي من حملات التشفّي والإسفاف والكيديّة، نظرًا لمواقفه المعارضة للنظام وقراءته المغايرة للمحنة السوريّة، والتي، كما يبدو، شكّلت سببًا كافيًا لزندقته سياسيًّا، وعَدِّهِ خارجًا عن إجماع القبيلة القوميّة واليساريّة، فاستوجبت حكم الإقصاء والذبح. أقول ذلك على الرغم من تخالفي مع عناصر مهمّة في رؤيته الإقليميّة وقراءته للحرب الأهليّة ولمشهد الدمار الشامل في سورية، دون أن يحجب ذلك عنّي حقيقة هذا المفكّر المبدع وأفضاله وصولاته التنويريّة العميقة، ونموذجيّته الأخلاقيّة في حسن الإصغاء والمحاورة، وبتنويهه بمعارضيه حتّى، وبيده البيضاء وشخصيّته المتواضعة... تلك الصفات الرفيعة التي تخلو من نفوس هؤلاء المزاودين الصغار.

مثقّفان؛ سلطويّ ومعارض

وقد يتساءل القارئ: لماذا أصرّ على نعته حصرًا بالمثقّف الحقيقيّ، بينما يمكن الاكتفاء بوصفه مفكّرًا؟ فذلك لأنّ المثقّف الحقيقيّ هو الذي ينفعل ويتفاعل بإيجابيّة مع الهمّ العامّ، ويساهم في إنتاج المعرفة وإعلاء شأن العقل، وهو ينشد الحقيقة لذاتها، أي لكونها تدفع وعينا للتعامل العقلانيّ مع شؤون واقعنا بما يضمن تجاوز رتابته وتحدّياته وعقده، دون أن يرجو من ورائها أيّ غاية نفعيّة أو مادّيّة. ولكي أوضح مقصدي من وراء إصراري على  ذلك التعريف، لا بدّ من التفريق بين أنماط المثقّفين الوطنيّين التي قد تغيب عن أعين الكثيرين.

لقد رسخ في الذهن المجتمعيّ لحالتنا العربيّة نوعان من المثقّفين: الأوّل مثقّف سلطويّ متعاون ومدافع عن السلطة الغاشمة، يجيد استخدام 'عدّته المهنيّة' الماضية في التمويه والتحايل طورًا، وإفساد الثقافة وإشاعة الخنوع طورًا آخر، سعيًا إلى تحقيق وتأمين مكاسب انتفاعيّة. وفي المقابل، ثمّة المثقّف المعارض الواضح في ميوله ومواقفه الاجتماعيّة والسياسيّة والوطنيّة، الذي لا يألو جهدًا في التحريض وممارسة النقد اللاذع لتعسّف السلطة وأجهزتها، وتراه منحازًا بالكامل لجماهيره وأهدافها.

ولأنّ الفكر لا يمارس فعاليّته بمعزل كامل عن تأثيرات محيطه السياسيّة وتعسّفها، لا سيّما في ظلّ سطوة شبه مطلقة للثقافة الحزبيّة وأجهزة الدولة الأمنيّة، واستحواذ التحزّب الإيديولوجيّ على الممارسة النقديّة، فقد برز المثقّف الحزبيّ الكادريّ على المسرح الثقافيّ، نموذجًا رئيسيًّا بديلًا عن المثقّف النقديّ الحقيقيّ، وهنا مربط الفرس، حيث لم يعد مقبولًا علينا تفسير الاختلافات والخلافات الناشئة في معسكر المثقّفين الوطنيّين على أنّها مجرّد تعارضات اجتهاديّة مشروعة، تعكس حيويّة الفكر وفعاليّة البيئة الثقافيّة التي ينشط في كنفها هؤلاء.  

مثقّفو المعارضة الوطنيّون: مستويان

لهذا، وكما هو الحال في التشخيص الطبّيّ التفريقيّ القادر على التعرّف إلى حقيقة مرض محدّد يتشارك مع غيره من الأمراض المحتملة بنفس الأعراض، ينبغي لنا أن نميّز بين مستويين اثنين لمثقّفي المعارضة الوطنيّين: فالأوّل، وعلى الرغم من يقظته الفكريّة ودفعه لتحدّي السلطة وإسهامه في التعبئة الجماهيريّة والتنوير، إلّا أنّه يذوّت في وعيه الداخليّ نفس المقولات السلطويّة الثابتة حول أحقّيّتها، واحترام تراتبيّتها وهيبتها، ويتقاطع مع منطقها العامّ من حيث اعتباره لثوابته ورؤيته وكأنّها حقائق مطلقة. ممثّلو هذا النمط غالبًا ما يحسبون على المثقّف الكادريّ، صاحب الخطاب القطعيّ المنغلق، ما قد يجعله، دونما دراية أو قصد، مثقّفًا منتجًا للخطاب السلطويّ، وفق لوصف المفكّر الراحل نصر حامد أبو زيد. أمّا المستوى الثاني من المثقّف المعارض، فهو منتج للمعرفة وينشدها لذاتها، بعيدًا عن التوظيف التبريريّ والنفعيّ، فيتميّز خطابه بالانفتاح والقابليّة العالية للمراجعة والتجدّد.

في طليعتهم

هذا التفريق في أنماط المثقّف المعارض الذي أوردناه، قد يسعفنا في فهم أسباب وآليّات تحوّل المثقّف الوطنيّ المعارض، وبتلك السهولة أحيانًا، إلى الموقع المضادّ لما كان يروّج له، ويكشف لنا كيف يمكن له أن ينخرط فعليًّا في ممارسة سياسة القمع والطائفيّة، أو التنظير والدفاع عنها.

من هذه الزاوية، واستنادًا لذلك التوصيف، فلا شكّ أنّ صادق جلال العظم ينتمي لفئة المثقّفين الحقيقيّين، بل يقع في طليعتهم، وسيبقى في نظرنا، نحن الذين تنقّحت قريحتنا السياسيّة والوطنيّة والفكريّة بتأثير بائن من آرائه،  مفكّرًا عملاقًا جريئًا، وأحد منارات الثقافة النقديّة العلميّة التي نعتزّ بها. وله نردّد على نسق شاعرنا مظفّر النوّاب: إن كنت حيًّا في قبر، أو حيًّا في سجن، فأنت بيننا ثورة عارمة. 

 

عمر سعيد

 

من قرية كفر كنّا شمال فلسطين. سجين سياسيّ محرّر وأحد مؤسّسي حركة أبناء البلد والتجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ. مهتمّ بنقد الموروث الفكريّ الإسلاميّ وموضوعة النهضة. باحث مختصّ في علم الأدوية والعقاقير؛ حاصل على لقب دكتور من معهد العلوم التطبيقيّة 'التخنيون' بحيفا، وله إسهامات في عالم الطبّ النباتيّ وتطوير الموروث الطبّيّ العربيّ الإسلاميّ. له عشرات الأبحاث العلميّة، كما أصدر كتابًا مرجعيًّا مع بروفسور بشّار سعد حول الطبّ العربيّ الإسلاميّ، عنوانه: 'Greco-Arab and Islamic Herbal Medicine' عن دار" وايلي أند سانز" العالميّة.

التعليقات